المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1388

كانت كلمته هو ولست أنا الذي قالها. لما بلغنا البحر الأبيض لتونا يصحبنا عبد الحكيم سمارة صديقه الذي عرفني اليه ثم صرنا أصدقاء للتو. لم يكن البحر أبيض بل لازوردي يشبه ذلك البرزخ الذي يفصل الأرض عن السماء وعاد منه جلجامش بلا عشبة الخلود .. بحر يأتي من جهة الحلم والمخيلة فكان كثيرا علي أن ألمس ماءه ورمله وأخطو بينهما .. أخطُّ بقدمي ثم أركض كي أرى الماء يمحو الأثر . كانت اللحظة أكبر مني ومن أن أسجلها فورا في كاميرا شعرية فبكيت .

 

إنه الغرائبي .. إنه محمد حمزة غنايم الذي مات، وقد كان عليه أن لا يموت . ففي المرة الأخيرة التي التقيته فيها كان يقول لي : أخطأت أنا فأعرض أنت عن هذا . ولما عاد الى بلاده المتخيلة صار متخَيّلا مثلها يأتي صوته من مكان عميق : ماذا تفعل ؟ يسألني. فقلت أستمع الى غناء صوفي . ثم حدثني بما لا أذكره الآن . ففي الأرجح لم يكن يريد شيئا . وأظن أنه اكتفى بحديث عن جدارية درويش ورغبته في نقلها الى العبرية . ثم عاد صوته الى الغياب ولم نلتق إلا في الكلام عليه هنا أو هناك في صحبة صديق مشترك .

 

غير أني تذكرت لحظتها أنه قال لي في مكتبه في باقة الغربية التي ما أزال أذكر منها ذلك الصف الطويل للسان العرب وأذكر أنني علّقت بالقول يا الله ألسان العرب بهذا الطول فضحك ولم يكن يضحك كثيرا كما عهدته.

كنا في مكتبه في انتظار عبدالحكيم سمارة – وقد حدّثني عنه – كي يصحبنا الى البحر وقال لي إن ترجمته دروبش الى العبرية تمثل تحدّيا بالنسبة له لم أفهمه إلا لاحقا .

كنت قد هاتفت محمدا من بيت الشعر في رام الله , فحدد لي موعدا في احدى مكتبات جنين . ظننت أننا سنلتقي هناك فحسب ، ولم أكن أتخيل أن أرى البحر الذي لم أره إلا في طفولتي المبكرة في بيروت . جاء وكانت أول مرة نلتقي فيها. ذهبنا الى مقهى في الجوار وقال ننتظر عبد الحكيم سمارة الى أن جاء بسيارته القديمة التي " تطرطر" كما لو أنها تسخر أو تتهكم من كل ما يحيط بها . أتخيله الآن جيدا ، بقامته وشعره الذي فيه شيبات قليلة . انتهينا من شاي على عجل وكنت مرتبكا – ولم لا خائفا – من التي بالنسبة لي كانت مغامرة أنا القادم من عمان بتصريح لا يسمح لي بالحركة خارج حدود المنطقة ألف من مناطق السلطة الفلسطينية أيام كانت هناك منطقة ألف وسلطة فلسطينية.

 

انتقلنا من جنين الى باقة الشرقية مرورا بحاجز يحرسه جنود الاحتلال . أخذ عبد الحكيم جواز سفري مني وقال لا تتحدث اليهم أنا أتفاهم معهم . كان الجندي شابا مدججا . وهو ومحمد غيرآبهين لمشهده فيما كنت خائفا . كانت نبرة حكيم لا تخلو من لا مبالاته وهو يقول له : انه قادم لزيارة أهله في باقة الغربية . فرد الجندي : ما في فيزا، مشيرا الى عدم امكانية المرور، فقال عبد الحكيم مخاطبا نفسه : بلاش . ثم استدرنا، عدنا الى منطقة فاصلة بين باقة الغربية وباقة الشرقية ولما أشار محمد من نقطة ما يعبرها العمال صباحا الى بيته ذهلت فلم أكن أتخيل هذا القرب كله بين ما رسخ في وعينا السياسي من مسافة فاصلة بين 48 و67 . لقد انكسر الوعي السياسي المجرد الى احساس حقيقي بالمكان في ذاته بل في عين ذاته مثلما قالت المتصوفة عن أسّ الشيء .

من تلك الرحلة ظلت قيسارية وميناؤها المهجور وبحرها ورملها وكذلك السيارة التي جاء بها جندي وصديقته وقبلته التي اقترنت بالمسدس . من تلك الرحلة لم يبق سوى صوت محمد وعبد الحكيم .

وسمارة لم أره بعد ذلك اليوم بل بعد ذلك البحر إلا في صوت محمد ، وعبره تبادلنا السلام . ولما جاء ثانية أخذاني الى قرية هُجّْر أهلها العام 48 ولم يبق منها سوى بيت المختار المهجور بدوره والذي نبتت حوله أعشاب برية وصبرٌ على نحو غريب، ورفضا أن أتقدم . قالا لي في الطريق الى البيت مثلما في البيت إن الأفاعي تشعر بالقادمين الى المكان فتخرج من مخابئها هائجة فخفت وربما قصدا ذلك كي أخاف فلا أذهب وأتأذى .

عِوَضا عن ذلك ذهبنا الى حديقة مجاورة يطل عليها ذلك البيت . أينما نشاهد آثار سنسلة فثمة بيت هدموه أينما صنوبرة فقد اقتلعوا زيتونة . ذهبنا الى البحر . وما أزال أذكر تلك الحكاية .. يذهب عبد الحكيم أثناء ما كنّا في الحرش في قضاء حاجة لكن لم يكد يغيب حتى عاد ثانية غاضبا من شيء ما ومن نزق مثل طفل كبير ثم الى أن نرى السبب بأم أعيننا فرأينا سيارة فيها رجل وامرأة كما لو أنهما للتو انتهيا من حال حميمة . فضحكنا أكثر حتى انتبه مَنْ كانا في السيارة . ولما رأيت محمدا ذكرته بها فابتسم على نحو غامض ولم يضحك .

وحده يضحك الآن.

كانت لديه كلمة، جاء ثم قالها للبحر ومضى .

بين البكاء ذاك الذي ظلّ في أول السطر وبكائه وحده أرضٌ متخيلة وبحر لازورد ورملُ منفى ينأى بنا ويمتد .

المصطلحات المستخدمة:

شاي

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات