لم تكن تصريحات رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، أمام المؤتمر الصهيوني العالمي المنعقد في القدس، يوم الثلاثاء الفائت، حول الربط بين المفتي الحاج أمين الحسيني ومخطط "الحل النهائي" الذي وضعه النازيون بقيادة أدولف هتلر لإبادة يهود أوروبا، عفوية أو لمجرد تشويه الحقائق التاريخية، وإنما هدفه من ذلك هو الربط بالواقع الراهن ونزع إنسانية الفلسطينيين، استمرارا لسياسته الرافضة لأي تسوية معهم.
وكشف نتنياهو عن نيته هذه بقوله، قبيل مغادرته إسرائيل متوجها إلى برلين، أمس، إن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، "يمجد شخصية المفتي"، وإن الكتب المدرسية الفلسطينية تصف المفتي بأنه "أبو الأمة"، واعتبر أن"'ثمة أهمية للاعتراف بالحقائق التاريخية وعدم تجاهلها، لا بالأمس ولا اليوم".
ويتعاون نتنياهو مع اليمين المتطرف والمستوطنين في السعي إلى تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، ويسمح لجماعات "الهيكل" باقتحام الحرم القدسي والإعلان عن مخططهم لبناء "الهيكل"، والتقسيم الزماني في الأقصى، حيث يمنع الفلسطينيون من الدخول إلى الحرم في أوقات تقتحم فيها الجماعات اليهودية المتطرفة الحرم.
وبرغم ذلك، يكرّر نتنياهو الادعاء بأنه لا يسعى إلى تغيير الوضع القائم في الحرم القدسي. وقال أمام المؤتمر الصهيوني العالمي، أول من أمس، "ليس فقط أنّنا لا نبحث عن تغيير ترتيبات الصلاة وغير الصلاة في جبل الهيكل (الحرم القدسي)، بل ولا ننوي أن نهدم المسجد الأقصى. هذا الادعاء بالذات ساخر وهزيل. وقد يكون مهزلة إن لم يكن تراجيديا".
وأضاف "قدِمَ جدّي إلى هذه البلاد سنة 1920، وبعد نزوله إلى البر بفترة قصيرة ذهب إلى مكتب (وزارة) الهجرة في يافا. وبعد بضعة أشهر تمّ حرقه على أيدي لصوص. والمعتدون قتلوا يهودا عديدين، من ضمنهم كاتبنا المشهور برينر. كان هذا الهجوم وغيره من الهجمات على الجماعات اليهودية في السنوات 1920، 1921، 1929، محرّضَا بواسطة دعوات مفتي القدس الحاج أمين الحسيني والذي تمّت ملاحقته بتهمة جرائم الحرب في محاكم نيرنبيرغ بسبب ضلوعه المركزي في تحديد معالم الحل النهائي. وسافر إلى برلين لأجل ذلك".
واختلق نتنياهو رواية تاريخية ونقاشا لم يجر بين المفتي وهتلر، مثلما أكد مؤرخون إسرائيليون.
وقال إنه "في ذلك الوقت لم يكن هتلر يريد إبادة اليهود - كان يريد طردهم. فذهب الحاج أمين الحسيني إلى هتلر وقال: ’إذا طردتهم سيأتون جميعًا إلى هنا (أي فلسطين)’. وسأل (هتلر) ’إذن ماذا يجب أن أفعل معهم؟’، فأجاب المفتي: ’إحرقهم’".
وزعم نتنياهو أنه "تمّت مقاضاة المفتي في محاكم نيرنبيرغ بتهمة الملاحقة. ونجح بالتملّص من براثن المحكمة ومات لاحقًا، بعد الحرب، في القاهرة جراء مرض السرطان. لكن هذا ما قاله الحاج أمين الحسيني. لقد قال: ’يسعى اليهود إلى تدمير جبل الهيكل’. هل جدي كان سنة 1920 يسعى إلى تدمير جبل الهيكل، آسف، المسجد الأقصى؟. بالتالي يبلغ عمر هذه الكذبة 100 عام. وقد حفّزت وحرّضت العديد من الهجمات. ويبقى جبل الهيكل واقفا مكانه. كما يبقى المسجد الأقصى مكانه. لكن الكذبة أيضا تبقى مكانها، بل وتستمر".
