(الحلقة الثانية وقبل الاخيرة)
بقلم : داليا شحوري
كحال المؤرخ توم سيغف، فان د. اوري رام ايضا لا يرى في "ما بعد الصهيونية" ايديولوجية وانما اتجاه او تيار. ولكن خلافا لـ "سيغف" الذي قال لنا في سياق التقرير السابق (الحلقة الاولى من هذا الموضوع، راجع "المشهد"- العدد السابق) ان "الانتفاضة اجهزت على تيار ما بعد الصهيونية"، فان "رام" يعتقد ان تيار ما بعد الصهيونية ليس فقط لم يمت، بل انه لا يزال في بداية طريقه او حتى في طوره الجنيني. وحسب قوله (رام) فان ما بعد الصهيونية هي " الضد او عكس الموت. صحيح ان قلة قليلة هي التي ترفع هذا الشعار او تحمل هذا العنوان، ولكن الوضع ما بعد الصهيوني هو اوسع بكثير من هذا المعنى".
وهو يرى في ما بعد الصهيونية ظاهرة اجتماعية تغلغلت عميقا وتوجد لها اليوم تجليات عديدة، فكرية وثقافية وفنية ابداعية، وهي، حسب "رام"، قائمة ولها حضور في مجالات وميادين حياتية عديدة في اطار وجهة النظر غير الايديولوجية لدى الكثيرين من الاسرائيليين.
ويشير "رام" الى انه توجد اليوم في المؤسسة الاكاديمية الاسرائيلية "نخبة لا يستهان بها من الباحثين المنتمين لتيارات ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية وما بعد الصهيونية وما بعد الماركسية". ويضيف "في الواقع فقد نشأ في البلاد شيء ما يمكن تسميته ب (المكتبة الما بعد صهيونية)، وهي بطبيعة الحال أصغر مما اصطلح على تسميته بـ ( المكتبة اليهودية) ولكنها بالتأكيد مكتبة غنية وهامة للغاية".
في مقال تحت الاعداد عنوانه "عشر سنوات على ما بعد الصهيونية: هل ذهبت هباء ام ترسخت كتيار؟" كتب "رام" يقول انه ومنذ انطلاقة الخطاب ما بعد الصهيوني، تكرس الاكاديمية جزءا هاما من جهودها واعمالها لمحاججة تيار ما بعد الصهيونية ومحاولة دحض افكاره ، واشار الى ان "80% من المؤرخين الاسرائيليين منهمكون في الجدل الدائر حول هذا الموضوع ". واضاف قائلا "قد يكون الحديث حول سقوط او تهاوي ما بعد الصهيونية ( في اعقاب فشل مؤتمر كامب دفيد واندلاع الانتفاضة الثانية - د.شحوري) متسرعا وسابقا لأوانه" . ووفقا لتقديره فان ما بعد الصهيونية" التي تحتجب اليوم تحت سحب الارهاب والتفجيرات واليأس، تحولت مجددا الى خيار واقعي وحقيقي".
ويقول "رام" انه يدور حاليا صراع حول اعادة تعريف الهوية الجماعية في اسرائيل وذلك "بين تيارين، تيار ما بعد الصهيونية، وهو تيار مدني (يدعو الى المساواة في الحقوق ويتبنى وفق هذا الفهم شعار دولة جميع مواطنيها في حدود الخط الاخضر- د. ش) اممي عالمي، وتيار الصهيونية الجديدة، وهو تيار خاص، قبلي يهودي، قومي اثني، اصولي وحتى فاشي في الاطراف".
ويقر "رام" ان تيار ما بعد الصهيونية يواجه اليوم حالة هبوط وانحسار مقارنة مع تيار الصهيونية الجديدة – تيار ما بعد الصهيونية اليميني الذي يمثل المستوطنين- الذي يبدو ان له الغلبة.
ويعتقد "رام" ان هذا الامر لا يعدو كونه وضعا مؤقتا، متذبذبا، وان تيار ما بعد الصهيونية سيعود بقوة وزخم اكبر، وهذا راجع الى كون المشكلات التي يتناولها هذا التيار- الصراع الاسرائيلي الفلسطيني و الجدل حول موضوع الدولة اليهودية الدمقراطية- ما زالت قائمة.
واذا كان "سيغف" يعتقد ان الجدل (الخلاف) حول موضوع الدولة اليهودية والدمقراطية لا يستقطب اليوم اهتمام احد، فان "رام" يعتقد من جهته، بان هذا الخلاف ليس قائمًا وحسب بل ويمكن ان يبلغ في القريب لحظة الحسم، وذلك لان هذا الموضوع "يشكل مفترقا اساسيا في المجتمع الاسرائيلي". وطبقا لوجهة نظر ما بعد الصهيونية، فان مشروع "الدولة اليهودية والدمقراطية وصل الى نهاية طريقه ولم يعد بامكانه الاستمرار لان ذلك يشكل تناقضا داخليا غير قابل للحل" ولذلك، يضيف "رام"، فانه "سيتعين على الدولة ان تختار اذا ما كانت دمقراطية او يهودية" .
يمثل تيار الصهيونية الجديدة في اسرائيل الحزب القومي الديني (المفدال) والمستوطنون اليهود (في الاراضي الفلسطينية المحتلة) واحزاب اليمين المتطرف واجزاء واسعة في حزب الليكود وحركة "شاس" الدينية الشرقية.
ويقول رام : نحن نتوقع الان عودة الخطاب الديني – القومي بقوة، بل وعودة العنصرية والكولونيالية الجديدة في اوضح وابشع اشكالها". واضاف "انها عملية مستمرة منذ اغتيال اسحق رابين والحكومات الفاشلة التي تعاقب على رئاستها بنيامين نتنياهو وايهود باراك واريئيل شارون منذ اندلاع الانتفاضة الثانية ووقوع هجمات الحادي عشر من ايلول في الولايات المتحدة الاميركية".
ان وجود العرب مواطني الدولة، الذين يشكلون "خمسا" من مجموع السكان، ضمن المجتمع المدني، يمكن ان يرغم اسرائيل على اتخاذ موقف حاسم في شأن حقوق الاقلية العربية. ويقول رام "اذا كانت - اسرائيل- لا تريد ان تتحول الى دولة ابارتهايد يهودية فانه يتعين عليها ان تتحول الى دولة دمقراطية مدنية وتعددية".
ويبدي "رام" ( 54 عاما) تفاؤلا فيما يتعلق بمستقبل ما بعد الصهيونية، التي يعتبر نفسه من المنتمين الى تيارها، وذلك على الرغم من انه "من الصعب، حسبما تبدو عليه الامور في الوقت الحالي، رؤية النور في نهاية النفق". ويضيف "نحن نقبع منذ اغتيال رابين، تحت سلطة حكومات تقودنا من كارثة الى اخرى".
ويستطرد "رام" متهما اسرائيل بانها، ورغم كون الصراع مع الفلسطينيين "محدودا" ويمكن حله من خلال تسوية اقليمية، تسعى وتحاول بالقوة ان تقحم نفسها في صراع مع العالم الاسلامي قاطبة. فهي تنخرط بسرور بالغ في نظرية صدام الحضارات، كما ان سلطة شارون تضع اسرائيل في موقع متقدم من هذا الصراع العاتي او التصادم الرهيب".
وحول ما اذا كانت هناك صلة بين ارائه السياسية وعمله الاكاديمي يجيب رام : بالتأكيد، مشيرا الى ان وجهة نظره السياسية مدعومة وممتزجة بتحليل الواقع الاجتماعي وواقع التاريخ السياسي، والذي (اي التحليل) يزاوله بصفته عالم اجتماع.
وقد اضحت وجهة النظر القائلة باستحالة الفصل بين ايديولوجية الباحث وموضوع بحثه او دراسته، بمثابة مدخل لتوجيه النقد المتكرر لتيار ما بعد الصهيونية. لكن "رام" لا يرى في ذلك امرا سلبيا بل على العكس، حيث يقول ان هناك على الدوام صلة بين العمل الاكاديمي للباحث وبين ارائه ووجهات نظره، اما الادعاء القائل بان هناك علومًا اجتماعية موضوعية فهو ادعاء "نظري" مجرد ينبع من فهم مغلوط.
ويعتقد "رام" ان المجتمع الاسرائيلي يشهد اليوم في المقابل ظاهرتين مركزيتين هدامتين لم تبحثا بصورة كافية. الاولى تتمثل في تنامي نظام سياسي كولونيالي جديد يتبدى في انماط واشكال الاحتلال والقمع والابعاد والاضطهاد للفلسطينيين، وكذلك في نمط التمييز البنيوي المتأصل والمستمر تجاه العرب مواطني اسرائيل.
ويقول "رام" ان ذلك يشكل افرازا للصهيونية الجديدة، التي تشجع وتغذي انشاء نظام ابارتهايد تجاه الاقلية العربية في اسرائيل وتجاه الفلسطينيين في المناطق المحتلة، واردف موضحا ان "كل هذه السيرورة المتمثلة بالاحتلال المستمر والاستيطان والعسكرة، تولد واقعا عنيفا، غير متساو يهدد استمرار الدمقراطية في اسرائيل، هذا اذا كانت مثل هذه الدمقراطية قائمة".
الظاهرة الثانية تتمثل، حسب "رام"، في تنامي نظام اجتماعي ليبرالي جديد، يخلق في اسرائيل فجوات طبقية واسعة هي الاخطر في العالم الغربي. ويقول رام " ذلك هو الجانب المظلم لما بعد الصهيونية.. بمعنى اننا حيال عملية اسقاط للتضامن الجماعي، وجهها الاول هو المساواة المدنية، لكن وجهها الثاني، المظلم، يتمثل في تقويض دولة الرفاه وهو وجه ينطوي على اشكالية عويصة جدا".
ويختم "رام" حديثه قائلا : " في علوم الاجتماع والآداب لا نسمع قرعا كافيا لناقوس الخطر او لجرس الانذار، سواء في صدد عدم المساواة الطبقية ام في صدد نظام الابارتهايد".
ليسك: التيار لا يزال قائما في المؤسسة الأكاديمية
عالم الاجتماع، البروفيسور موشيه ليسك، الذي يعارض ما بعد الصهيونية ويرى في وجودها الذي مضى عليه عشر سنوات " السنوات الضائعة او المهدورة في علم الاجتماع الاسرائيلي"، يعتقد رغم وجهة نظره هذه ، ان تيار ما بعد الصهيونية لا يزال قائما في العالم الاكاديمي على الاقل. ويقول ان هذا التيار ظهر في البداية في الاكاديمية فقط، معللا انتشاره السريع في علوم المجتمع وفي اوساط المؤرخين بحكم ما طرأ على الجامعات الاسرائيلية ابان تلك الفترة من توسع كبير اضافة الى غياب الكثيرين من قدامى الاكاديميين عن ساحة هذه الجامعات سواء نتيجة للتقاعد او الوفاة. ويستطرد "ليسك" مشيرا الى ان الشبان ما بعد الصهيونيين الذين عملوا في الجامعات اشغلوا في البداية وظائف بسيطة، لكنهم وصلوا تدريجيا الى مواقع ومناصب رفيعة بل وطرحوا، او عمّدوا، تلاميذ جددا في اطار تيارهم، مضيفا انهم اصبحوا اليوم الاغلبية المطلقة، في المراتب الوسيطة "وربما بلغت ما بعد الصهيونية ذروتها"، حسب قول ليسك.
واوضح ان احد اعراض هذا الامر يتمثل في وجود فوج ثالث من الطلبة الجامعيين الحاصلين على شهادة الدكتوراة في علم الاجتماع، والذين كفروا بـ "ما بعد الصهيونية". واضاف : هذا الفوج ليس كبيرا، اذ انه يضم بضع عشرات من خريجي جامعة تل ابيب بشكل خاص، وجامعات اخرى، والذين احتجوا ازاء استخدام المحاضرين للدروس كمنتدى لنقل وتمرير رسائل ايديولوجية، وقالوا ان المحاضرين ما بعد الصهيونيين يسدون امامهم الاتجاه او الطريق الى دراسات وابحاث ما يسمى بـ "رجالات المدرسة الاورشليمية" (المدرسة الصهيونية الرسمية) في علم الاجتماع، اذا ان هذه الابحاث لا تظهر في الببلوغرافيا، ولا يجري تدريسها، واذا ما تم التطرق اليها في الدروس والمحاضرات فان ذلك لا يتم الا من باب الاساءة والقذف والتشهير، حسب قول هؤلاء الطلبة او الخريجين المعارضين لـ "ما بعد الصهيونية".
وينتقد "ليسك" علماء الاجتماع ما بعد الصهيونيين الذين لا يدرسون ولا يبحثون ما يعتبره "ليسك" المسائل المركزية في المجتمع الاسرائيلي، كموجات الهجرة وانهيار سلطة القانون وتفشي العنف والجريمة في هذا المجتمع، مفضلين الاهتمام بقضية الصراع اليهودي – الفلسطيني ومسائل ثانوية في الحياة الاجتماعية الاسرائيلية، حسبما يرى ليسك.
( جريدة "هآرتس")