مع انهيار الإمبراطوريات القديمة، طمح اليهود إلى السيطرة على وطنهم التاريخي. لكن مجموعة أخرى اعتقدت أنه وطنها أيضا.
إنه تاريخ يروى عادة من خلال واحد من فنين قصصيين: صهيوني أو فلسطيني. يعتمد مدى بروز أحدهما على الآخر على الميزان السياسي للقوة. من هنا، الرواية الإسرائيلية معروفة أكثر في الغرب، أما تلك التي يعرضها الطرف الأضعف، الفلسطينيون، فهي أقل انتشارا بكثير.
من وجهة النظر الإسرائيلية، تبدأ القصة من زمن التوراة، مع الوعد المقدس الذي قطعه الله لليهود بأرض إسرائيل. تستمر مع مملكتي داوود وسليمان المتألقتين، إلى انهيار الدولة اليهودية في أيام الرومان. نفى الرومان اليهود وشتتوهم في أنحاء العالم إلى أن بدأوا يستردون الأرض في القرن التاسع عشر. مجّد شعب الشتات الوطن في صلواتهم، وبقي متعلقا به عبر تواجد مستمر لأقلية يهودية على الأرض. أصبح التوق والانتماء إلى فلسطين حجر الزاوية للصهيونية.
ومن ثم، في القرن التاسع عشر، ولدت القومية اليهودية الحديثة في أوروبا كرد من اليهود على الإحساس المتنامي بفقدان الأمن في بيئة مسيحية معادية، وكجزء من موجة من القومية الرومانسية في مختلف أنحاء القارة. أمنية إنهاء مأزق اليهود الأوروبيين والرغبة في التحول إلى أمة ورؤيا العودة إلى فلسطين، كلها أمور تجلت في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل في العام 1897.
تعاطفت بريطانيا مع المشروع الصهيوني. بل أكثر من ذلك، رغبت في استعمار فلسطين كجزء من صراعها مع غيرها من القوى الاستعمارية حول نهب الإمبراطورية العثمانية المتفسخة. وفرت الحرب العالمية الأولى الفرصة لصهر الاستراتيجية الإمبريالية البريطانية مع الحلم الصهيوني باسترداد (فلسطين). في تشرين الثاني العام 1917، عبر اللورد بلفور، وزير الخارجية البريطاني في ذلك الحين، عن التزام حكومته ببناء وطن قومي لليهود، شرط ألا يضر بمصالح السكان الفلسطينيين الأصليين.
لكنه أضر بالفعل بهذه المصالح. رفض الفلسطينيون الهوية الجديدة التي فرضت على وطنهم. تاقوا إلى الاستقلال، ضمن جمهورية عربية اولا، ومن ثم، عندما فشل ذلك في أن يتحقق، كدولة أمة. تحدى كلا الحلمين، ليس فقط الحركة الصهيونية، وإنما أيضا القوى الأوروبية التي رغبت في السيطرة على ممتلكاتها الجديدة في العالم العربي لأطول فترة ممكنة. اقترحت تسوية بوساطة وودرو ويلسون، الرئيس الأميركي في ذلك الحين: ضمنت عصبة الأمم انتدابا للقوى الاستعمارية من أجل الإشراف على، وضمان تقدم، ممتلكاتها الجديدة نحو الاستقلال.
ومع ذلك، أنتج تضارب المصالح حركة مناهضة للاستعمار في جميع أنحاء الشرق الأوسط، انتهت فقط عندما تم إخراج الأوروبيين من المنطقة مع حلول منتصف القرن العشرين. غير أنها لم تنته في فلسطين التي حكمتها بريطانيا كبلد خاضع للانتداب منذ العام 1920.
قضيتان كانتا تسيران الحركة الوطنية الفلسطينية الناشئة: إنهاء الاحتلال البريطاني، ومواجهة التواجد الصهيوني المتنامي على الأرض. كان المشروع الصهيوني، من جهة أخرى، يرتكز على توسيع المستوطنات الصهيونية في فلسطين، عبر شراء الأراضي والهجرة اليهودية المكثفة. باع الملاكون العرب أراضيهم لليهود. أرسى القادة الصهاينة أسس الدولة الإسرائيلية المستقبلية على هذه الأرض، فيما كانت الغالبية الفلسطينية تتصارع مع الحكم الاستعماري البريطاني.
عزز صعود النازية والفاشية في أوروبا الإحساس الصهيوني بضرورة العجلة، بينما أضعف الشعور حيال تطلعات السكان الأصليين. كان هؤلاء لا يزالون يشكلون ثلثي عدد السكان في العام 1936، ومع ذلك كانت القيادة الصهيونية قد بدأت تتحدث علنا حول تهجير الفلسطينيين إلى مكان آخر.
تركت ثورة فلسطينية، تم إجهاضها، ضد الحكم البريطاني والصهيونية بين العامين 1936 و1939، الجماعات المحلية من دون قيادة وتم نفي العديد من سياسييها وبدأت الأنظمة العربية المجاورة تفرض نفوذها عليها. في شباط العام 1947، قررت بريطانيا أنها نالت كفايتها من هذه الأرض المضطربة واختارت أن تغادرها كجزء من التراجع الاستعماري العام للإمبراطورية البريطانية. لكن المستوطنين اليهود والفلسطينيين الأصليين بلغوا الأيام الأخيرة للحكم البريطاني في ظروف مختلفة جدا: أقام اليهود بنية تحتية للدولة المقبلة. أما الفلسطينيون فكانوا يأملون فقط في أن ينقذهم العالم العربي.
أحالت بريطانيا القضية إلى الأمم المتحدة. قبلت لجنتها حول فلسطين (اونسكوب) الفكرة الصهيونية بتقسيم الأرض. كان التقسيم غير مقبول لدى الفلسطينيين الذين نظروا إلى الصهيونية كحركة استعمارية مصممة على أخذ أراضيهم بالقوة. لم يردع، لا الرفض الفلسطيني ولا تهديد العالم العربي بتحدي التقسيم بالقوة، الأمم المتحدة التي مضت قدما في خطتها بتقسيم الأرض بالكاد نصفين. تبنت ذلك في قرار صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني 1947.
غادر البريطانيون في أيار العام 1948. حتى قبل بدء انسحابهم في آذار، قرر القادة الصهاينة أن الرفض العربي للتقسيم يخول الشعب اليهودي المضي قدما بخطتين: أخذ من الفلسطينيين أكثر من الذي منحته الأمم المتحدة لليهود، وطرد الفلسطينيين، الذين يعيشون في مناطق تعتبر حيوية لخلق الدولة اليهودية، بالقوة.
في أيار العام 1948، دخل فلسطين 20 ألف جندي من الدول العربية المجاورة وقاتلوا عددا موازيا من الجنود اليهود على حدود الدولة الجديدة. في داخل الدولة، استمرت الحرب، والتطهير العرقي للفلسطينيين، اللذان بدآ قبل ذلك بشهرين. دمرت مئات القرى وأخليت مدن من سكانها وارتكبت عشرات المجازر في خلال عملية طرد الفلسطينيين. احتلت القوات اليهودية في آخر الأمر 78 في المئة من فلسطين المنتدبة حيث عاش 900 ألف فلسطيني إلى جانب 600 ألف يهودي.
أصبحت الدولة اليهودية واقعا منجزا، وضاعت فلسطين. قسمت ال22 في المئة من فلسطين المنتدبة بين الأردن (الذي ضم ما يعرف اليوم بالضفة الغربية) ومصر (التي حكمت قطاع غزة). ترك 150 ألف فلسطيني يعيشون داخل إسرائيل: هؤلاء المطرودون كانوا في مخيمات للاجئين منتشرة في المنطقة كلها.
في أوائل ستينيات القرن الماضي، بدأ الفلسطينيون يتعافون من صدمة العام 1948 التي يسمونها النكبة. استندت الصحوة الجديدة، التي قادها قاطنون في مخيمات اللاجئين، على قرار الأمم المتحدة رقم 194 الذي اعتمد في كانون الأول 1948 والذي كرس عودة اللاجئين غير المشروطة إلى منازلهم. كانت هذه المنازل قد ذهبت، أزيلت من مكانها من قبل الإسرائيليين الذي أقاموا مكانها الغابات أو بنوا المستوطنات اليهودية.
أنشأ اللاجئون "فتح"، وهي حركة لخصت رغبة العودة وبدأت حرب عصابات لعرض القضية الفلسطينية. كان العالم العربي، تحت قيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، مجندا للقضية واخترع منظمة التحرير الفلسطينية. اعتمد عبد الناصر سياسة حافة الهاوية، مهددا إسرائيل بعقوبات وبحرب. مكنت هذه التكتيكات إسرائيل في العام 1967 من شن حرب خاطفة من ستة أيام كعمل وقائي من أجل الدفاع عن نفسها ضد ما أسمته خطة العرب كلهم لتدميرها. مع نهاية حرب حزيران للعام 1967، سيطرت إسرائيل على مئة في المئة من فلسطين. وأكثر من ذلك بكثير: احتلت هضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية. سيطرت "فتح"، التي فقدت إيمانها بالعمل العربي، على منظمة التحرير.
بين العامين 1967 و1973، جرت محاولات عدة، قامت الأمم المتحدة بالأولى منها، ثم الولايات المتحدة، لحل المشكلة. من وجهة نظر حافظي السلام، تقلصت فلسطين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة. كان هذا الجزء فقط قابلا للتفاوض؛ تم تجاهل التطهير العرقي للعام 1948 كقضية. لم يكن هناك أي شريك فلسطيني لاتفاق كهذا.
حاول هجوم مفاجئ سوري مصري في تشرين الأول 1973 إصلاح التوازن. لكنه كان مجديا فقط للمصريين. استعادوا أرضهم بعدما قام رئيسهم، أنور السادات، بزيارة تاريخية إلى القدس في تشرين الثاني 1977، ومن ثم وقع معاهدة سلام مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن.
في الوقت نفسه، شجع بيغن توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة، مدعوما من قبل حركة استيطانية يهودية مسيحانية، غوش ايمونيم. لقد سمح أيضا لوزير دفاعه، اريئيل شارون، بأن يحاول تدمير منظمة التحرير الفلسطينية كمنظمة تمثل الفلسطينيين. بعد العام 1967 حاولت منظمة التحرير أن تقيم مقرها في الأردن، لكن ذلك أثار مخاوف من إمكانية سيطرة الفلسطينيين على المملكة الأردنية الهاشمية؛ أعطى خطف الطائرات في بداية سبعينيات القرن الماضي الأردن سببا لطرد منظمة التحرير. عندها تمركزت في جنوب لبنان حيث شنت حرب عصابات ضد إسرائيل. غير أن شارون غزا، في العام 1982، لبنان ونجح في إجبار الحركة على الخروج منه إلى تونس.
حتى من دون مساعدة منظمة التحرير، حاول السكان في الأراضي المحتلة هز الاحتلال العسكري الإسرائيلي. في كانون الأول 1987، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى. أطلق ذلك في آخر الأمر تشكيلة من مبادرات السلام، أكثرها أهمية كانت اتفاقات أوسلو التي وقعت في 13 أيلول 1993 في واشنطن.
أدخل هذا الفصل الجديد من صنع السلام إسرائيل ومنظمة التحرير في اتفاق ثنائي. مكن أيضا الأردن من توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل في العام 1994. استمرت عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية لسبع سنوات. أخيرا، في العام 2000، بدا الرئيس بيل كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك وكأنهما يقدمان للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات مخرجا. لكن المحادثات انهارت.
ولد الإحباط والحرمان في فلسطين المحتلة حركة إسلامية أصولية بدأت حربا إرهابية ضد إسرائيل في التسعينيات مستخدمة التفجيرات الانتحارية كاستراتيجية أساسية. مكنت كل من هذه القنابل البشرية، بقتلها العديد من الأشخاص الأبرياء، إسرائيل من الانتقام بعقوبات جماعية بينها تدمير المنازل والطرد والاغتيال.
بهذه الطريقة الكئيبة يستمر الصراع التاريخي، من دون حل.
(ترجمة إيلي شلهوب)
(*) استاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا وأحد ابرز "المؤرخين الجدد" في اسرائيل. النص مترجم عن عدد خاص بالقضية الفلسطينية اصدرته مجلة "نيوستاتسمان" البريطانية.