ينبع القلق من الاحتكار في سوق الإعلام الإسرائيلي لدى أوساط اكاديمية واجتماعية، من أن الشارع الإسرائيلي يتغذى عمليا بمعلوماته من وسائل الإعلام الإسرائيلية بسبب عامل اللغة، الذي يقتصر على إسرائيل وحدها. في حين أن الاستفادة من الإعلام العالمي بلغاته المتعددة، تبقى أمرا محدودا، لا يترك أثرا على صناعة الرأي العام الإسرائيلي. أضف إلى هذا، أن الدعاية الأساس التي تبثها الصهيونية، وفي صلبها التخويف والترهيب، تجعل الإسرائيلي لا يثق بما يأتي من الخارج.
القضية الأبرز التي طرحتها تقارير "ذي ماركر" هي العلاقة فوق العادة، التي تربط أصحاب أقلام إسرائيليين بحيتان المال وبالسياسيين، وتسخير كتاباتهم بما ينسجم من طبيعة تلك العلاقة، وهذا موجود تقريبا في جميع وسائل الإعلام، إن لم يكن كلها.
ويطرح الصحافي والكاتب ناتي توكير نماذج عديدة، مرفقة بأسماء صحافيين. مثلا، في صحيفة "يسرائيل هيوم"، يوجد كتّاب في خانة "صنّاع الرأي"، كانوا ذات يوم قريب محسوبين على معسكر اليسار الصهيوني، بينما هم اليوم من أبرز أبواق الدفاع المفتوح عن بنيامين نتنياهو وسياسته اليمينية المتشددة.
ويقول توكير إن هذا المثلث- المستثمرون والسياسيون والصحافيون- كان من المفترض أن يكون مثلثا متساوي الاضلاع، كي لا تقع وسائل الإعلام تحت سطوة وتأثير الآخرين، وكي تقوم بواجبها بشكل ناجح، وهو الانتقاد، والتحذير، وقيادة التغيير. ويكتب توكير: "إلا أنه في السنوات الأخيرة تم خرق هذا التوازن بين الجهات الثلاث، إن كان على المستوى العالمي، أو في إسرائيل. وقوة وسائل الإعلام أمام المستوى السياسي تتراجع باستمرار، وبدلا من أن تكون كلب الحراسة، الذي يهاجم قوة الآخرين، فقد تحولت الصحافة إلى أسيرة بيد أصحاب رأس المال والسياسيين".
ويتابع توكير كاتبا "إن كون وسائل الإعلام أسيرة بمدى كبير بأيدي المستوى السياسي، وأصحاب رأس المال، هو ظاهرة واضحة كثيرا في إسرائيل، بدءا من رأس الهرم الإداري في وسائل الإعلام، وصولا إلى آخر العاملين. وفي أعقاب هذا، تقل تدريجيا قدرة وسائل الإعلام، على الصمود في مواجهة التحديات. وفي أجهزة ودوائر عديدة، فإن الصحافيين الذين يحاولون المبادرة لتقارير وتحقيقات ضد جهات قوية يتم لجمهم، وبشكل عام بصورة غير مباشرة، ولاحقا يستوعب الصحافيون وجود جهات من الأفضل أن لا ينشغلوا بها، ولهذا فإن الصحافيين يفرضون على أنفسهم رقابة ذاتية".
ويضيف توكير أن "مبنى ملكية الجهات الكبرى في وسائل الإعلام التجارية في إسرائيل، يثبت إلى أي مدى الإعلام الإسرائيلي واقع في الأسر. ففي أقصى الهرم نجد العائلات الأكثر ثراء في إسرائيل، وتسيطر على وسائل الإعلام الكبرى. فهؤلاء هم الذين أقاموا بأموالهم وسائل الإعلام هذه، وسيطروا عليها، أو أنهم حصلوا عليها بالوراثة. وظاهريا، فإن ملكية كبار المستثمرين لوسائل الإعلام، من شأنها أن تجعل وسائل الإعلام أكثر استقلالية، إلا أن الصورة في الإعلام الإسرائيلي مختلفة كليا".
ويرى توكير أن توطيد العلاقة بين كبار أصحاب وسائل الإعلام بالسياسيين تم بشكل خاص في السنوات الأخيرة، في أعقاب تدهور الأوضاع الاقتصادية في وسائل الإعلام المختلفة. فالهبوط الحاد بنسبة 50% في مداخيل الصحافة المطبوعة في العقد الأخير، عمق أزمة الصحف، من جهة، وعمّق تعلقها بالسلطة الحاكمة. مثلا في اطار المنافسة على مداخيل الصحف من الإعلانات الحكومية، وبطبيعة الحال من الشركات الكبرى. ووسائل الإعلام الالكترونية التجارية غارقة في أزمات مالية، ومنها ما هو واقع تحت ضغوط كبار المستثمرين؛ وهي تواجه ضغوطا ناجمة عن تحركات تهدف إلى إجراء تغييرات إدارية، من خلال أنظمة سلطة البث الثانية، التي تشرف على البث الإعلامي، القائم على تراخيص للملكية الخاصة.
