تصاعدت مؤخراً حدة "حروب العصابات" في إسرائيل فيما تقف الشرطة عاجزة وغير قادرة على لجمها. فقد شهدت الشوارع الإسرائيلية عشرين عملية اغتيال أو محاولة اغتيال في الشهور الأربعة الأخيرة، لكن الشرطة لم تنجح في حل ألغازها وإلقاء القبض على الجناة. وعلى ضوء ذلك، تصف وسائل الإعلام الإسرائيلية هذا الوضع بأنه "إرهاب جنائي"، وقال مراقب الدولة الإسرائيلي، القاضي يوسف شابيرا، أنه تسود إسرائيل "أجواء إرهابية ويخشى المواطنون الخروج من بيوتهم".
ونقلت صحيفة "هآرتس"، في تقرير حول تصاعد حروب العصابات نشرته يوم الاثنين الأخير، عن ضباط شرطة قولهم إن هناك عدة أسباب تصعب على الشرطة الوصول إلى المنظمات الإجرامية، بينها: تعيين ضباط غير مناسبين، إخفاقات مهنية، سلم أولويات غير ملائم، تغييرات في خريطة المنظمات الإجرامية وفرض عقوبات مخففة على المجرمين.
وكانت آخر عمليات اغتيال في سياق هذه الحروب قد وقعت يوم السبت قبل الماضي، وهي الثالثة في غضون أسبوعين، حيث قام مجهولون بإطلاق النار على ثائر لالا (26 عاما) عندما تواجد في منطقة المتنزه البحري في تل أبيب وأردوه قتيلاً، وهو مجرم من يافا معروف للشرطة. واعتقلت الشرطة أربعة مشبوهين بالضلوع في عملية الاغتيال هذه.
وأعلن قائد الشرطة في لواء تل أبيب، بنتسي ساو، في ختام مداولات لتقييم الوضع، أن الشرطة ستعزز قواتها من أجل محاربة الإجرام. وقال إن اغتيال لالا هو جزء من صراع متواصل بين المجرمين في يافا. وغداة اغتيال لالا ألقت الشرطة القبض على أربعة أشخاص من عائلته وضبطت مسدسا بحوزتهم. وتشير التقديرات إلى أنهم كانوا ذاهبين للانتقام لمقتل قريبهم.
وقبل اغتيال لالا بأسبوع تم اغتيال شخص، بتفجير سيارته، في جنوب تل أبيب. وأعلنت الشرطة حينها أن عملية الاغتيال هذه جاءت في إطار صراع بين منظمات إجرامية. وقبل ذلك بخمسة أيام قتل شخصان وأصيب ثلاثة آخرون بتفجير سيارة في مدينة بيتاح تكفا، وأعلنت الشرطة حينذاك أن الخلفية جنائية أيضا.
وتطرق المفتش العام للشرطة الإسرائيلية، يوحنان دانينو، غداة مقتل لالا، إلى سلسلة عمليات الاغتيال الطويلة، معلنا أن "الشرطة تتحمل مسؤولية محاربة هذه الظاهرة، وأنه يجب أن نتعامل معها على أنها مشكلة وطنية".وقال دانينو في مقابلة أجرتها معه القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي، إن معظم العبوات الناسفة التي تستخدم في حروب العصابات هي "بمواصفات عالية ومصدرها الجيش الإسرائيلي". وأضاف أنه لا يوجد ارتفاع ملحوظ في عدد عمليات الاغتيال قياسا بالأعوام الماضية وأن الشرطة تحبط أحداثا كهذه بصورة يومية "وأنا أتعامل مع مشكلة العبوات الناسفة التي تنفجر على أنها إرهاب بكل معنى الكلمة".
ورغم أن صحافيين إسرائيليين يرحبون بتصفية المجرمين بعضهم البعض، إلا أنهم يشيرون في السياق نفسه إلى أن المشكلة تكمن في أن المواطنين بدأوا يخافون هذه الحروب. فقد أصيب مواطن بجروح خلال محاولة اغتيال أحد المجرمين في تل أبيب. وقبل عدة سنوات قتلت امرأة كانت تجلس مع زوجها وطفليها في شاطئ البحر في تل أبيب خلال محاولة اغتيال مشابهة نجا منها هدف الاغتيال. كذلك فإن عمليات تفجير سيارات تقع بالقرب من مدارس ورياض أطفال وفي الشارع العام والأماكن العامة.
تعيين المقربين!
يحاول كبار ضباط الشرطة تهدئة روع الجمهور منذ مقتل لالا، بعد أن أثارت وسائل الإعلام الرأي العام الإسرائيلي بقوة حيال حروب العصابات في الشوارع. وظهر العديد من هؤلاء الضباط في البرامج التلفزيونية والإذاعية. ولفتت"هآرتس" إلى أن هؤلاء الضباط كرروا جملا، مثل "نحن نحل ألغاز 60%من عمليات القتل" وأن "الإعلام لا يتحدث عن عمليات الإحباط التي ننفذها" وأن "جميع المجرمين هربوا إلى خارج البلاد" وأن "هناك انخفاضا ملموسا في كمية الأحداث قياسا بالعام الماضي". لكن الصحيفة أشارت إلى أن جميع عمليات الاغتيال العشرين خلال الأربعة شهور الأخيرة لم يتم حلها ولم يتم القبض على الجناة.
ورغم أن الشرطة هي المسؤولة عن موجة الاغتيالات الأخيرة، لكنها تتحدث عن أن تصاعد حروب العصابات بهذا الشكل مرتبط بالعقوبات المخففة التي تفرضها المحاكم على المجرمين، كما أنها مرتبطة بقرار المجرمين أنفسهم بكسر القواعد.
إلا أن الصحيفة أشارت إلى سبب آخر يمنع الشرطة من لجم حروب العصابات هذه، وربما هناك عواقب أخرى لهذا السبب. فقد تفاخرت الشرطة بعملية تدوير مناصب جرت مؤخرا، وكانت الأكبر والأوسع من نوعها في تاريخ الجهاز. لكن الكثيرين من ضباط الشرطة، وخاصة أولئك الذين يعملون في مجال محاربة المنظمات الإجرامية والجريمة المنظمة، يوجهون انتقادات شديدة لهذه التعيينات، ويقولون إنها تنطوي على إشكالية من الناحية المهنية.
وقال أحد هؤلاء الضباط إن قيادة الشرطة "حاسبت أفراد الشرطة الميدانيين" من خلال عملية تدوير المناصب الأخيرة. ومثال على ذلك الحرب التي دارت بين الضباط في أعقاب اضطرار قائد وحدة التحقيقات والمباحث "لاهف433"، منشيه أرفيف، إلى الاستقالة في أعقاب شبهات حول تلقيه رشى من الحاخام يشياهو بينتو، المشتبه بدوره في أعمال غير قانونية في إسرائيل والولايات المتحدة. والمرشح لخلافة أرفيف في قيادة هذه الوحدة البالغة الأهمية هو رئيس شعبة السير في الشرطة، تشيكو إدري، الذي لا يعتبر ضابطا خبيرا في كل ما يتعلق بمجال التحقيقات والمباحث.وقال ضابط الشرطة التقاعد والمستشار السابق لمراقب الدولة، الدكتور مئير غلبواع، حول احتمال تعيين إدري، إنه "في الجيش لا يعينون قائد المدرعات قائدا لسلاح الجو. وهم يدركون أن هذه مهنة أخرى، لكن لم يستوعبوا ذلك في الشرطة".
