رام الله: يظهر "تقرير (مدار) الإستراتيجي للعام 2023 - المشهد الإسرائيلي 2022" أن حكومة أقصى اليمين التي شكّلها نتنياهو، تنذر بآثار إستراتيجية على الشعب الفلسطيني وقضيته، وتضع إسرائيل داخلياً أمام منعطف غير مسبوق سيؤثر على وجهتها، فهي تنطوي بتشكيلتها وخططها المطروحة وتوزيع الأدوار داخلها، على إمكانية كبيرة لتفَجُّر الأوضاع الميدانية على جانبي الخط الأخضر، وتدفع إلى انتقال إسرائيل من مرحلة المناورة في ما يتعلق بخطاب "حل الدولتين" إلى مرحلة شطبه لصالح خطاب السيادة على ما يسمى "أرض إسرائيل"، والضم بحكم الأمر الواقع للمناطق المصنفة "ج" والانقضاض على الوجود الفلسطيني فيها، وتعزيز التهويد والاستيطان في القدس وعلى جانبي الخط الاخضر.
ويضيف التقرير الذي تعدّه نخبة من المختصين في الشأن الإسرائيلي وأعلن عنه "مدار" في مؤتمره السنوي في رام الله يوم الاثنين (20/2/2023) أن نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في 1 تشرين الثاني حسمت الأزمة الانتخابية التي عصفت بإسرائيل منذ 2019 لصالح معسكر بنيامين نتنياهو الذي حصل على 64 مقعداً في الكنيست، وشكّل ما يمكن تسميته "حكومة أرض إسرائيل"، على أنقاض "حكومة التغيير" التي فشل رهانها على إمكانية "الحكم بدون سياسة"، لتكشف تجربتها عن استحالة الفصل بين الاحتلال والقضايا القومية والقضايا الداخلية الحزبية، وتسفر عن إضعاف اليسار مقابل تصليب تيارات اليمين العقائدي والمتطرف.
يقول التقرير: في المقابل، تخوض حكومة نتنياهو الجديدة ومنذ البداية معركة متكاملة لفرض هيمنتها الشاملة عبر تفكيك بقايا معاقل النخب الاشكنازية العلمانية المؤسسة، وتشكل خطة ياريف لافين للإصلاح القضائي أداة مركزية من أجل تحرير الحكومة من أي كوابح وضوابط يمكن أن تحدّ من قدرتها على إنفاذ ما تراه من مشاريع وخطط وسياسات.
انعكاسات دولية
وتناول التقرير الشأن الدولي، معتبراً أن سياسات "حكومة أرض إسرائيل" تجاه الشعب الفلسطيني وتجاه النظام القضائي الداخلي قد تدفع نحو رفع غطاء "الديمقراطية" عنها أو على الأقل إلى خلخلته، إلى جانب دفع مزيد من المؤسسات الحقوقية والأطراف الدولية إلى اعتبارها نظام أبارتهايد، ما سيزيد فرص الفلسطينيين بكسب مزيد من التأييد العالمي، حيث سيتعقّد موقف الأنظمة الغربية التي تبرر دعمها لإسرائيل ومواقفها منها على أساس تقاسم "القيم المشتركة وقيم الديمقراطية"، ويتعمق الشرخ مع يهود الولايات المتحدة والحزب الديمقراطي الأميركي خاصة بين فئة الشباب، يأتي هذا كلّه بعد أن تبنت "حكومة التغيير" سياسة مزدوجة، تقوم من جهة على تبني لغة خطاب دبلوماسية بعيدة عن الفجاجة والاستفزاز، بينما واصلت - على مستوى الممارسة الفعلية المرتبطة بالاحتلال - في السير على خطى نتنياهو واليمين.
وذكّر التقرير بأن سياسة حكومة التغيير المذكورة سمحت بتحسين علاقات إسرائيل مع الدول الغربية، كما انعكست بعودة "مجلس الشراكة" المنبثق عن اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية بعد عقد من تجميده، وتصفية الأجواء مع الولايات المتحدة، وتوقيع وثيقة "إعلان القدس" التي عبرت عن التزام أميركي غير مشروط بأمن إسرائيل ومحاربة البرنامج النووي الإيراني والدفع نحو إعادة مكانة إسرائيل التقليدية في الولايات المتحدة كموضوع إجماع فوق حزبي، إلى جانب إعادة موضعة إسرائيل بعيداً عن اليمين الشعبوي العالمي الذي تعززت العلاقات معه خلال فترة حكم نتنياهو.
صعود اليمين المتطرف: خلفيات وتداعيات
واعتبر التقرير أن أهمية نتائج الانتخابات وما أفرزته من حكومة يمينية هي الأكثر تطرفاً وتديناً تكمن في ما تعكسه من تغيرات عميقة ديمغرافية واجتماعية وثقافية في المجتمع الإسرائيلي دفعت باتجاه انتقال دفة الحكم من ورثة الصهيونية المؤسسة إلى تحالف نخب لم تكن جزءاً فاعلاً في المشروع الصهيوني قبل 1948 أو كانت على هامشه، معتبراً أن حجم الاستقطاب وتعقيداته الإثنية والطبقية والاجتماعية والأيديولوجية، مرشح للتصعيد ويصعب تفكيكه حتى لو تمت تهدئته في الفترة القريبة.
وحلل التقرير صعود قوة تيارات اليمين المتطرفة، حيث حصل تحالف الصهيونية الدينية على 14 مقعداً، وتحول إلى ثاني أكبر قائمة في الائتلاف الحكومي والثالثة في الكنيست الإسرائيلي، منبهاً إلى أن أهمية ذلك تكمن في ثلاثة مستويات: أولاً: صعود قوة التيار
الحردلي وهو الأكثر تطرفاً في الصهيونية الاستيطانية، وثانيا: انتقال ثقل تمثيل الصهيونية الدينية الاستيطانية التي مرّت في صراعات داخلية متعددة في السنوات السابقة إلى التيار الحردلي وتحوله لممثل المستوطنين المركزي بعد فشل حزب البيت اليهودي في تجاوز نسبة الحسم، ما ينهي فترة صراع داخلي بين تيارات الصهيونية الدينية الاستيطانية على تمثيلها، وثالثًا: تطبيع التطرف، إذ تضم قائمة الصهيونية الدينية شخصيات من غلاة المتطرفين، ومنها من كانت موجودة على قوائم مراقبة جهاز الشرطة و"الشاباك".
الاحتلال خارج دائرة الاصطفاف الداخلي
ونبه التقرير إلى أنه فيما وضعت الاتفاقيات الائتلافية الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر بين فكي كماشة، حيث توزيع الصلاحيات المرتبطة بحياتهم بين حزبي "قوة يهودية" (الداخل والقدس) و"الصهيونية الدينية" (الضفة الغربية المحتلة)، فإن المعركة الحالية بين معسكر المعارضة الذي يقود الاحتجاجات ومعسكر أقصى اليمين الذي يشكل الحكومة تدور على القضايا الداخلية وعلى رأسها الخطة القضائية وسن فقرة التغلب التي تتيح للكنيست إعادة سن القوانين التي ترفضها المحكمة العليا بأغلبية 61 عضو كنيست، وتغيير تركيبة لجنة اختيار القضاة بما يتيح إعطاء الحكومة أغلبية في اتخاذ القرارات.
وشدد التقرير: يتوافق معسكر المعارضة والحكومة على المنطلق المركزي الأساسي للصهيونية حول الدولة اليهودية، ويختلفان على طابعها، إذ يرفع تيار المعارضة شعار "إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية" كما جاء في "قانون أساس: حرية الإنسان وكرامته" الذي سن العام 1992، فيما يرفع أقصى اليمين الجديد الذي يتصدر الحكم، اليوم، شعار "الدولة اليهودية القومية" كما عبر عنه قانون القومية.
وبذلك يخلص التقرير إلى أن التوافق على يهودية الدولة والفصل بين تغيير طابع الدولة والاحتلال يتيح لحكومة نتنياهو التحرر من أي ضغط داخلي تجاه تزحيف الضم وتعميق التفوق اليهودي على جانبي الخط الأخضر، ويشكل غطاء للتعامل الأمني والعسكري مع الفلسطينيين ما يجعلهم أكثر الجهات تضرراً. مع أخذ ذلك بعين الاعتبار، فإن تنفيذ خطة الإصلاح القضائي أو تنفيذ أجزاء منها سيدفع نحو تصاعد حركة الاحتجاج وتوسعها، ما سينطوي على انعكاسات مختلفة ستكون لها بالضرورة آثار على المسألة الفلسطينية وعلى فرص العمل الدبلوماسي والدولي.
نتنياهو محكوم للصهيونية الدينية الاستيطانية والكهانية
وختم التقرير: يعتمد استمرار وجود الائتلاف الحكومي على بقاء أحزابه كافة، ويتقاطع ذلك مع حاجة نتنياهو لتمرير خطة الإصلاح القضائي التي قد توفر له مخرجاً من محاكمته بقضايا فساد، وهو ما يعني أن نتنياهو سيعطي مساحة واسعة للصهيونية الدينية الاستيطانية والكهانية للعمل مقابل الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر من أجل استمرار وجود حكومته، ونظراً لما قد تترتب عليه سياسات الحكومة من تزايد النفور من إسرائيل وتوسع دوائر من يعتبرها أبارتهايد، واحتمال تفجر الأوضاع الميدانية خاصة في القدس المحتلة، فإن حكومته ستدفع في المدى القريب باتجاه محورة العمل الدبلوماسي حول "الخطر الإيراني"، وتكثيف استخدام ورقة "معاداة السامية" في مواجهة نقد إسرائيل، بموازاة ذلك تعزيز الاستثمار في العلاقات مع دول اليمين الشعبوي، وتعميق العلاقات مع الحزب الجمهوري والتيارات الأفنجيلية والمحافظة والدفع باتجاه توسيع دائرة التطبيع مع دول إفريقية وإسلامية وعربية جديدة، غير أن هذه التحركات والمساعي ستدفع بدورها إلى تعزيز الربط بين إسرائيل والتطرف ونحو اعتبارها نظام أبارتهايد.
يتضمن التقرير الذي يصدر عن مركز "مدار" سنويا، وتحرره المديرة العامة هنيدة غانم، إلى جانب الملخص التنفيذي فصولاً تتناول: إسرائيل والمسألة الفلسطينية، المشهد السياسي الحزبي، مشهد العلاقات الدولية، المشهد الأمني، المشهد الاقتصادي، المشهد الاجتماعي، الفلسطينيون في إسرائيل، وقد شارك في إنجاز فصول هذا العام (وفق ترتيب الفصول): هنيدة غانم، وليد حباس، عبد القادر بدوي، أنطوان شلحت، عاص أطرش، فادي نحاس وعرين هواري.