وتتركز الضربات الاقتصادية التي تلقتها وسائل الإعلام في عدة اتجاهات، أولها تشعب وسائل الإعلام، بمعنى أنه حتى مطلع سنوات التسعين، كانت حصة الأسد الكبرى، من ميزانيات الإعلانات التجارية أو الإعلانات الحكومية، تحصل عليها الصحف الورقية، حتى ظهرت القنوات التلفزيونية التجارية الثانية وتبعتها العاشرة، ثم الإذاعات التجارية، وكلها ذات تراخيص، من سلطة البث الثانية. ولاحقا بدأت تظهر مواقع الانترنت، وفي مرحلة لاحقة شبكات التواصل، وكل هذا جاء على حساب الصحف الورقية، التي تقلصت كثيرا، وقلصت بالتوازي أعداد العاملين فيها.
و
لكن ليس هذا فحسب، بل إن الضربة التي لم تكن أقل، كانت ظهور صحيفة "يسرائيل هيوم" المجانية، بملكية الثري شلدون إدلسون، صديق بنيامين نتنياهو، فهذه الصحيفة التي تمدد انتشارها تدريجيا من العام 2007 وحتى 2010 لتصبح في جميع أنحاء البلاد، شرعت تنافس على الإعلانات التجارية، بعد أن أظهر الاستطلاع الدوري، أنها باتت تزاحم "يديعوت أحرونوت" على رأس هوم الانتشار. ثم بدأت تأخذ حصة كبيرة من الإعلانات الحكومية. في حين وكضربة كماشة موازية، قررت حكومة نتنياهو السابقة في العام 2013 تقليص ميزانية الإعلانات الحكومية بقدر كبير.
وبالإمكان القول إن سلسلة الضربات هذه، كانت العامل الأساس للضربة القاصمة لصحيفة "معاريف". في حين تجدر الإشارة إلى أنه وفق سلسلة من التقارير، فإن صحيفة "يسرائيل هيوم" هي خاسرة ماليا، ومن يسدد الفواتير هو مالكها إدلسون، الذي تعد ثروته بمليارات كثيرة من الدولارات، ولن تؤثر عليه خسارة بضع عشرات ملايين الدولارات سنويا.
وقد يكون توكير يشير أيضا في هذا المجال إلى الأزمة المالية الخانقة التي عصفت بالقناة العاشرة للتلفزيون، التي برزت في انتقاداتها الحادة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي عمل في السنوات الثلاث الأخيرة مرارا، على عرقلة مخططات لإشفاء القناة ومنع اغلاقها. ولكن رويدا رويدا، ساهم نتنياهو من وراء الكواليس في إحداث تغييرات ادارية فيها، كان آخرها نجاح محاولته لتعيين أحد المقربين منه صديق عائلته، رامي سدان، ليكون رئيسا لإدارة قسم الاخبار فيها. وخرج هذا التعيين إلى حيز التنفيذ، رغم الاشكاليات في مؤهلات سدان ذات الشأن، ومدى ملاءمته للعطاء الذي نشر لإشغال المنصب، وتم رفع دعاوى ضد تعيينه.
ويقول البروفسور رافي مان، المؤرخ والباحث في سوق الإعلام، إنه لم تكن في أي مرحلة استقلالية كاملة لوسائل الإعلام، بشكل يسمح لها القيام بعملها بشكل كامل، على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية.
على الصحافيين أن يغيروا نهجهم
يقول رئيس تحرير مجلة "ذي ماركر" الشهرية، إيتان أفريئيل، في مقال افتتاحي لملف الصحافة، تحت عنوان: "على الصحافيين أن يتغيروا أيضا": "يجب الاعتراف: كلنا، بدرجة أقل أو أكثر، أولئك المقيدين بالسلاسل، فلا يوجد وسيلة إعلام، ولا صحافي، يقول دائما كل ما يريد قوله، أو ما يفكر به. إننا واقعون تحت أسر الضغوط الحكومية، والاعتبارات الاقتصادية، والواقع الاجتماعي، والخوف. الخوف من رد الفعل على ما نكتب أو نبث، الخوف من فقدان مكان العمل، مصدر الرزق، والخوف من العنف".
ويتابع أفريئيل "ولكن هذا يضر بالجمهور، إذ دلت أبحاث على أنه كلما تلقى الجمهور أخبارا وتحقيقات ذات جودة، وبالأساس عن السياسيين، وعن المستثمرين والروابط بينهم، يكون بقدرة الجمهور المشاركة أكثر في العملية الديمقراطية، كما أن مستوى الحرية الشخصية لديه ستكون أعلى. ولهذا، فإنه منذ اللحظة التي نتقبل بها مبدأ دقة الأخبار والتحقيقات، وتنوع المعلومات عن الجهات والأشخاص الذين يبلورون أجواء حياتنا، نكون قد حققنا شروط الديمقراطية. ولكن قيود وسائل الإعلام هي تهديد واضح، علينا الاعتراف بوجودها".