وتسود تخوفات في صفوف ضباط شرطة من تعيين ضباط يفتقرون إلى الخبرة في الوحدة "لاهف 433". فقد تم مؤخرا تعيين الضابط يوءاف تيلم رئيسا للتحقيقات في الوحدة القطرية للتحقيقات الدولية، والتي تصفها الشرطة بأنها تشبه وحدة كوماندوس النخبة الإسرائيلية "سرية هيئة الأركان العام" التي تنفذ العمليات العسكرية الخاصة. وألمحت "هآرتس" إلى أن دانينو تعمد تعيين تيلم في المنصب رغم افتقاره للخبرة لأنه كان مساعده الخاص. وقال ضابط شرطة سابق إن "تعيين تيلم رئيسا لذراع التحقيقات، المسؤول عن محاربة كافة التنظيمات الإجرامية، هو إهمال. وواضح أن هذا التعيين نابع من قربه من دانينو".
وشدد الضابط على أن هذه ليست الحالة الوحيدة التي يتم فيها تعيين ضباط غير أكفاء لمحاربة الإجرام. وقال إن دانينو استبعد، وامتنع عن ترقية قادة الوحدات المركزية "يَمار"، وهي وحدات تحقيق ومباحث موجودة في كل لواء للشرطة وتعنى بالجرائم الخطيرة، مثل القتل والمنظمات الإجرامية والابتزاز والتهديد.
وقال الضابط نفسه إن عدم ترقية قادة وحدات"يمار" جاء "بقرار من دانينو بعدم ترقيتهم وإضعافهم. فهم رجال مباحث وتحقيقات منذ ولادتهم وليس معقولا ألا يكونوا رأس الحربة في هذه الحرب"ضد العصابات.
محققون شبان يخافون المجرمين
وتفيد التقارير الإسرائيلية بأن إحدى المشاكل المركزية لدى الشرطة تكمن في تحويل المعلومات الاستخباراتية إلى أدلة. وفي هذا السياق تحاول الشرطة ممارسة ضغوط على الحكومة من أجل سن قانون يسمح باستخدام المعلومات الاستخباراتية كأدلة في المحاكم. وقال قائد شعبة المباحث، غاي نير، إن "لدينا معلومات استخباراتية نوعية ونحن نعرف كيف نترجمها إلى أنشطة عملانية". وأضاف نير أن هذه المعلومات الاستخباراتية تستخدمها الشرطة من أجل القيام بعمليات استباقية لمنع جرائم ولكن لا تستخدمها من أجل اعتقال مجرمين أو تقديم لوائح اتهام ضدهم "تحسبا من كشف المصادر" التي تحصل الشرطة على المعلومات من خلالها.
لكن ضابط شرطة سابق أشار إلى أنه "يوجد موظفو تحقيقات اليوم. ففي السنوات الأخيرة ترصد الشرطة موارد لعمليات التصنت وجهودا تكنولوجية على حساب العمل الميداني. وقد فقد المحققون بذلك اتصالهم المباشر مع المحقق معه. والتكنولوجيا يجب أن تستكمل عملية التحقيق لكن ما يحدث هو أنها تحل مكانها وهكذا أصبح توفير الأدلة صعبا".
وأضاف الضابط أن المحققين ورجال المباحث كانوا يعملون في وحدات إقليمية قبل أن يترقوا ويعملوا في الوحدات القطرية. ويتذمر ضباط شرطة، اليوم، من أن هناك محققين الذين وصلوا إلى الوحدات القطرية بعد أن أنهوا دراستهم الجامعية مباشرة. وأشار الضابط إلى خطورة ذلك، قائلا إن أحد المحققين الشباب رفض مؤخرا التعريف عن نفسه وقول اسمه أمام زعيم تنظيم إجرامي لأنه خاف منه. وأضاف الضابط أن "محققا كهذا لن يتمكن من التحقيق مع المشتبه. والأدلة تصل من غرف التحقيق. وهؤلاء الشبان لا يعرفون المجرمين ولا لغتهم ولا كيف ينظرون إلى عيونهم من دون أن يرمش جفنهم. والتصنت يوفر معلومات كثيرة، لكن ينبغي معرفة ماذا سيفعلون بها، وهذا الأمر يتعلمونه في العمل الميداني".
من جهة ثانية، قال محققون مخضرمون إن المجرمين يعرفون جيدا القدرات التكنولوجية للشرطة وتعلموا كيف يتعاملون معها، وأن التعلق بهذه القدرات يمس بالقدرة على جمع أدلة ضد المجرمين. وقد أعطى زعيم ثاني أكبر عصابة في إسرائيل، شالوم دومراني، إثباتا على ذلك عندما قال لصحافيين خلال محاكمته"إنني أعرف بالضبط على أي هاتف يتنصتون عليّ وليس لديهم أي دليل ضدي".
"قضاة متسامحون"
قال أحد المحامين الجنائيين المعروفين في إسرائيل إن أحد أسباب تصاعد حروب العصابات يكمن في نجاح الشرطة بإدانة وسجن زعماء أكبر التنظيمات الإجرامية، مثل زئيف روزنشتاين ويتسحاق أبرجيل وآسي أبوتبول ويوسي موسلي، الأمر الذي أدى إلى بقاء الشوارع بدون "زعماء" واضطر نشطاء التنظيمات الإجرامية إلى الاهتمام بأنفسهم. كذلك أدى ذلك إلى تفكك منظمات إجرامية، مثل منظمة أبرجيل، إلى عصابات صغيرة مستقلة. وأضاف المحامي أن "هؤلاء شبان لا يعرفون القيام بأي شيء سوى ارتكاب جريمة، وأصبحوا اليوم أسياد أنفسهم".
ووفقا لـ "هآرتس" فإن الشرطة تشعر أن غياب المجرمين الكبار أبقى المجرمين الشبان غير المنضبطين من دون "مسؤول كبير".والحالات التي كانت تنتهي في الماضي بالتحكيم بين كبار المجرمين باتت تنتهي اليوم بتصفيات جسدية.
إضافة إلى ذلك، فإن الصراع بين المنظمات الإجرامية دفع زعماء منظمات كهذه إلى مغادرة إسرائيل، مثلما فعل عمير مولنر، وهو زعيم أكبر تنظيم إجرامي إسرائيلي، حاليا، والذي يدير أعماله من خارج البلاد ويصدر أوامر لشبان يعملون ضمن عصابات صغيرة في إسرائيل.
وثمة سبب آخر لتصاعد حروب العصابات هو الأحكام والعقوبات المخففة على المجرمين. ففي أيار العام 2011 ألقى شرطيون من وحدة "يمار"القبض على المجرم دودو أمويال في مدينة ريشون لتسيون، بعد أن تعقبه رجال مباحث من الوحدة عدة شهور، كونه أحد "قياديي" منظمة أبرجيل ويضطلع بدور هام في موجة التصفيات الجسدية في منطقة ريشون لتسيون وحولون وبات يام. وعثر رجال المباحث بحوزة أمويال على عبوة ناسفة جاهزة للتشغيل، وهو ما اعتبر إنجازا مهماً للشرطة.لكن المحكمة حكمت على أمويال بالسجن لمدة عامين. وكذلك حدث في قضية أحد سكان مدينة اللد الذي أدين ببيع كميات كبيرة من الأسلحة لمجرمين، وأدين بهذه التهمة وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات. والجدير بالذكر في هذا السياق أنه في معظم هذه القضايا يتوصل محامو المجرمين إلى صفقات ادعاء مع النيابة العامة.
وعقب وزير الأمن الداخلي الأسبق ورئيس جهاز الشاباك الأسبق، آفي ديختر، بالقول إنه "لأسفنا الشديد فإن القضاة متسامحون ورحيمون، ولذا فإن المجرمين يعودون بسرعة كبيرة إلى دائرة الإجرام".
هذا التقرير ممول من قبل الاتحاد الأوروبي
"مضمون هذا التقرير هو مسؤولية مركز "مدار"، و لا يعبر بالضرورة عن آراء الاتحاد الاوروبي"