يتسم تاريخ علاقات إسرائيل الأمنية والعسكرية مع أوروبا بوجود جوانب وأبعاد عديدة ومتنوعة، وسوف نستعرض في هذا المقال عدداً من سمات ومميزات هذه العلاقات في الماضي، والتي يمكن أن تساعد في فهم الحاضر وتطوراته الديناميكية، وكذلك في الاستعداد السليم في إسرائيل من أجل المحافظة على العلاقات مع أوروبا والمضي قدماً في تطويرها. ويتعلق جزء مهم من التحليل بشبكة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين إسرائيل والإتحاد الأوروبي
يتسم تاريخ علاقات إسرائيل الأمنية والعسكرية مع أوروبا بوجود جوانب وأبعاد عديدة ومتنوعة، وسوف نستعرض في هذا المقال عدداً من سمات ومميزات هذه العلاقات في الماضي، والتي يمكن أن تساعد في فهم الحاضر وتطوراته الديناميكية، وكذلك في الاستعداد السليم في إسرائيل من أجل المحافظة على العلاقات مع أوروبا والمضي قدماً في تطويرها. ويتعلق جزء مهم من التحليل بشبكة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين إسرائيل والإتحاد الأوروبي.
هناك أهمية بالغة للاتفاقيات القائمة، ومن ضمنها تلك التي تتيح التعاون العلمي والتكنولوجي، وذلك في كل ما يتعلق بقدرة إسرائيل على شق طريق أمام شراكات جادة ومهمة تجمع بين صناعاتها العسكرية ونظيراتها في الدول الأوروبية.
إن فهم السياسات والتوجهات الأمنية والعسكرية الأوروبية يشكل شرطاً ضرورياً لبلورة خطة عمل ذكية وناجعة من أجل بلوغ الغاية الإستراتيجية المركزية المتمثلة بالتعاون المتعدد المجالات والكامل قدر المستطاع بين إسرائيل وأوروبا. إضافة إلى ذلك ينبغي البحث والعمل على تحديد الأدوات والوسائل، المتوفرة والمطلوبة لتجسيد القدرة على التقدم نحو التعاون المنشود. من بين الوسائل ذات الصلة هناك التالي:
•اتفاقيات في المجالين الاقتصادي والتجاري واتفاقية الشراكة- الاتفاقية الناظمة للعلاقة والتعاون التي دخلت حيز التنفيذ في العام 2000 - مع الإتحاد الأوروبي، واتفاقيات الإطار للبحث والتنمية المدنية في أوروبا.
•اتفاقيات قائمة في المجالات الإستراتيجية- العسكرية والأمنية. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى اللقاءات العسكرية ضمن أُطر ثنائية القومية، والحوارات الإستراتيجية والاتفاقيات الموقعة (مع بريطانيا وألمانيا وفرنسا) في مجال التعاون البحثي والتطويري، والاتفاق الفرنسي- الإسرائيلي للتعاون بين الصناعات العسكرية لدى البلدين.
•اتفاقيات ثنائية موقعة بين أجهزة الأمن في إسرائيل وأوروبا والتي تعتبر ذات أهمية كبيرة من حيث أنها تشكل أساساً لأي تعاون مستقبلي. ولكن إلى جانب ذلك ينبغي عدم الاستخفاف بوزن تفاهمات قائمة وبتقاليد اللقاءات والحوارات التي مضى عليها زمن طويل، والتي تعتبر بمنزلة نقطة انطلاق وأساس للشروع بنشاطات كثيرة ومهمة في مجالات التعاون.
•سياسة التصدير الأمني، والتي تقودها وحدة المساعدات الأمنية في وزارة الدفاع، ومن ناحية عملية هناك تدخل لكل المستويات القيادية في الوزارة ذاتها في سياسة التصدير الأمني.
•شبكة ممثلي المؤسسة الأمنية في أوروبا يمكن اعتبارها أيضاً أداة ذات طاقة كبيرة فيما يتعلق بأنشطة تشجيع التعاون. كذلك فإن القوى البشرية الموضوعة تحت تصرف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لمعالجة مجمل المجالات المذكورة أعلاه، تتسم بالتنوع.
في المجال العسكري هناك الملحقون العسكريون الذين يمثلون الجيش الإسرائيلي في البلدان التي وُضعوا فيها. وهناك ملحقون عسكريون للجيش الإسرائيلي في بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، هولندا، سويسرا، تركيا، بولندا و روسيا. ويقوم هؤلاء الملحقون، إضافةً إلى وظيفتهم كممثلين للجيش في مجمل شبكات العلاقات العسكرية الثنائية، بتمثيل وزارة الدفاع أيضاً، وهو ما يبرز أكثر في الدول التي لا يوجد فيها لوزارة الدفاع ممثل أو بعثة تمثيل.
وقد كانت هناك بعثتان كبيرتان لوزارة الدفاع واحدة في باريس والأخرى في برلين. أما اليوم فلم يعد هناك سوى ممثلية مقلصة لوزارة الدفاع في برلين، فيما تتولى بعثة التمثيل المتواجدة في باريس معالجة قضايا التمثيل في أوروبا بأكملها. ويمكن لممثلي الصناعات العسكرية الإسرائيلية في حالات معينة المساعدة في الحصول على معطيات ومعلومات. وتوجد اليوم في أوروبا بعثة دائمة واحدة للصناعات الأمنية- العسكرية الإسرائيلية، وهي البعثة المنتدبة من قبل الصناعات الجوية ومقرها في باريس، هذا فيما تستعين باقي الصناعات بوكلاء وبـ"طلعات" من البلاد (من إسرائيل) يقوم بها رجالات التسويق التابعين لهذه الصناعات وموفدو وزارة الدفاع.
علاقات الماضي
تعتبر المشتريات الأمنية مكوناً مركزياً في العلاقات الأمنية- الصناعية. قبل قيام الدولة، وخلال حرب الاستقلال (حرب 48)، كانت المشتريات الأمنية تتم كيفما اتفق. بعد ذلك يمكن ملاحظة فترتين مختلفتين اختلافاً جلياً. الأولى، والتي تمتد حتى حرب الأيام الستة (1967)، تتميز بالمشتريات (العسكرية) في أوروبا بشكل أساسي، وتم في نطاقها أيضاً ابتياع معدات قتالية من فائض الحرب العالمية الثانية.
أما الفترة الثانية، التي أعقبت حرب 1967، فقد أصبحت فيها الولايات المتحدة الأميركية المورد الرئيسي لشبكات الأسلحة (التي تزودت بها إسرائيل).
في السنوات الممتدة بين 1954 و1967 شكّلت فرنسا المورد المركزي لشبكات الأسلحة المتقدمة، حيث انتهجت الحكومة الفرنسية والرئيس ديغول سياسة تقديم أقصى المساعدات لإسرائيل، والتي كان أعداؤها إبان تلك الفترة هم أعداء فرنسا أيضاً (لا سيما مصر بقيادة جمال عبد الناصر). وقد فهمت الصناعات الفرنسية بوضوح الرسالة التي بثتها حكومتها، لكنها كانت تنظر إلى الجيش الإسرائيلي أيضاً كـ"مشتر ذكي" من الناحيتين الإستراتيجية والتكتيكية، والذي يمكن الاستعانة بتجربته وخبرته في إدخال تحسينات على منظومات الأسلحة التي يبتاعها. واشتملت المشتريات من فرنسا طائرات مقاتلة ودبابات ومدافع وغيرها.
وفي المجالات الإستراتيجية ساد أيضاً انفتاح منقطع النظير عبَّرَ عن نفسه في مساعدة فرنسا في إقامة قرية البحوث الذرية في ديمونا. كما بدأ في تلك الفترة أيضاً تطوير وبداية إنتاج سفن الصواريخ لحساب سلاح البحرية الإسرائيلي. وقد كانت كل هذه جزءًا فقط من الأنشطة العسكرية- الصناعية المشتركة في الفترة التي سميت "العصر الذهبي" في العلاقات بين فرنسا وإسرائيل. وفي هذا المجال كان لحرب "الأيام الستة" (وانتهاء حرب الجزائر) تأثير سلبي على العلاقات بين البلدين، حيث فرض الرئيس ديغول حظراً على بيع السلاح إلى إسرائيل.
السمات البارزة التي وسمت الفترة الممتدة من نهاية الخمسينيات وحتى حرب "الأيام الستة" تمثلت في مشتريات الأسلحة من دول مختلفة في أوروبا، وقد اعتبرت إسرائيل في نظر الدول والصناعات العسكرية في ذلك الوقت مشترياً مهماً. وقد سادت وقتئذٍ أيضاً ظروف سياسية مكنت الدول الأوروبية من السماح لصناعاتها العسكرية بإقامة علاقات وصلات مع إسرائيل. وكما في أية عملية تتقاطع فيها المصالح وتتضافر الجهود، فقد نما هنا أيضاً التفاهم وازداد التعاون بشكل كبير.
لقد شكَّلت حرب "الأيام الستة" مفترقاً بالغ الأهمية بين إسرائيل وأوروبا في مجال مشتريات الأسلحة، إذ أبعدت الحرب إسرائيل بسرعة وبشكل حاد عن الدول الأوروبية في هذا المضمار. جنباً إلى جنب أخذت تنمو وتتطور شبكة العلاقات مع الولايات المتحدة، وتوطدت من خلال ذلك أيضاً شبكة مشتريات الأسلحة إلى جانب العلاقات السياسية التي راحت تترسخ بين البلدين. وقد استندت شبكة المشتريات هذه، والتي تعاظمت بمرور السنوات، إلى برنامج المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل والذي أملى آلية استخدام أموال القروض (ولاحقاً أموال الهبات) التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل لشراء شبكات أسلحة أميركية.
قاعدة العلاقات الاقتصادية والتجارية
تستند العلاقات الاقتصادية والتجارية التي تُقيمها إسرائيل مع الأسرة الأوروبية إلى قاعدة راسخة ومديدة السنوات. خلال العقدين الأخيرين تضاعف حجم التبادل التجاري بين إسرائيل ودول الإتحاد الأوروبي.
في العام 1994 أعلن مجلس الإتحاد الأوروبي اعترافه بحق إسرائيل في التمتع بمكانة خاصة في الإتحاد على أساس التبادلية والمصالح المشتركة وذلك بحكم المستوى العالي للتطور الاقتصادي في إسرائيل. وفي العام 1995 وقع الإتحاد الأوروبي وإسرائيل على "اتفاقية الشراكة"، وقد دخلت هذه الاتفاقية، التي جاءت لتحل مكان اتفاقية التعاون المبرمة بين إسرائيل والمجموعة الأوروبية سنة 1975، إلى حيِّز التنفيذ في الأول من حزيران عام 2000.
ويجدر في هذا السياق الانتباه إلى نقاط الزمن والعلاقة بين مواقف الإتحاد الأوروبي وبين المناخ السياسي الذي ساد الشرق الأوسط إبان تلك الفترة. ففي سنوات 1994-1995 كانت عملية أوسلو، ورغم ما شهدته من صعود وهبوط، في أوجها. وتعتبر سياسة الإتحاد الأوروبي تجاه إسرائيل، في هذا السياق، جزءاً لا يتجزأ من السياسة تجاه دول حوض البحر المتوسط كافة، والتي أُعتمدت عقب مؤتمر برشلونه الذي التأم في العام 1995 بمشاركة ممثلي سائر دول الإتحاد الأوروبي والدول الاثنتي عشرة المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط. وقد أدت "اتفاقية الشراكة" المبرمة في نطاق المؤتمر ذاته إلى فتح وإدارة حوار سياسي ممأسس بين الإتحاد الأوروبي وإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك طوّرت الاتفاقية عدداً كبيراً من مجالات التعاون المحتملة. ففي مجال التعاون الاقتصادي على سبيل المثال، طبقت الاتفاقية في مجالات الصناعة والطاقة والمواصفات والخدمات المالية وقواعد المعلومات والاتصالات والنقل والسياحة.
في الإطار المتوسطي العام للاتفاقية هناك عدة اتفاقيات ثنائية جديرة بالتنويه:
•اتفاقان منفصلان يتناولان التجارة الحرة والاتصالات ودخلا إلى حيِّز التنفيذ منذ العام 1997.
•اتفاق حول قواعد تشغيل مختبرات GLP (Good Laboratory Practices) ¬.
•اتفاق ثُنائي للتعاون العلمي والذي انتهت المحادثات حوله في العام 1999. وقد ضُمَّت إسرائيل بناءً على هذا الاتفاق إلى الأُطر الرباعية والخماسية لـ"خطة الإطار للبحث والتطوير في الإتحاد الأوروبي". ويستوجب التعاون في هذا الإطار مشاركة الدول في الميزانية المحولة إلى الصندوق العام، علماً أن هذه الميزانية تستخدم لتمويل مشاريع البحث والتطوير التي تفوز بها شراكات بين صناعات (أوروبية وإسرائيلية في الحالة الإسرائيلية) أو بين مؤسسات بحث من الطرفين. وتُبين التجربة أن التعاون بين مؤسسات بحث إسرائيلية وشركات إسرائيلية للتكنولوجيا المتقدمة وبين هيئات مشابهة في الإتحاد الأوروبي، هو تعاون غني ومثمر. ومن المجالات البارزة التي يمكن الإشارة إليها في هذا السياق تقنيات المعلومات والاتصالات والمشاريع التي تعنى بنوعية وجودة الحياة. كما تثبت التجربة أن إسرائيل أخذت، بواسطة المؤسسات التي دخلت في شراكات ضمن هذا الإطار، أكثر مما أعطت لميزانيات الإطار.
•في آذار 2000 فازت إسرائيل بمكانة دولة شريكة -"Co-operating State"- في نطاق برنامج COST، وهو برنامج أوروبي للتعاون في البحوث العلمية والتكنولوجية. كذلك أصبحت إسرائيل، منذ حزيران 2000، عضوًا كاملاً في برنامج EUREKA، الذي أنشأه الإتحاد الأوروبي عام 1985 بهدف تشجيع التطوير التكنولوجي وقدرة المنافسة الصناعية.
مما لا شك فيه أن لهذه القاعدة الرسمية مساهمة مهمة للغاية في أية عملية تهدف إلى بناء أُطر جديدة للتعاون الصناعي بين أوروبا وإسرائيل. إن الاتفاقيات المبرمة التي ورد ذكرها تمثل ركيزة وملاذاً، خاصة في وقتنا هذا، الذي تجتاح فيه "المحيط السياسي" من حولنا أمواج وعواصف عاتية.
الوسائل المتاحة للمؤسسة الأمنية
هناك مجالات اهتمام في كل ما يتصل بتطوير وإقامة شبكات العلاقات الحيوية للتعاون الأمني مع دول أوروبا. ثمة عدة مجالات عمل ذات صلة بإنشاء أُطر التعاون الإسرائيلي- الأوروبي، سواء مع كل دولة أوروبية على حدة، أو في إطار شبكة العلاقات مع الإتحاد الأوروبي ككتلة واحدة.
ومن بين المجالات والمواضيع التي يمكن الإشارة إليها:
•تبادل المعلومات فيما يخص التكتيك ودروس المعارك، تجربة استخدام منظومات أسلحة مختلفة، أساليب وطرق التخطيط للمدى البعيد، التقويمات العسكرية الإستراتيجية وغير ذلك. وتتباين المجالات في ماهيتها من ذراع عسكرية إلى أخرى، ومن هنا فإن طابع الحوار مثلاً بين أسلحة الجو يختلف كلياً عن الحوار بين الجيوش البرية، أو الحوار بين أجهزة الاستخبارات. هذه الحوارات العسكرية لها تأثير ملموس على مضامين واتجاهات التعاون بين الصناعات الأمنية.
•قضايا إستراتيجية عسكرية تنتمي أو تندرج بشكل أساسي ضمن المجال السياسي وتشتمل على مواضيع وقضايا مرتبطة بالتعاون. هناك، من جهة، حاجة لوقت وجهد خاص من أجل التوصل إلى تفاهمات في كل ما يتعلق بالتهديدات الإستراتيجية المحيقة بإسرائيل، وبدرجة لا تقل عن ذلك أيضاً، بأوروبا ذاتها (مثلاً الصواريخ بعيدة المدى وأسلحة الدمار الشامل). من جهة أخرى فإن التوضيحات المتعلقة بالحساسيات السياسية من شأنها أن تساعد سواء في تخطيط مشتريات منظومات الأسلحة الخاصة في أوروبا أو في تشخيص وحتى إزالة العقبات التي تعترض طريق الصادرات الأمنية، سواء إلى أوروبا أو في المجالات التنافسية والحساسة في مجال التصدير لدول أخرى.
•مجال البحث والتكنولوجيا العسكريين: معظم الجهود والنشاطات التي تمت في هذا المجال فيما مضى كانت على الصعيد الثنائي، سواء بسبب الحساسية والسرية الأمنية أو بسبب الطابع الخاص لمعظم الأنشطة في مسائل التطوير التكنولوجي. وقد وُقِعَّت في هذا المجال اتفاقيات مهمة أبرمت جميعها في إطار ثنائي. هذا المجال، مجال البحث والتكنولوجيا، له بعد يتيح مرونة كبيرة في إنشاء نظام تعاوني.
•التصدير الأمني: ويعتبر أيضاً مجالاً مهماً للغاية. من ناحية المؤسسة الأمنية الإسرائيلية – حيث يصل الحجم السنوي الإجمالي للصادرات الأمنية إلى قرابة مليار دولار– هناك أهمية قصوى للنشاط في أوروبا. وتصل قيمة التصدير إلى أوروبا بأكملها، بما في ذلك سويسرا وتركيا ودول شرق أوروبا، إلى أكثر من 200 مليون دولار (في السنة). وفي هذا الإطار فإن بلوغ غاية 100 مليون دولار سنوياً لدول الإتحاد الأوروبي، ليس بالمهمة السهلة. وعلى الرغم من الهدف المتواضع للتصدير الأمني إلى أوروبا، إلا أن هناك أهمية لهذا المرسى في قارة تتمتع بثقل اقتصادي ومكانة عالمية جديران بتخصيص مكانة خاصة لهما في سياسة إسرائيل. ومن الجدير هنا أيضاً التوكيد على الشراكات الإسرائيلية-الأوروبية الهادفة إلى التسويق لدول "ثالثة".
حالياً بات التعاون بين الصناعات الأمنية أمراً مفروغاً منه، فهو يحتل مكاناً راسخاً في الاتفاقيات الثنائية الآنفة الذكر، والتي تعمل في ظل اتفاقيات الشراكة والتعاون. وقد وجدت الصناعات الإسرائيلية والأوروبية، في هذا الإطار، الطريق الملائم لإقامة شراكات فيما بينها. التجديد الذي يتعلق مباشرة بالتعاون الصناعي- الأمني يتمثل في اتفاقية الإطار للتعاون بين الصناعات الأمنية الفرنسية والإسرائيلية الموقعة في العام 1999. وقد جسد هذا الاتفاق للمرة الأولى سياسة مشتركة للبلدين تدعم وتؤيد التعاون بين الصناعات الأمنية.
اتفاقيات وأُطر عمل على المستوى الثنائي
في نطاق شبكة العلاقات التي تقيمها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مع دول أوروبا هناك أُطر رسمية مختلفة في مجال الأعمال المشتركة. ففي مجال البحث والتطوير هناك اتفاقيات مبرمة بين إسرائيل وبين كل من ألمانيا، بريطانيا وفرنسا. كذلك هناك اتفاقية إضافية، خاصة أو خارجة عن المألوف، وقعت كما أسلفنا سنة 1998 بين فرنسا وإسرائيل وتتعلق بالتعاون بين الصناعات الأمنية التابعة للبلدين. وقد جرت على مدى سنوات عديدة أنشطة مشتركة، بهذا الحجم أو ذاك، بين إسرائيل وبين كل دولة من الدول الثلاث المتصدرة في أوروبا وذلك دون اتفاقيات موقعة. وتظهر التجربة أن أي تصعيد في التوتر في المنطقة (في الشرق الأوسط) يؤدي إلى شل هذه الأنشطة، على عكس فترات الهدوء السياسي التي تجري فيها النشاطات المشتركة دون عراقيل وبما يتلاءم مع الاحتياجات والمصالح المشتركة. غير أن وجود اتفاقيات موقعة يسهل على الطرفين الاستمرار في التعاون بينهما حتى في ظل نشوب رياح التوتر في المنطقة. ويجري بين بريطانيا وإسرائيل تعاون أمني لا بأس به على الرغم من مواقف وزارة الخارجية البريطانية التي تبدي تحفظاً دائماً إزاء العلاقات مع إسرائيل. ففي الفترة الواقعة بين توقيع اتفاق "واي ريفر" بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية (23 تشرين الأول 1998)، وبين بداية الانتفاضة الحالية (أيلول 2000) والتي أدت مجدداً إلى المس بسمعة إسرائيل ومكانتها، عقدت بين بريطانيا وإسرائيل لقاءات في مجالات البحث والتكنولوجيا وجرت حوارات إستراتيجية كما عقدت من حين إلى آخر لقاءات في مواضيع الاستخبارات أيضاً.
وتمثل ألمانيا مكانة مهمة في كل ما يتصل بتمثيل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، إذ توجد اليوم في برلين بعثة مقلصة لوزارة الدفاع، تتلقى التوجيه من البعثة الدائمة في باريس. وتشكل فرنسا الضلع الثالث للدول المتصدرة في أوروبا، إلى جانب بريطانيا وألمانيا. العلاقات العسكرية بين فرنسا وإسرائيل نُسقت دائماً من قبل ملحق عسكري وهو ضابط برتبة رفيعة. وتتواجد في باريس منذ فترة الخمسينيات التي ازدهرت فيها العلاقات بين البلدين، بعثة كبيرة من وزارة الدفاع، تولت حتى حرب "الأيام الستة" معالجة مواضيع مشتريات أسلحة كثيرة ومنوعة، وسميت في ذلك الوقت "بعثة المشتريات". وتتولى البعثة ذاتها حالياً معالجة شؤون المشتريات في أوروبا بأكملها، وشؤون التعاون في مجالات البحث والتطوير والحوارات الإستراتيجية الإسرائيلية – الفرنسية.
التصدير الأمني لأوروبا
ارتكز التصدير الأمني الإسرائيلي إلى دول أوروبا، طوال السنوات التي تطور فيها، إلى عدة أسس أهمها تجربة الجيش الإسرائيلي في سلسلة الحروب التي خاضها في مواجهة معدات قتالية سوفييتية، والخبرة التكنولوجية التي تتمتع بها الصناعة الإسرائيلية في مراكز التسويق الأمني في العالم، إضافة إلى الدعم الحكومي المقدم بواسطة وزارة الدفاع ووحدة التصدير الأمني التابعة لها.
وتتوفر لإسرائيل، التي تستطيع تمويل تسلحها بشبكات أسلحة رئيسية من ميزانية خارجة عن نطاق ميزانية الدولة، إمكانية تخصيص ميزانيات كبيرة للبحث والتطوير وإنتاج منظومات أسلحة خاصة تلبي احتياجاتها. غير أن هاتين العمليتين، المشتريات المكثفة في الولايات المتحدة والتطوير والإنتاج الذاتيين، تؤديان إلى خلق حاجز مانع أمام إجراء اتصالات حقيقية مع الصناعات الأمنية الأوروبية. عملية التباعد بين إسرائيل وأوروبا في هذا المجال لها انعكاسات في المجال السياسي أيضاً والذي يفرض قيوداً شديدة على تنفيذ أية عمليات أو أنشطة مشتريات مهمة في أوروبا.
وقد ظهر خلال العقدين الأخيرين تنافس شديد بين الصناعات الأمنية الإسرائيلية والصناعات الأمنية الأوروبية (ولا سيما الصناعات الفرنسية والبريطانية) على الأسواق في دول أخرى، خاصة في آسيا وإلى حد ما في أميركا الجنوبية وحتى في أوروبا ذاتها.
حجم التصدير الأمني الإسرائيلي إلى أوروبا لم يشهد أية زيادة بمرور السنوات، ويعود ذلك إلى تأثير التوجهات السياسية التي سادت في القارة الأوروبية إزاء كل ما يتعلق بإسرائيل، إضافة إلى اعتبارات إستراتيجية- سياسية أوروبية.
هناك عامل آخر يؤثر على الصادرات الأمنية وهو تأمين العمل (التشغيل) في الدول المختلفة. هذا المطلب المشروع قائم بهذا الشكل أو ذاك في جميع بلدان أوروبا. ويتمثل انعكاس هذا المطلب في ظهور بنية مختلفة لصفقات التصدير الأمني ينبغي بموجبها امتلاك قدرة إنتاج تضاهي طاقة التسويق في الدولة المشترية كجزء لا يتجزأ من الصفقة. إن شراكة حقيقية وأكثر عمقاً في مجال الخبرة الفنية والتقنية هي شرط ضروري لتجسيد طريقة عمل من هذا النوع.
إن اتجاه التصدير بواسطة إقامة شركات مشتركة إسرائيلية- أوروبية، في إطار ثنائي، يبدو اليوم اتجاهاً قائماً على أساس صلب، في سبيله على الأرجح أن يزداد تعمقاً ورسوخاً. ويلاحظ في هذا الإطار عاملان من شأنهما أن يؤثرا في المستقبل غير البعيد على عملية التصدير الأمني إلى أوروبا، الأول: تبلور الهوية الأمنية الجديدة للقارة الأوروبية وخلق الظروف لإقامة شركات عموم أوروبية. أما الثاني فيتمثل في عملية توسع الإتحاد الأوروبي عقب انضمام دول أوروبا الشرقية للإتحاد.
تأثير الصناعة الأميركية
يوجد للصناعات الأميركية حضور كبير ومؤثر جداً في أوروبا منذ عشرات السنين. ولا يقتصر الأمر فقط على القدرات التكنولوجية للصناعات الأميركية وإنما أيضاً قوتها الاقتصادية والرافعة السياسية التي تضعها الولايات المتحدة تحت تصرف هذه الصناعات.