"تبرئة هتلـر"!
رأى السياسيون والمؤرخون ووسائل الإعلام في إسرائيل أن قول نتنياهو إن هتلر لم يكن يريد إبادة اليهود وإنما طردهم فقط، بمثابة تبرئة لهتلر من جريمة التخطيط المسبق لإبادة يهود أوروبا.
وطالب رئيس المعارضة، إسحق هرتسوغ، نتنياهو بالاعتذار عن أقواله والتراجع عنها، بينما أكد المؤرخون أنه لا توجد أي ذرة حقيقة تاريخية في أقوال نتنياهو.
فيما بعد، حاول نتنياهو الإيحاء بأنه يتراجع عن أقواله، فصرّح أمس "هذا عبث، لم تكن لدي أية نية لإعفاء هتلر من مسؤوليته الشيطانية عن إبادة يهود أوروبا. إن هتلر هو المسؤول عن الحل النهائي لإبادة ستة ملايين يهودي، وهو الذي اتخذ القرار".
لكنه في الوقت ذاته أضاف أنه "بالقدر نفسه، من العبث تجاهل الدور الذي أداه المفتي، الحاج أمين الحسيني، مجرم الحرب، والذي بتشجيعه وتحفيزه لهتلر وريبنتروب وهملر وآخرين، ساهم في إبادة يهود أوروبا".
وادعى نتنياهو أنه "توجد أدلة كثير على ذلك، وبضمنها شهادة أدلى بها نائب آيخمان خلال محاكمات نيرنبيرغ، بعد الحرب العالمية الثانية".
وأصر نتنياهو على فريته بالقول إن "المفتي أدى دورا في اتخاذ قرار إبادة يهود أوروبا. ولا يجوز تجاهل أهمية دوره. وكرر المفتي الاقتراح على السلطات التي كان على علاقة معها، وفي مقدمتهم هتلر، بإبادة يهود أوروبا. وقد رأى بذلك حلا مناسبا للمسألة الفلسطينية. وكان المفتي أحد المبادرين لإبادة يهود أوروبا المنهجية وكان شريكا ومستشارا لآيخمان وهتلر في تنفيذ هذه الخطة".
المؤرخون الإسرائيليون ينفون أقوال نتنياهو
أجمع المؤرخون الإسرائيليون البارزون على نفي أقوال نتنياهو.
وقالت المؤرخة الرئيسة لمؤسسة "يد فَشِيم" لتخليد ذكرى ضحايا المحرقة اليهود، البروفسور دينا بورات، إن "الأقوال التي أدلى بها نتنياهو تتنافى مع الحقائق. وهتلر لم يكن بحاجة إلى المفتي الحاج أمين الحسيني من أجل بلورة الحل النهائي وتنفيذه".
وأضافت بورات، التي أوردت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أقوالها اليوم، الخميس، أن "هواجسه (هتلر) تجاه الشعب اليهودي، وهلعه العميق منه، بدآ قبل فترة طويلة من اللقاء (مع المفتي) في تشرين الثاني 1941، وعمليا رافقه ذلك منذ الحرب العالمية الأولى، وخلال سنوات تأسيس الحزب النازي. وأعلن هتلر في 30 كانون الثاني 1939، في الرايخستاغ أنه إذا جرّ الشعب اليهودي العالم ثانية إلى حرب، فإن النتيجة ستكون انقراض العرق اليهودي في أوروبا".
وتابعت أن "هتلر أملى على الشعب الألماني في وصيته قبل انتحاره، بأن يستمر في الصراع ضد اليهودية العالمية. هكذا كانت كلماته الأخيرة، وإلى هذه الدرجة كان هاجسه قويا".
