نجح فنيّ إيراني يدعى جلال الدين طاهري، كان يعمل في المفاعل النووي، في الهرب إلى أوروبا حيث كشف النقاب هناك عن برامج آيات الله لإنتاج الأسلحة النووية.
استقبل طاهري في مختلف أنحاء العالم استقبال الأبطال. اقترحت منظمات السلام ترشيحه للحصول على جائزة نوبل للسلام. الرئيس بوش رفع من شأنه وكال له المديح. أريئيل شارون دعاه لزيارة إسرائيل وللعيش فيها، حتى أنه كنّاه "عزيز أمم العالم". أعلنت آيات الله عنه خائنا، كافرا، صليبيا وصهيونيا.
هذه القصة هي من وحي الخيال. إلا أنها توازي قصة مردخاي فعنونو موازاة تامة، وهو الشخص الذي يرى فيه الإسرائيليون خائنا بغيضا. هذا الأمر يثبت أن الخيانة، مثلها مثل الإباحية، هي أمر يتعلق بالجغرافيا.
لقد استغللت الأسبوع الماضي الامتياز الذي يمنحني إياه كوني عضو كنيست سابقا وشاركت في جلسة لجنة الدستور والقانون التابعة للكنيست التي ناقشت قضية فعنونو. خلال النقاش، كال أعضاء الكنيست الشتائم أحدهم تجاه الآخر بلغة سوقية (وأنا لا أريد هنا أن أهين السوق). عضوا كنيست من الليكود هما روني بار- أون (الذي شغل ذات مرة منصب المستشار القضائي للحكومة لبضع ساعات) وميخائيل حزّان صرخا قائلين إن فعنونو لا يستحق حقوق الإنسان، "لأنه ليس إنسانا". يجدر التنويه إلى أن رئيس اللجنة، ميخائيل إيتان، وهو من الليكود أيضا، تحفّظ من هذه الأقوال بشدّة.
فعنونو الذي نشر في صحيفة بريطانية بعض الأسرار النووية لإسرائيل، اختطف من قبل الموساد وحوكم في إسرائيل. لقد قضى فترة محكوميته كاملة وهي 18 سنة سجن، وقد احتُجز بحبس انفرادي تام معظم هذا الوقت. (لقد روى لي أنه بهدف الحفاظ على سلامة عقله، قرأ "العهد الجديد" مرارا وتكرارا بصوت مرتفع باللغة الإنجليزية، وبهذه الطريقة حسّن إلمامه بهذه اللغة بشكل كبير وهو يصرّ الآن على التحدث بها).
فور إطلاق سراحه من السجن فُرضت عليه مجموعة من التقييدات، فهو يمنع من مغادرة البلاد ويمنع من التنقل داخلها دون التبليغ عن هذا مسبقا، يمنع من التحدث مع الأجانب ويمنع من إجراء المقابلات مع وسائل الإعلام، وغيرها. لقد صادقت المحكمة العليا على هذه التقييدات، أما فعنونو فقد خرق معظمها وقد قٌدّمت بحقه قبل عدة أسابيع لائحة اتهام جنائية جديدة حول خرق التقييدات.
كان سريان مفعول هذه التقييدات لمدة سنة واحدة وقد انتهت الأسبوع الماضي. كان من المنتظر أن تقوم لجنة الكنيست بمناقشة إمكانية تجديد التقييدات، إلا أنه قبل عدة ساعات من التئام اللجنة، وقّع وزير الداخلية، أوفير بينيس (حزب العمل)، على أمر يمدّد منع مغادرته للبلاد لمدة سنة إضافية، وقد وقّع قائد الجبهة الداخلية على تمديد سريان مفعول سائر التقييدات.
وقد شرح ممثل المستشار القضائي للجنة تعليلات الحكومة لهذا التمديد: (أ) فعنونو ما زال "يختزن في رأسه" أسرارا خطيرة، (ب) إنه يتمتّع بذاكرة "استثنائية"، (ج) عندما ستسنح له الفرصة سيكشف النقاب عن هذه الأسرار خارج البلاد.
ما هي الإثباتات على ذلك؟
(أ) في إحدى الرسائل التي كتبها في السجن، أبلغ فعنونو المرسل إليه خارج البلاد أنه ما زالت لديه العديد من الأسرار التي لم يكشف النقاب عنها بعد. وقد قال إنه عاقد العزم على كشف هذه الأسرار عندما ستسنح له الفرصة بذلك.
(ب) قبل سنتين من إطلاق سراحه (أي بعد 16 سنة من عمله في المفاعل النووي) قام برسم تخطيطات مفصّلة ودقيقة للغاية، من ذاكرته، عن عمليات الإنتاج. لقد عُثر على هذه التخطيطات من بين أكثر من ألف مستند وُجدت في زنزانته.
هذه الحقائق محيّرة للغاية. إن شخصا يرسل الرسائل من داخل السجن، يعلم بطبيعة الحال أنها ستمر تحت يد الرقابة. كان من شأن فعنونو أن يتأكد من أن رسائله ستُقرأ، ليس من قبل سلطات السجن فحسب بل من قبل الموساد أيضا. عندما رسم مخططاته كان يعلم بالتأكيد بأنها ستكتشف.
يشير كل ذلك إلا أنه قد عقد النية منذ البداية على استفزاز سجّانيه وأن يثبت لهم أنه لم ييأس. من الصعب منح هذه المستندات أهمية كبيرة، كما فعلت المحكمة العليا عندما صادقت على التقييدات قبل ثمانية أشهر. إن الشخص الذي ينوي الكشف عن أسرار خطيرة لا يبلّغ الموساد بذلك مسبقا ولا يرسم مخططات ليستغلها ملاحقوه.
لندخل الآن إلى التفاصيل:
(أ) هل "يختزن في رأسه" أسرارا لم يكشف النقاب عنها؟
غير معقول.
أولا، تتطرق المعلومات التي لدى فعنونو إلى طرق كان معمولا بها قبل 18 سنة وأكثر. هل يمكن لمثل هذه المعلومات أن تكون عملية اليوم؟ يصعب تصديق ذلك. وكما قالت عضو الكنيست زهافا غالئون (ياحد) في الاجتماع: "يخيفني جدا التفكير في أن التقنيات النووية في إسرائيل لم تتطور أبدا خلال 19 سنة".
ثانيا، عشية نشر المعلومات في الصحيفة البريطانية، تم التحقيق مع فعنونو طيلة يومين متتاليين من قبل أحد أهم العلماء النوويين في العالم. من الصعب التصديق أنه قد بقيت بحوزته أسرار بعد ذلك.
ثالثا، ليس من المعقول التفكير بأنه كان حذقا إلى هذا الحد ليقرّر قبل 18 سنة أن "يختزن في رأسه" أسرارا بهدف نشرها بعد مضي 20 سنة فقط.
رابعا، فعنونو ليس عالما. لقد عمل في المفاعل كفني. وحتى وإن كان يتمتع بذاكرة "استثنائية"، وحتى وإن كانت مخططاته التي رسمها في السجن غاية في الدقة، يصعب التصديق بأن لها قيمة حاليا.
إذا كان الأمر كذلك فما الفائدة من التقييدات التي فُرضت عليه مجددا؟
يدّعي ممثل المستشار القضائي بأن هذه التقييدات لا تهدف إلى معاقبته على أمور قام بها في الماضي وهو أمر غير قانوني (لأنه كان قد حوكم وعوقب بسببها وقد قضى مدة محكوميته كاملة)، بل بهدف منع جرائم جديدة (الكشف عن أسرار أخرى).
أشك في ذلك. لا يمكن إسكات فعنونو. العالم بأسره يهتم به وبقدر ما تتم ملاحقته هكذا يزيد هذا الاهتمام. ليس من الممكن أيضا ردع فعنونو فهو إنسان لا يرتدع، بل على العكس. لا يمكن منعه من الالتقاء بمواطنين أجانب أيضا.
(جلست قبل عدة أشهر في حديقة فندق "أميركان كولوني" في القدس الشرقية وتحدّثت مع الممثلة البريطانية فانسا ردغريف، وهي ناشطة من أجل السلام الإسرائيلي الفلسطيني. فجأة رأيت فعنونو حيث كان يتنزه في المكان. دعوته للجلوس معنا. سألته ردغريف باهتمام عن تجربته في السجن. كيف يمكن تحاشي ذلك؟)
بقي تعليل واحد فقط، بسيط وبشع: الانتقام. لا يمكن ليحيئيل حوريف، رئيس القسم الأمني في وزارة الدفاع، أن يسامح فعنونو على استهزائه بالترتيبات الأمنية التي وضعها حوريف، فقد تجوّل بحرية في أقسام المفاعل التي لم يعمل فيها أيضا، التقط الصور كما يحلو له وهرّبها إلى خارج البلاد. هذا الأمر يثير السّخط حقا. إلا أن للانتقام حدودًا.
ناهيك عن أن المستشار القضائي كان قد اعترف، في سياق استجواب قدمته عضو الكنيست إيتي ليفني، بأن تلك التعليلات التي أدت الأسبوع الماضي إلى تمديد فترة التقييدات لسنة إضافية، ستكون سارية المفعول بعد سنة أيضا، بعد خمس سنوات وبعد عشر سنوات. بما معناه: من شأن التقييدات أن تستمر مدى الحياة.
أما رأيي الشخصي حول هذا الموضوع الجوهري فهو ما يلي:
السلاح النووي هو تهديد على وجودنا جميعا. من غير الممكن، ولوقت طويل، منع تسلح دول أخرى في المنطقة (وعلى رأسها إيران) بهذا السلاح. أنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل (الكيماوية والبيولوجية) باتت موجودة بحوزة الدول المجاورة.
لقد كانت إسرائيل، وعلى مدى سنوات، تحتكر السلاح النووي في المنطقة بشكل حصري. لقد حذرنا من أن هذا الاحتكار هو احتكار مؤقت وأنه يجب استغلال الوقت للتوصل إلى السلام. الثقة الحمقاء بالنفس لدى زعماء إسرائيل منعت ذلك.
يجب أن يكون الهدف الآن هو التوصل إلى نزع أسلحة الدمار الشامل من المنطقة كلها، بمراقبة دولية متبادلة وناجعة، كجزء من السلام الشامل. هذا ممكن، هذا عملي. عندما يقرع فعنونو الأجراس فإنه يسهم في استيقاظ الجمهور.
هناك أهمية أخرى لما يقوم به: لقد وجّه الاهتمام، للمرة الأولى، لدى الجمهور الإسرائيلي إلى الخطر المحدق الكامن في المفاعل النووي القديم، الذي وصل عمره إلى 40 سنة. لقد قدّم بعض العاملين في المفاعل الآن دعوى قضائية يدّعون فيها أنهم مرضوا بمرض السرطان (وبعضهم توفي) بسبب عيوب وقائية. ماذا سيحدث لو حدثت لدينا كارثة مثلما حدث في تشيرنوبل؟ أو إذا حدثت هزة أرضية أو إذا حدث قصف بالصواريخ؟ من يفكر في ذلك؟ من هو المسئول؟ من يراقب المسئولين؟
فعنونو يقرع الأجراس. ليس السؤال فيما إذا كان شخصًا محبّبًا إلى القلوب، وإذا كانت آراؤه مقبولة وما هي نظرته إلى الدولة بعد 12 سنة من الحبس الانفرادي. السؤال هو فيما إذا كان هذا الرجل يؤدي دورا إيجابيا.
أنا أعتقد أنه كذلك.