المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يجب أن نعترف أن السياسة الاقليمية للولايات المتحدة الأميركية في الشرق الاوسط ترتبط ارتباطاً مباشراً بأمن إسرائيل ومصالحها في المنطقة، ويجب ألا يغيب عن الذهن أن تأمين إسرائيل واستخدام الملف العراقي للتأثير سلباً في القضية الفلسطينية هي أمور تقع ضمن اولويات العلاقة الوثيقة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية

سيطرت تطورات الأزمة العراقية على الساحتين الاقليمية والدولية وانشغل الجميع بالحديث عن التوقعات والتوقيتات وبدت المسألة كلها كما لو كانت معطاة تاريخية غير قابلة للتغيير، إذ ينبغي التعامل معها من دون البحث في جذورها أو التفتيش عن اسبابها. لذلك فإنني استأذن في العودة قليلاً إلى الوراء عندما نفذت الحكومة العراقية عقوبة الإعدام بحق الصحافي الايراني البريطاني وعندما رفض الرئيس صدام يومها كل الشفاعات بشأنه، ثم أدلى بتصريح ذكر فيه بأنه على استعداد لحرق نصف إسرائيل في أي مواجهة مقبلة فهي التي ضربت المفاعل النووي العراقي قبل ذلك بسنوات قليلة. في ذلك الحين قلنا - وقال معنا الكثيرون - إن النظام العراقي سيبدأ بالقطع سلسلة من المغامرات تدفعه اليها أوهام النصر في الحرب العراقية - الايرانية ولم تمضِ شهور قليلة إلا وقد احتلت القوات العراقية الكويت وعندها بدأت أكثر فقرات الدراما العربية إثارة وأهمية.
وظهرت نظريتان مختلفتان بشأن اسلوب التعامل الأميركي مع الوضع الذي خلقه الغزو العراقي لدولة الكويت العام 1990 فكانت النظرية الأولى ترى أن انقلاباً عسكرياً عراقياً - وكان ذلك لا يزال ممكناً ولكنه بعد ذلك أصبح مستحيلاً - يمكن أن يكون حلاً سريعاً للمشكلة وخروجاً مقبولاً من الورطة التي شعر بها الجميع بعد حادث الغزو البغيض الذي جر على الأرض العربية ويلات بغير حدود، وكان دعاة هذه النظرية يعتقدون أن النظام العسكري الذي سيتولى الحكم في بغداد بعد واقعة الغزو العراقي يمكن أن يعلن سحب قواته من الكويت ويعتذر عن جريمة الغزو مع تحميلها لنظام رحل وكفى الله العراقيين في هذه الحالة شر التدمير الذي لحق بهم والعمل العسكري الذي استهدف بلدهم بكل تداعياته المشهودة حتى اليوم.

أما النظرية الثانية فقد كانت ترى غير ذلك، إذ أنها لا تهتم بوجود النظام العراقي، الذي غزا الكويت أو عدم وجوده، بل على العكس قد ترى في وجوده مبرراً لاستمرار الوجود في المنطقة وتكرار التدخل في العراق. فالمهم فقط هو تحطيم آلة الحرب العراقية وضرب تقدمه التكنولوجي وتدمير البنية التحتية فيه. ولقد انتصرت هذه النظرية الثانية لأن الذي وقف وراءها كان هو اليمين الأميركي في عصر الرئيس بوش "الأب" ويومها تعهدت إسرائيل بألا تستدرج للدخول في العمليات العسكرية ضد العراق حتى ولو جرى عدوان عليها، وذلك ما حدث فعلا فلقد تمسكت إسرائيل العام 1991 بدرجة من الابتعاد عن المسرح العسكري واكتفت بوجود من ينوب عنها في أداء المهمة المطلوبة بشرط أن تتحلى هي بضبط النفس وتمسكت بتعهداتها مع الولايات المتحدة الأميركية في هذا الخصوص.