وادعت بورات أنه بموجب بروتوكول لقاء هتلر والمفتي، طلب المفتي أن يشمل "الحل النهائي" فلسطين والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، "أي أن يبيد اليهود في هذه المناطق، وهتلر وعده بمواصلة صراع شامل ضد اليهود".
وأردفت "لكن المفتي لم يكن المصدر للحل النهائي. فلقد وضعه هتلر وقيادة الحزب النازي، وشكلت النظرية العرقية والأيديولوجيا النازية الأساس لتنفيذه".
وأشارت بورات إلى أنه "ربما أراد رئيس الحكومة أن يبين استمرارية عداء عرب أرض إسرائيل (فلسطين) والفلسطينيين للمشروع الصهيوني واليهود في أرض إسرائيل... لكن أقوالا كهذه (رواية نتنياهو المختلقة) من شأنها التسبب بضرر كبير وإزاحة المسؤولية عن كاهل ألمانيا".
من جانبه، قال البروفسور موشيه تسيمرمان، من معهد دراسات التاريخ الألماني في الجامعة العبرية في القدس، إن أقوال نتنياهو ليست صحيحة من ناحية تاريخية وغايتها نزع الشرعية عن العرب.
وأضاف "نحن نعرف أن الحاج أمين الحسيني كان يؤيد إبادة اليهود. وكان هناك حضور ودعاية قوية بادر إليها، باللغة العربية، ضد اليهود وحلفائهم البريطانيين. لكنه لم يكن المبادر، ولم يتعين عليه أن يقنع هتلر بإبادة اليهود. لقد صعد إلى عربة هتلر، وليس هتلر صعد إلى عربته".
وأكد تسيمرمان أن "الغاية (من وراء أقوال نتنياهو) واضحة. فمن خلال بناء استمرارية ما من الحاج أمين الحسيني وحتى العرب في المناطق (المحتلة)، فإنك تنزع شرعية العربي لمجرد كونه عربيا".
اتهام نتنياهو باختلاق الحقائق
خصصت صحيفة "هآرتس" افتتاحية عددها الصادر اليوم للتعقيب على الرواية المختلقة لنتنياهو، وجاء فيها "إن استخدام السياسيين عندنا للمحرقة، لأهداف آنية، يقلل من مسؤولية النازيين وهتلر خصوصا، وهو استخفاف بذاكرة المحرقة".
واتهمت الصحيفة نتنياهو بالكذب: "يبدو أنه إذا لم تخدم الخلفية التاريخية الحقيقية التحريض السياسي، فإنه يتم اختلاق ’حقائق’ وسياقات. وأقوال نتنياهو بأن المفتي المقدسي هو الذي أوحى لهتلر بإبادة يهود أوروبا، هي خطأ مطلق".
كذلك اتهمت محللة الشؤون الحزبية في "يديعوت أحرونوت"، سيما كدمون، نتنياهو "بإعادة كتابة التاريخ"، وأن هذه ليست المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك.
وكتبت أن "القصة هذه المرة مختلفة. فالربط بين الفلسطينيين والمحرقة هو أمر ينطوي على إشكالية منذ بدايته، والأنكى من ذلك وجود خطأ في الحقائق. لا يجوز حدوث أمر كهذا، لا في التوقيت الحالي ولا في أي وقت آخر".
ورأت كدمون أن أقوال نتنياهو الكاذبة "تعيدنا إلى السنوات التسع لولايته في رئاسة الحكومة، وإلى السؤال الذي لا يمكن التهرب منه وهو كم من الأقوال التي أدلى بها خلال هذه السنوات كانت صادقة؟". وأشارت إلى أنه "ليس دائما يكون هناك من يعرف الحقائق، ويطلع على البروتوكولات، وموجود من أجل التصحيح والتدقيق والتوضيح" مثلما فعل المؤرخون المتخصصون بشؤون المحرقة الآن.