المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1011

''ما أجمل الحياة!'' تلك هي الرسالة الرئيسية التي تبعث بها اللافتات الكبيرة المعلقة في شوارع غزة ومبانيها هذين اليومين، وإن جاءت هذه الرسالة على لسان مستورد للثلاجات الأوروبية·

 

غير أننا نلمح الرسالة نفسها في مستوى آخر، من خلال صور الفلسطينيين العابرين من قطاع غزة إلى مصر، وهو معبر لطالما بقي لمدة طويلة تحت الحراسة الأمنية المشددة من قبل الجنود الإسرائيليين· وفي الجانب الإسرائيلي، فإن الحياة تبدو جيدة وجميلة هناك أيضاً· ذلك أن أعمال العنف والهجمات الفلسطينية على المدنيين الإسرائيليين قد انخفضت إلى معدل هجمة واحدة كل ثلاثة أشهر، بينما عادت السياحة الإسرائيلية إلى سابق نهضتها وانتعاشها، فضلاً عن عودة المستثمرين في مجال التكنولوجيا المتقدمة لمزاولة نشاطهم وعملهم· أما على الصعيد السياسي، فقد فتح انتخاب عمير بيرتس رئيس أكبر اتحاد نقابي في البلاد، لزعامة حزب ''العمل'' مؤخراً، نافذة لضخ دماء قيادية جديدة في شرايين أحد الأحزاب السياسية الإسرائيلية الرئيسية، إلى جانب الآفاق الواسعة التي فتحها أمام آمال وتطلعات شرائح كبيرة من المجتمع الإسرائيلي، ظلت دائماً تحت وطأة التهميش والإهمال· كما يمثل خروج أريئيل شارون من حزب ''الليكود''، مؤشراً آخر على أن تسفر الانتخابات العامة التي ستجرى في شهر مارس المقبل، عن تحالف سياسي لأحزاب الوسط بقيادة شارون، لا يستبعد أن ينجح أخيراً في التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع المتبادل مع الفلسطينيين·

لكن وراء هذه الأكمة يختبئ واقع آخر جد مرير ومأساوي· ذلك أن غزة ليست تحت السيطرة الفعلية للسلطة الفلسطينية، وإنما هي تحت قبضة مجموعات من الفصائل ولوردات الحرب والجماعات المسلحة ورؤساء منظمات العنف الفلسطيني· كما تفتقر غزة إلى السلطة القانونية المستقلة وإلى حكم القانون· أما المؤسسات التعليمية والاجتماعية، فقد تداعت تماماً هناك· وتكتمل هذه الصورة المأساوية بالصعود الصاروخي لمعدلات البطالة بين سكان القطاع، إذ تبلغ نسبتها نحو 50 في المائة! وفي أعقاب ثلاثة شهور من الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من القطاع، لم تبرق أي بارقة أو إشارة على تجدد دورة النشاط الاقتصادي· كما لا يوجد ما يشير إلى تنفيذ خطط إسكانية جديدة أو أية جهود لإعادة بناء وتعمير الطرق والمرافق الحيوية الأساسية التي دمرتها أربع سنوات من الانتفاضة والعنف المستمرين·

وفي ظل بيئة كهذه، فإنه ليس ثمة عجب أن تكون اليد الطولى لحركة ''حماس''، وأن تكون لها كل هذه الشعبية في القطاع· فما يميز هذه الحركة أنها تجمع بين التطرف والقدرات القتالية العالية، إلى جانب كفاءة الخدمات الاجتماعية التي تقدمها للمواطنين· وفيما لو أجريت انتخابات المجلس التشريعي في موعدها المحدد في شهر يناير المقبل، فمن المرجح أن تفوز ''حماس'' بنصف مقاعد المجلس في القطاع، مما يضعها في مركز القوة والهيمنة على سياساته· وقد انتهت أربع سنوات من الانتفاضة الفلسطينية، إلى تكيف الإسرائيليين مع واقع العنف والموت والدمار·

وبالنسبة لهم فإن الانسحاب الذي تم مؤخراً من القطاع، إنما يروق لهم باعتباره انفصالاً أحادي الجانب، تمكنت بفضله إسرائيل من إخلاء مسؤوليتها إزاء 1,3 مليون فلسطيني يعيشون هناك!

وفيما لو قدر للقطاع أن تحكمه ''دولة فاشلة'' تجنح إلى العنف- كما هي حال حركة ''حماس''- فعندها لن تتردد إسرائيل في إغلاق جميع المعابر المؤدية منه وإليه، مع العلم بأن هذه المعابر بالكاد تفتح أمام الفلسطينيين أصلاً، إلى جانب الاعتماد الكامل على جدارها الأمني العازل، وإستراتيجية الردع العسكري لحماية مواطنيها من مخاطر الهجمات والاعتداءات·

والمنطق نفسه يحكم خروج شارون من حزبه القديم، حزب ''الليكود''، فهو يدرك كذلك رغبة الإسرائيليين في الانفصال عن فلسطينيي الضفة الغربية· بيد أن ردة حزب ''الليكود'' إزاء أي محاولة لتنفيذ خطة للانسحاب من هناك، ستكون أكثر شراسة وعنفاً من تلك التي صحبت وسبقت تنفيذ الانسحاب الأخير من قطاع غزة·

وعلى الرغم من تعهد شارون والتزامه بـ''خريطة الطريق'' التي وضعتها الرباعية الدولية المؤلفة من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، بما يجب أن تفضي إليه من إبرام اتفاقية سلام بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، إلا أن لشارون رؤية مختلفة جداً للسيناريو الذي ينتهي به هذا النزاع· ولا علاقة لسيناريو شارون المعلن للإسرائيليين، بأي اتفاق سلام يجري التفاوض عليه مع شريك فلسطيني، وإنما يتمحور هذا السيناريو حول الإعلان عن دولة قوية ذات أغلبية يهودية طاغية، تبسط هيمنتها وسيطرتها التامة على مدينة القدس الموحدة، تحت العلم الإسرائيلي·

وها قد مضى شارون خطوات بعيدة في ترجمة هذا السيناريو أو الرؤية إلى واقع فعلي، وذلك ببنائه الجدار الأمني العازل حول مدينة القدس وأجزاء واسعة من المستوطنات اليهودية المقامة في الضفة الغربية· ولدى الفراغ من تشييد هذا الجدار بكامل حدوده وامتداداته، وفيما لو أعيد انتخاب شارون مجدداً لرئاسة مجلس الوزراء، فإن من الأرجح أن تواصل الأغلبية الإسرائيلية ضغوطها الحالية المطالبة بالمزيد من الانسحاب أحادي الجانب، على أن يتم الانسحاب هذه المرة من أراضي الضفة الغربية، وأن يستجيب شارون لهذه الضغوط· والنتيجة النهائية المرجحة، هي سيطرة الفلسطينيين على 70 في المائة من الضفة الغربية، مقابل انفراد إسرائيل بمدينة القدس ووادي الأردن· فهل يقف المجتمع الدولي والإقليمي مكتوف اليدين أمام هذا السيناريو؟

 

(*) الكاتب سفير الولايات المتحدة الأسبق في إسرائيل والمقال نشر من قبل خدمة ''نيويورك تايمز''

المصطلحات المستخدمة:

الليكود, عمير بيرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات