هذا المقال المشترك يأتي نقدًا لـ وردًا على ونقاشًا مع "وثيقة أولغا"، التي وضعها عدد من الناشطات والناشطين اليساريين. وجاءت تحت العنوان: "نداء: من اجل الحقيقة والتسوية، من أجل المساواة والشراكة". في المقال سنورد تفاصيل مما تضمنته هذه الوثيقة، من خلال مناقشتها
هذا المقال المشترك يأتي نقدًا لـ وردًا على ونقاشًا مع "وثيقة أولغا"، التي وضعها عدد من الناشطات والناشطين اليساريين. وجاءت تحت العنوان: "نداء: من اجل الحقيقة والتسوية، من أجل المساواة والشراكة". في المقال سنورد تفاصيل مما تضمنته هذه الوثيقة، من خلال مناقشتها.
"النداء" يسعى لإطلاق نقاش جماهيري، في وقته. ويستحق المبادرون إليه تحيات على محاولة تجديد النقاش السياسي النقدي الذي يتجاوز السياسة المباشرة، ويسعى لوضعه (النقاش) في ضوء نقد الكولونيالية الصهيونية. فهناك اهمية كبرى لوضع العمليات السياسية التي نتعاطى معها، في سياقات أوسع واعمق كجزء من محاولاتنا وضع بدائل لنظام الابرتهايد الذي يتأسس أمام عيوننا- تلك البدائل القائمة على المساواة والشراكة، على العيش المشترك معًا، على "التعايش".
النداء يطرح مسائل مهمة، وهي مقبولة علينا. مع ذلك، وكمساهمة في النقاش الحيوي في اطر اليسار غير الصهيوني، بودنا طرح عدد من الملاحظات النقدية.
في مقدمة الوثيقة جاء انه "كان يفترض بدولة اسرائيل هدم اسوار الجيتو- وهي تبني الآن الجيتو الاكبر في تاريخ اليهود".
نحن نوافق على هذا التقييم طالما هو توصيف للحاضر. ولكن الصهيونية ودولة اسرائيل لم تدعيا أية نيّة لهدم اسوار الجيتو، بل تنفيذ حدثنة له. أي استبدال انعزال اليهود الديني- التقليدي ازاء محيطهم، بأسوار الدولة الحديثة، داخل حصن مسلّح في الشرق الاوسط. فقد سعت التيارات المركزية داخل الصهيونية الى بناء دولة قومية إثنية، أي بناء جيتو عصري وسيادي. ومنذ بدايات الاستيطان الصهيوني، جرى توظيف مبدأ الانفصال عن المحيط العربي لبناء مجتمع مسوّر ومنعزل. وكان فصل المستوطنين عن سكان البلاد العرب، وفصل المهاجرين عن هوياتهم السابقة (وعن المهاجرين غير اليهود)، مرتبطين الواحد بالآخر.
والنتيجة ليست مفاجئة: أمة الجيتو التي تعرّف نفسها على اساس اثني- ديني تقيم علاقات استعمارية مع العرب الفلسطينيين، تتصرف كجيش طليعي بأيدي الامبريالية الغربية في الشرق الاوسط، تحتقر محيطها العربي، وتفرض قوانين هجرة عنصرية بينما هي غارقة في كراهية الغرباء.
ان البديل الفكري الجدي لمبادىء الفصل التي يقوم عليها النظام الاستعماري، يجب ان يكون بالتالي بديلاً عربيًا- يهوديًا مشتركًا. فبدون شراكة عربية- يهودية في النقاش، في الصياغة وفي النشاط، لن تؤدي كل النوايا الحسنة سوى الى نسخ مبدأ الفصل، حتى لو جرت صياغة ذلك بمفاهيم يسارية.
فالطابع مشروط بتركيبة من يقومون بالصياغة، والمشاركين في النقاش وأيضا في الأنا الجماعي الذي يصوغ والذي توجّه الكتابة إليه. وهنا لا نخفي خيبة أملنا: فالأنا الجماعي الذي كتبت باسمه ومن داخلة مقاطع واسعة من "وثيقة أولغا"، هو يهودي حصري. مواطنو اسرائيل الفلسطينيون غائبون منه تماما، وهذا بالضبط هو الفرق بين جهود الـ "دو- كيوم" (العيش الثنائي باللغة العبرية، وهو توصيف لنزعات اليسار اللبرالي التقليدي) - التي لا نستخفّ بها والتي، بحكم نظامها وتوجهها، تنسخ الفصل القائم والحدود الجماعية الاثنية المتجانسة (لو فرضنا التجانس، جدلا)- وبين تجربة اختراق اسوار الفصل بواسطة النضال السياسي المشترك، القائم على أساس رؤيا الحياة المشتركة. ورغم أنه من الطبيعي ان تتنظّم الاقلية على أساس قومي للدفاع عن حقوقها، فإن الإعتماد- ولو بلاغيًا- على الـ "نحن" الاثني اليهودي السائد، لن يدعم تلك الرؤيا، بل انه يعيدها "الى الداخل"- الى ما بين الأسوار.
النداء يواصل نقاشات كثيرة ومهمة كانت دارت بين مجموعات اليسار المختلفة في الماضي. ولا يكفي ان يتم اضافة "الصدق والجرأة"، كما تؤكد لنا فقرات خاتمة "وثيقة اولغا"، فهذا غير منصف بحق المحاولات السابقة، ومغازيها أيضًا. من هنا، فنحن نودّ دفع النقاش في نقطتين:
النقطة الاولى ترتبط بقضية اللاجئين. لقد أسعدنا رؤية أن النداء يضع هذه القضية في موقع مركزي، ولكننا نعتقد انه لا جدوى في محاولة بناء بديل يقوم على محاولات عديمة الاحتمال لتحقيق "العدالة التاريخية". لا يوجد شيء كهذا! فالصدق يجعلنا مطالبين، حقًا، بالاعتراف انه لا يمكن إعادة العملية الكولونيالية للوراء. هناك أهمية حقيقية للاعتراف بالغبن، للتعويض وأخذ الضحايا بالاعتبار وإصلاح الغبن من دون خلق غبن جديد. ومن الواضح تماما ان سلامًا اسرائيليًا- فلسطينيًا ثابتًا سيظل مستحيلا بدون قواعد العدالة واصلاح الغبن، وخاصة بدون حلول لقضية اللاجئين. ان حق العودة للاجئين محفوظ، أما الاعتراف بـ "حق العودة" نفسه فهو غير كافٍ، وهو كشعار لا يوضّح شيئًا.
فمن جهة، من غير الواقعي انتظار عودة اللاجئين، ابنائهم واحفادهم الى قرى لم تعد قائمة، الى حقول بأيدي آخرين، والى تلك البيوت القائمة، والتي يقيم فيها لاجئون او مهاجرون يهود من سنوات الخمسينيات، وابناؤهم، وأحيانا يسكنها فلسطينيون جرى طردهم من بلدة ما ثم تحولوا الى حاضرين غائبين، مهجرين في وطنهم، وسكنوا في حارة مهجّرة اخرى بدل القرية التي باتت محظورة عليهم.
ومن جهة اخرى فالعودة الى البلاد ومنح المواطنة الكاملة لن يحقق الكثير بحد ذاته. فهل أن مئات آلاف الفلسطينيين الذين سيصلون الى البلاد وهم محرومون من الاملاك ليتحولوا في احسن الاحوال الى عمال مقموعين، سيحظون باصلاح الغبن وبالعدالة التاريخية؟
من هنا، فإن التشديد برأينا يجب ان يكون ليس على تحقيق "العدالة التاريخية"، بل على حقوق اللاجئين (حقهم بالعودة للعيش في وطنهم، أن يصبحوا مواطنين كاملي الحقوق في الدولة التي يعيشون فيها، او التي سيعودون اليها، وحقهم بالعيش الكريم في شروط اقتصادية معقولة، وبمعاملة نزيهة وغير تمييزية، وكذلك بتفضيل ايجابي في مجالات معينة)، والتشديد على احترام إرادتهم الحرة (بالعودة الى مناطق دولة اسرائيل، مناطق دولة فلسطين، مناطق كونفدرالية مستقبلية، او التوطّن حيث يعيشون، او الهجرة بإرادتهم بجواز سفر ما).
ليس الغبن الذي تعرض له اللاجئون الفلسطينيون وحده الذي يستوجب تعاطيا جريئا، فتجاهل أشكال الغبن الأخرى لن تفيد الحاجة الملحّة في بناء بديل حقيقي. فما الذي سيحقق عدالة تاريخية لمن جرى رشّه بالـ دي. دي. تي حين نزل من الطائرة، ولمن حرمته المؤسسة الصهيونية من فرصة التعليم بسبب أصله الشرقي، او من جرى تعريفهم كمثيرين للسخرية حين تحولت لغتهم- الايديش، اللادينو والعربية- الى لغة غير شرعية في الحيّز العام؟
لن نجد أي طريق لتحقيق عدالة تاريخية مع آلاف الشابات والشبان ممن احبوا في مرحلة ما أحد ابناء "القومية" او "الدين" غير الصحيحين، وحُظر عليهم تحقيق حبهم بسبب النّظم القضائية الإثنية- الدينية، والافكار المسبقة التي تساعد نظام الفصل. ان هذه كلها أشكال من الغبن الذي ألحقته الصهيونية أو الدولة التي أقامتها الصهيونية، وهي مرتبطة بالعملية الكولونيالية.
إنها أشكال من الغبن أقل، بدون شك، من الطرد الجماعي، من القتل في حروب زائدة او من أشكال الغبن التي تتواصل يوميًا بسبب الاغلاقات والحصارات وجدران الاحتلال، ولكنها مهمة جدًا بالنسبة للعديدين ممن يعيشون هنا، وهي نابعة مباشرة من المبنى الاجتماعي السياسي، ذلك الذي نؤكد اننا معنيون بتغييره من الاساس.
ولذلك، فعلينا الاعتراف أيضا بهذه الاشكال من الغبن، وأن نرى العلاقة بينها وكشفها، ولكننا لا نستطيع العودة الى الوراء وتحقيق عدالة تاريخية.
أقصى الممكن- هو إصلاح شيء من الغبن أو نتائجه، ومنع تكراره، وبناء مجتمع متساو، منفتح ومتفهّم أكثر: مجتمع لا يعرّف "هويات البشر" الذين يعيشون فيه بشكل صارم.
يبدو لنا ان احدى نقاط الضعف الاساسية في الكفاح ضد الاستعمار في هذه البلاد كان غياب البعد الاجتماعي العينيّ منه كليًا، تقريبًا. فبدون تحليل اجتماعي تبدو المجموعات الاثنية كتلا واحدة فعلا، ويكون من الصعب رؤية التناقضات الداخلية فيها. وحين لا يجري دمجه بالمصالح الاجتماعية المحددة، سيبدو النضال ضد الإستعمار والاحتلال كنضال مجرد، بعيد- وأحيانا غير مفهوم- بالنسبة للكثير من الفلسطينيين وبالنسبة لكثير من الاسرائيليين.
والنداء المذكور يضع العرب واليهود والمعسكر مقابل الآخر- حتى حين يسعى للتسوية بينهم.
ان التحليل الاجتماعي العينيّ ليس من الكماليات، انه ضروري للنضال ضد الاستعمار. فأحد أسس نفوذ النظم الاستعمارية وقدرتها على الاستمرار هو استغلال التناقضات اللانهائية القائمة بين المحكومين على اختلافهم، وخاصة تلك التناقضات النابعة من افضليات نسبية وهرمية استعمارية وطبقية. وأي تحليل معمق وأي نضال جدي لا يمكنهما تجاهل الفروقات في المكانة القائمة، ليس بين اليهود والعرب فحسب، وانما ايضا في التناقضات الاجتماعية (الطبقية، الطائفية، الثقافية) بين اليهود، او التناقضات النابعة من الافضلية الجدية التي يحظى بها الفلسطيني المواطن في اسرائيل، مقارنة بالفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال او الذي يعيشون كلاجئين (وهم احيانا من نفس العائلة). ويكفي التفكير بجزء من البلدات العربية على طول "الخط الاخضر" حتى نرى كم ان الواقع الاستعماري لا ينحصر في التناقض بين اليهود والفلسطينيين.
ومن هنا، من المهم برأينا تأكيد ان اليهود والعرب ليسوا أعضاء مقسومين الى مجموعتين متجانستين: فالواقع الكولونيالي مركّب أكثر بكثير من التقسيمة الصارمة بين يهود وعرب، بين حكام مستوطنين ومحكومين أصلانيين. صحيح أن المبنى الاجتماعي- السياسي الاسرائيلي تبلور قبل كل شيء بواسطة العملية الكولونيالية، ولكن ايضا عبر تطور مجتمع طبقي- رأسمالي، عبر كولونيالية ثقافية تحكم يهود الشرق أيضًا باضطهاد منهجي وتموقعهم في الهامش، إن كان بواسطة مراحل الهجرة المختلفة لليهود الى البلاد وظروف توطينهم، أو بواسطة تقاليد قديمة في استعمال الفروقات الاجتماعية، الثقافية والدينية داخل المجموعة العربية لخلق جماعات فرعية ذات أفضليات نسبية عبر تجنيد جماعات داخلها ضمن العملية الكولونيالية.
مع هذا الواقع، بكل تركيبته وتناقضاته، يجدر بنا أن نتعاطى من اجل تغييره.
هذه هي الاسباب التي توجب محاولة تطوير بديل سياسي- مستقبل من الحياة المشتركة التي لا تقوم على الفصل بل على النقاش المشترك القائم على النضال المشترك، ولا تنسخ الفصل القائم والتقسيمات الإثنية المطلقة التي فرضتها العملية الاستعمارية. ومن المهم أن يكون، سواء في النقاشات او الصياغات، حضور للحساسيات المختلفة النابعة من الاختلافات الثقافية، فغياب هذه الشراكة افشل مسبقا القائمة التقدمية للسلام، والنزعة لإنكار تبعات تلك الإختلافات هي احد الاسباب التي لا تزال تُضعف الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة.
اذا ما اردنا تطوير بديل عميق للنظام القائم، يبدو لنا ان نقطة الانطلاق يجب الا تكون الدوائر الاثنية القائمة، والفصل بينها- بل النقاش الذي يتبلور من داخل أطر النضال والنشاط (حركة تعايش، مثلا)، فهكذا يصبح بالامكان خلق الشراكة، وهي جماعة جديدة، ليست متجانسة وليست معرّفة سلفا، بل تتبلور سياسيا من خلال تجربة النضال وعلى أساس الرؤيا والالتزام بها. هذه الجماعة التي تتكون من خلال النضال المشترك هي جماعة مختلطة، عابرة للهويات، ولذلك فهي جامعة للهويات.
جماعة عربية- يهودية منفتحة أمام كل سكان البلاد. (ونضيف: في الوقت الذي بات فيه قسم غير قليل من سكان اسرائيل من مهاجري العمل، المحرومين من الحقوق السياسية، وفي حين ان جزءا غير صغير من السكان ليسوا عربا وليسوا يهود، فلا مكان برأينا للتشدّد في الفروقات بين "غرباء في البلاد" وبين "ابناء المكان" واستعمال مفاهيم كنعانية محلية).
لا نفكر بأية أوتوبيا لاناس ذوي هوية جديدة، او عديمي الهويات التي تميزهم، بل بشراكة مركبة تنتج وتتبلور في خضم النضالات لاجل المساواة وفي مواجهة الاحتلال، من خلال تطوير بديل فكري.
فالممارسة والتفكير منجدلان معا. والتجربة المشتركة لمئات النشيطين، ذوي الوعي المختلف البعيد عن التجانس، والخلفيات الفكرية والثقافية المختلفة، هي واحدة من المصادر الهامة للاستخلاصات الفكرية الجدية.
إن المشروع العربي – اليهودي المعادي للاستعمار، وهو مشروع ثوري في جوهره، يمكنه ان يتطور فقط من خلال دمج التكتيكات التي تتحدى جدران الفصل، وتصل ما بين أشخاص مختلفين وبين تفكير جريء قادر على تحدي تلك الجدران، وتلك التعريفات المطلقة التي يسعى الناطقون باسم النظام السائد إلى فرضها علينا.
(*) هشام نفاع: كاتب وصحفي مقيم في حيفا
غادي الغازي: مؤرخ، محاضر في جامعة تل أبيب
الكاتبان من نشيطي حركة "تعايش" العربية – اليهودية