ويتسبب تشرذم جهود البحث والتكنولوجيا في بلدان أوروبا بضرر أشد وأكبر لحجم الميزانيات المخصصة للبحث والتطوير الأوروبيين، والتي لا تصل إلى نصف حجم الميزانيات التي يوظفها الأميركيون. وتشكل ظاهرة العولمة ودافع الشركات الأميركية الدائم نحو الدخول في شراكات وتكريس سيطرتها في أوروبا، عوامل بالغة الأهمية في تبلور وتطور الهوية الأمنية الأوروبية الجديدة وتأثيرها بالتالي على الصناعات الأوروبية. وفيما عدا مكانة الصناعة الأميركية، ينبغي الإشارة إلى أنه قد نشأت بمرور السنوات شراكات عديدة بين صناعات أوروبية وأميركية، ولا ريب أن للتفوق التكنولوجي الذي تتمتع به الصناعات الأميركية وزنًا بالغًا في أية شراكة. هذا إضافة إلى الوزن الكبير الذي تحتله اليوم الاعتبارات الاقتصادية.
هذه العوامل كافة، والتي نالت دفعة تعزيز في منتصف العقد السابق، أدت إلى خصخصة صناعات كثيرة كانت طوال عشرات السنين بملكية حكومية. من هنا فقد أضحت قدرة تغلغل وانضمام الشركات الأميركية إلى الشركات الأوروبية أسهل وأسرع مما كانت عليه في الماضي. ويشكل ذلك منافسة شديدة للصناعة الإسرائيلية وجهودها نحو الانضمام والتعاون مع الصناعات الأوروبية.
هناك عاملان يمكن أن يساعدا إسرائيل في هذا الصدد، الأول: الشرخ الأطلسي الراقد الذي لا زالت آثاره ملموسة منذ الحرب على العراق؛ والثاني: حقيقة أن الصناعات الإسرائيلية ليست صناعات ضخمة تهدد بالسيطرة كالصناعات الأميركية.
اتجاهات، مخاطر وفرص
يظهر كل ما تقدم المصاعب التي ستواجهها الصناعات الأمنية الإسرائيلية في إقامة شراكات مع شركات أوروبية. وتنجم هذه الصعوبات أيضاً عن اعتبارات وسيرورات إستراتيجية- اقتصادية لدى الشركات الصناعية الأميركية والعالمية. وهناك عامل آخر يتمثل في نوع المنتجات- فالطائرات بدون طيار والصواريخ المضادة للدبابات والمضادة للطائرات، والمنظومات والوسائل القتالية الإلكترونية، كل هذه موجودة في واجهة التكنولوجيا العسكرية والمنافسة التي تواجهها الصناعة الإسرائيلية إزاء صناعات أخرى في العالم. وينبغي بطبيعة الحال أن لا نغفل الانعكاسات المترتبة على المواقف السياسية للكثير من الدول، والتي تأتي أحياناً مصحوبة بالتهديد بقطع العلاقات مع إسرائيل وحتى بفرض حَظر عليها وذلك في أعقاب نشوب توترات وتصعيد في الصراع في منطقة الشرق الأوسط.
__________________________________
(*) عوزي عيلام عميد في الاحتياط، وهو باحث زميل في "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" في جامعة تل أبيب منذ 2002. وقبل ذلك أشغل منصب المدير العام لوفد وزارة الدفاع الإسرائيلية إلى أوروبا، الذي كان يتخذ من باريس مقرًا له، وذلك بعد تدرّجه في مناصب عديدة ضمن قيادة هيئة أركان الجيش الإسرائيلي وديوان رئيس الوزراء ووزارة الدفاع، بداية كقائد في وحدة المظليين ثم كمدير وحدة الأبحاث والتطوير في هيئة أركان الجيش والمدير العام للجنة الطاقة الذرية في ديوان رئيس الوزراء والعالم الرئيسي ورئيس مديرية تطوير الوسائل القتالية والبنى التحتية في وزارة الدفاع. المقال أعلاه هو فصل من كتيب صدر عن المركز المذكور في آذار 2005 ويحمل عنوان "هوية أوروبية جديدة في ميادين الأمن". ترجمة: "مدار".