ويقول أفريئيل "نحن لا نستعرض هنا، قصة جديدة عن تهجمات رئيس الوزراء على وسائل إعلام، فلدى السياسيين يوجد دائما وسائل إعلام داعمة لكل واحد منهم، وأخرى تعارضهم. ونتنياهو لم يخترع هذا الواقع، فأيضا لسابقيه كانت شبكات علاقات مع الصحافيين، مثل إيهود أولمرت وصحيفة "يديعوت أحرونوت"، ولكن ما هو معروف بدرجة أقل، على مدى السنوات العشرين الماضية، هو أن الإعلام الإسرائيلي وقع في أسر حيتان المال".
وجاء أيضا في مقال أفريئيل أن المستثمرين "عوفر نمرودي ونوحي دانكنر واليعازر فيشمان وأودي أنجل وموزي فيرطهايمر وشاؤول ايلوفيتش ويتسحاق تشوفا وشلدون إدلسون، كانوا كلهم، ومن بينهم من ما يزال، مالكين لوسائل إعلام إسرائيلية. وهم لا يملكون وسائل الإعلام لغايات الربح، وإنما من أجل أن تكون لديهم قوة التأثير على مجريات الحياة العامة. ولكن بعد انهيار عدد من أصحاب رأس المال، وأيضا بفضل دعم حملة الاحتجاجات الشعبية، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية اليوم متحررة بدرجة أكثر من تأثيرات أصحاب رأس المال، مقارنة مع ما كان قبل سنوات".
لا وسائل إعلام مستقلة
ويقول المحلل والكاتب في صحيفة "ذي ماركر"، سامي بيرتس، إن على الجمهور أن ينسى وسائل إعلام رسمية خالية من توجهات سياسية وحزبية. وقد نشر مقالا، على خلفية محاولات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، عرقلة عمل الشركة الحكومية الجديدة للبث العام، حذر فيه من خطورة تدخل نتنياهو، بما سيلغي الهدف الأساس الذي وضعته الشركة وهو استبعاد السياسيين عنها..
يقول بيرتس "كان الاعتقاد بأن الشركة الحكومية الجديدة لسلطة البث، أمر يثير الحماسة، ويضمن جاذبية في سوق الإعلام. وتخيلنا بأنه من الممكن أن تكون سلطة بث عام ليست خاضعة للضغوط، ولا لأصحاب رأس المال وذوي المصالح، ومن دون سطوة حزبيين، وحتى أنها من الممكن أن تضمن استقرار عمل، تحت مظلة تمويل وزارة المالية. فالقانون لاقامة الشركة الحكومية للبث العام، تم سنّه بعد جهد كبير لوزير الإعلام السابق غلعاد إردان، رغما عما كان يريده نتنياهو. وكانت الوظيفتان الأساسيتان لهذا القانون: أولا، اقامة شركة حكومية جديدة، مع ثقافة ادارية مهنية. وثانيا، ابتعاد البث العام عن السياسيين. وفي العام الأخير يعمل القائمون على الشركة الحكومية الجديدة، لتحقيق الهدف الأول، وهم يجندون عاملين، وعاملين ذوي خبرة في اعداد البرامج، ويؤسسون مبنى تنظيميا جديدا، ويستأجرون مكاتب، ويشترون معدات، ويحاولون بناء شيء جديد. وقسم من اجراءاتهم تبدو مهنية وصحيحة، وقسم منها فيه اشكالية. والقسم الثاني، كان يبدو في الأيام الأخيرة ناجحا أكثر. فكما يبدو أن القانون ورغم كل المحاولات نجح في ابعاد السياسيين، رغم أن نتنياهو لم يكن راضيا إلى هذا الحد مما يجري، وأراد تأجيل بدء عمل الشركة الجديدة، وقبر المشروع عمليا".
ويضيف بيرتس "إن تحركات نتنياهو عرّضته لانتقادات في حكومته، بدءا من وزراء في حزبه، ثم وزراء من الكتل الأخرى، ومنهم وزير التعليم، ورئيس تحالف البيت اليهودي نفتالي بينيت، الذي فهم ان نتنياهو يتجه للسيطرة على وسيلة إعلام أخرى. وقال بينيت إنه فحص ووجد في الشركة الكثير من الأشخاص العاملين من اليمين، وأيضا الكثير من اليسار. وهذا يعني أن هناك من يفحص الهوية السياسية للعاملين هناك. وإذا كان هناك من هو بحاجة لإثبات أن شركة كهذه لا يمكنها أن تكون خالية من التأثيرات السياسية كليا، فها هو الاثبات لديه".
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, يديعوت أحرونوت, يسرائيل هيوم, رافي, بنيامين نتنياهو, نفتالي بينيت