هذا كله في ظني يمثل المقدمة التفسيرية للعلاقة بين الدولة العبرية والمسألة العراقية، فإسرائيل بعد أن فرغت من توقيع اتفاقية السلام مع مصر - أكبر دولة عربية - بدأت تفكر في مصادر الخطر الأخرى التي تحيط بها، وأعطت في ذلك للعراق تحت حكم صدام حسين ولإيران بعد الثورة الإسلامية أولوية واهتماماً شديدين، فالدولتان من وجهة نظر الولايات المتحدة عموماً وإسرائيل خصوصاً هما دولتان غير طيِّعتين لذلك تركزت نظرية الأمن الإسرائيلي الخارجي في القلق مما يمكن أن يحوزه العراق من أسلحة الدمار الشامل فضلاً عن اتهامات مماثلة لإيران الدولة تحت تأثير ايران الثورة. من هنا فإن غزو العراق للكويت كان يمثل امام الولايات المتحدة الأميركية السبب المعلن بينما الأجندة الحقيقية تضم اسباباً أخرى لا يحسن الإفصاح عنها، بدءًا من السيطرة على منابع البترول العربي واحتياطيّه في العراق مروراً بإعادة ترتيب الاوضاع في المنطقة وفقاً لنهج ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وصولاً الى الهدف الحقيقي وهو تأمين إسرائيل بوجود أميركي في دولة غير مستقرة هي العراق حتى يكون ظهيراً لأمن الدولة العبرية وقاعدة للانقضاض على أي نظام يخرج عن حظيرة السلام الأميركي pax Americana وهو ما يعني، بل يؤكد أن أمن إسرائيل وتنفيذ مخططاتها يقف وراء الدوافع القوية لضرب العراق. لذلك فإن كل المحاولات الاخيرة التي جرت للخروج من الموقف المتأزم خصوصاً تلك التي كانت اقليمية الطابع تجاوزت إسرائيل ولم تتعامل معها كطرف مؤثر في عمليات الضغط السياسي والتمهيد العكسري لتوجيه ضربة للعراق، وليس يعني ما أقول إن المطلوب هو التوجه الى إسرائيل والتوسل اليها بأن تتوقف عن تزيين مغامرة الحرب المقبلة في الشرق الاوسط أمام أعين الإدارة الأميركية الحالية. بل إن هدفي مما أقول يختلف عن ذلك تمامًا، فأنا كنت أتصور أن الأطراف الاقليمية المختلفة، وهي الدول العربية المعنية، بالإضافة الى تركيا وايران، كان عليهم جميعاً أن يدركوا طبيعة الدور الإسرائيلي في توجيه السياسة الأميركية في الشرق الاوسط وإذكاء روح التطرف لدى اليمين الأميركي، وتحميس ادارة بوش "الابن" للقيام بعمل عسكري في العراق بدعوى نزع سلاحه او تغيير قياداته، فما أريد أن أقوله بوضوح هنا هو أن تأثير الدور الإسرائيلي الذي يعرفه الجميع ولكن لا يتحدث عنه أحد هو بمثابة التوجه الفاعل لتغيير مسار الأزمة في المنطقة والربط المباشر بين الملفين الفلسطيني والعراقي من خلال ذلك الدور الإسرائيلي.

ونحن نظن - ومعنا الكثيرون - ان الشرق الاوسط يجب أن تعالَج مشكلاته كوحدة متداخلة، وليس كقضايا منفصلة، فالأزمة العراقية مرتبطة بالقضية الفلسطينية. ويجب التعامل مع المنطقة من خلال نظرة شاملة تحتوي الازمة والقضية معاً، بل وتضيف اليهما برامج الاصلاح الذاتي الذي يجب أن تقوم به الدول العربية من دون أن يجري تصديره اليها أو فرضه عليها، فالإصلاح هدف لا يجادل فيه أحد، ولكن قضية التوقيت ومصدر الإيحاء بضرورة الإصلاح الآن كلاهما يؤدي الى درجة من الحساسية لا يجب التوقف عندها، بل يتعين القفز فوقها وخطف الأفكار الأميركية وتحويلها الى شعارات قومية تعبر عن ذاتنا وتعكس مشاكلنا وترسم ملامح مستقبلنا. ويجب ألا ننسى أن إسرائيل قد لعبت دائماً دوراً مستمراً في تشويه صورة العرب والاساءة الى النظم القائمة والسخرية من محاولات إقامة الديموقراطية في بعضها. إنها ايضاً إسرائيل التي كانت تلوح، بمناسبة وبغير مناسبة، أنها واحة الديموقراطية وسط صحراء من الديكتاتوريات والأنظمة الفردية. إن إسرائيل تقف في قلب الحرب المقبلة وإن لم تشارك في مسرح العمليات بشكل مباشر، فهي واضعة الفكر الاستراتيجي ومحددة التصور الجديد لمستقبل المنطقة، ولا أشك في أن مسعاها انما يرتبط بتأمين وجودها والاتجاه نحو التسوية السلمية بمفهوم إسرائيلي يعطي الفلسطينيين الحد الادنى، كما قد يصل بالقضية الى مرحلة التصفية.

اننا لا نوزع الاتهامات، ولكننا نقرأ السياسات. اننا لا نخلط الأوراق، ولكننا نلتقط "الكارت" الرئيسية منها، وندرك عن يقين أن تسوية مشكلات الشرق الاوسط لن تتم من خلال حلول جزئية او مغامرات عسكرية، ولكنها ستأتي فقط من خلال رؤية شاملة ومواجهة صادقة تعتمد على صدقية الأطراف وشفافية المواقف ووضوح الأهداف. ولا يغيب عن الذهن ان الذي ساعد إسرائيل على المضي في مخططها والمشاركة في رسم السياسة الأميركية في المنطقة، خصوصاً حيال المسألة العراقية، إنما هي اخطاؤنا وآخرها ما فعلته سياسة بغداد في العقدين الاخيرين وما سبقهما من ركود عربي وانقسام قومي وضعف بنيوي لمؤسسات الحكم في دول المنطقة وأقطارها المختلفة. لذلك فإننا لا نخترع فكراً، بل ولا نضيف جديداً عندما نقرر بوضوح أن العلاقة بين إسرائيل والمسألة العراقية ليست بحاجة الى دراسات عميقة او براهين مبتكرة، لأن تلك العلاقة واضحة امام كل من يملك البصر والبصيرة في ظلمات الظروف الحالية ومتاهات التطورات الراهنة.

إننا يجب أن نعترف أن السياسة الاقليمية للولايات المتحدة الأميركية في الشرق الاوسط ترتبط ارتباطاً مباشراً بأمن إسرائيل ومصالحها في المنطقة، ويجب ألا يغيب عن الذهن أن تأمين إسرائيل واستخدام الملف العراقي للتأثير سلباً في القضية الفلسطينية هي أمور تقع ضمن اولويات العلاقة الوثيقة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. وعلينا أن نواجه العالم بهذه الحقيقة، نعم إن للنظام في بغداد اخطاءه المعروفة ولسنا في موقع الدفاع عنه، ولكننا حريصون على الشعب العراقي وسلامة المنطقة واستقرارها. اننا نسعى الى تأكيد حقيقة معينة، وهي ان أمن الشرق الأوسط وحدة لا تتجزأ وأن قضاياه متداخلة، بل لعلنا نقول في النهاية "فتش عن إسرائيل" في كل مكان في المنطقة، بدءًا من القضية الفلسطينية، ووصولاً إلى المسألة العراقية.

* كاتب قومي، عضو البرلمان المصري

<الحياة> - لندن

المصطلحات المستخدمة:

دورا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات