7 أطفال من جيل 8 - 14 عاماً يضطرون للعمل في سوق "محانيه يهودا" (في القدس الغربية)، بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية لعائلاتهم، فيتعرضون الى خطر الموت، وإذا نجوا منه، يتعرضون لخطر الانحراف الى تعاطي المخدرات أو الكحول. واذا نجوا منه، يتعرضون لخطر الاعتداء الجنسي أو الجسدي. واذا نجوا منه، يتعرضون للاستغلال الاقتصادي البشع. وهذا لا نجاة منه!
الطفل لم يتعد العاشرة من عمره. كان يقود عربة خضار خلف ذلك المتدين اليهودي، الذي سبقه مهرولاً نحو سيارته ونظراته تنطلق في كل الاتجاهات وكأنه يعمل في جهاز الاستخبارات مهمته مراقبة التحركات. طفل فلسطيني من الخليل اضطر الى ترك مقاعد الدراسة بعدما اعتُقل والده وخرج ليبحث عن لقمة عيش لاخوته الصغار.
كان المتدين الإسرائيلي، المعتاد على شراء حاجياته من سوق "محانيه يهودا" القائم في قلب مدينة القدس الغربية، يحاول الوصول إلى السيارة بأسرع وقت خوفاً من وقوع عملية قد تصيبه هذه المرة مباشرة. نظراته الى كل الاتجاهات لم تكن خوفاً من ذلك الطفل فحسب، إنما من شخص آخر قد يكون اتفق مع الطفل الفلسطيني على التعاون لتنفيذ عملية. فهكذا يعتقد الاسرائيليون الذين يرفضون وجود أي فلسطيني في المناطق اليهودية، فهذا المتدين غير مقتنع بموقف اصحاب البسطات اليهود الذين وافقوا على تشغيل الأطفال الفلسطينيين. وهو يؤمن ان هذه السوق التي تعرضت لأربع عمليات استشهادية على الأقل أدت إلى سقوط العشرات من الاسرائيليين لا تزال هدفاً للتنظيمات الفلسطينية، وقد يستخدم بعضهم الأطفال وسيلة لتنفيذ العملية، كما يعتقد.
في يوم وصولنا إلى السوق، كانت الدبابات الإسرائيلية انسحبت للتو من بيت حانون بعدما قتلت ثمانية فلسطينيين وتركت وراءها دماراً كبيراً. وازاء ذلك تزايدت تهديدات التنظيمات الفلسطينية بالرد على العمليات الإسرائيلية. وكان الخوف يسيطر على السوق أكثر من أي وقت مضى، الأمر الذي حوَّل كل عربي فلسطيني مشبوهاً في نظر الاسرائيليين. وهكذا أيضاً كانت حال ذلك الطفل الذي كادت عربة الخضار تغطي معظم جسده الصغير، فهو ليس مشبوهاً في نظر هذا المتدين فقط، بل في نظر معظم اليهود الذين يصلون الى السوق بالألوف يومياً على رغم تخوفهم من وقوع العمليات، فهنا فقط يجدون الأسعار الرخيصة والمناسبة لهم.
مرافقنا في هذه الجولة داخل السوق، الطفل وليد ابن العاشرة تخوف ان يقترب منا في الوقت الذي كان في طريقه الى سيارة اليهودي المتدين، فهو، على رغم صغر سنه يبدو حذراً، ويحسب حساباً لأي تصرف قد يضعه موضع شك لدى مشغّله أو أي من زبائن ذلك اليوم. فقط بعدما أنهى مهمته بنقل الخضار الى سيارة اليهودي اقترب منا، لكن عقله وتفكيره ونظراته كانت تصب باتجاه مشغّله اليهودي. لم يرغب في الحديث كثيراً، وقال إن وقفته معنا قد تثير الشكوك لدى مشغّله "لا استطيع ترك الزبائن. أريد الذهاب الى العمل"، تركنا وأسرع نحو البسطة ينتظر زبوناً جديداً.
وليد واحد من بين أكثر من مئة طفل وفتى فلسطيني يعملون في سوق "محانيه يهودا" الاسرائيلية، أصغرهم في الثامنة من عمره وأكبرهم لا يتعدى السادسة عشرة. جميعهم تسللوا عبر الحواجز ووصلوا الى مخيم عناتا القريب من حدود القدس. ومن هناك انطلقوا للبحث عن عمل ووجدوا أنفسهم داخل هذه السوق. حسبوا أنهم سيعودون في أواخر كل اسبوع إلى عائلاتهم بذخيرة مالية تضمن الخبز والحليب ووجبة طعام، لكنهم سرعان ما تحولوا لقمة سهلة للاستغلال في هذه السوق. فهم أول من يقع ضحية بعد كل عملية استشهادية تنفذ داخل اسرائيل. واذا كانت داخل السوق فعذابهم يكون أقسى. ومع انهم يعملون بشكل غير قانوني فإن ذلك أسهل للاستغلال الفاحش من قبل المشغل. لكن مشكلتهم لا تنتهي عند هذا الحد، فمنهم من غادر بيته الفلسطيني وحيه الذي يخلو من أية حياة رفاه ومتعة، بل يخلو من الطفولة، ليجد نفسه أمام مغريات حياة الاسرائيليين التي لم يعتد عليها، وفشل في الصمود أمامها، فانحرف الى عالم بات من الصعب اليوم الخروج منه، خصوصاً في هذه الفترة التي تتدهور فيها الأوضاع الفلسطينية في ظل استمرار الاحتلال والحصار والتجويع. وهذه الحال لا تشجعهم على العودة إلى بلداتهم الفلسطينية. بعض هؤلاء الأطفال والفتية انحرف إلى عالم المخدرات والسرقات، وبعضهم الآخر يبذل كل جهد لجمع المال لمساعدة العائلة، فيما يمضي آخرون ساعات الليل على كرتونة أو حرام ممزق على أرض السوق أو بالقرب منه ينتظرون الفجر لبدء يوم عمل جديد. والأدهى أن بينهم من ينفق ما يجمعه في النهار على المخدرات أو الكحول أو يكمل عمله بعملية سرقة توفر له النقود لقضاء سهرة من المتعة في الليلة المقبلة.
* أزمة فلسطينية شاملة
ظاهرة وجود هؤلاء الأطفال في سوق "محانيه يهودا" لفتت أنظار الكثيرين، ومنهم الفلسطينيين الذين قلقوا بشكل كبير على حياة أولادهم، خصوصاً الأوضاع الأمنية والعلاقات الاسرائيلية - الفلسطينية آخذة بالتدهور.
في حديثنا مع هؤلاء الأطفال وعائلاتهم ظهرت أسباب الوصول الى هنا، لكنها تختلف بين طفل وآخر. إلا أن الغالبية دفعتهم الى سوق "محانيه يهودا" ذلك الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه العائلة الفلسطينية، وليس شرطاً أن يكون الوالد قد اعتقل او استشهد. إن وضعية العائلة الفلسطينية خصوصاً كثرة الانجاب في وقت لم يعد الوالد قادراً على ضمان لقمة عيش أولاده، لانعدام توفير فرصة العمل، تحول دون افساح المجال للأولاد للاستمرار في تعليمهم، فيضطرون الى ترك مقاعد الدراسة، حتى وان كان الواحد منهم لم يتعد الثامنة أو العاشرة من عمره، للانطلاق إلى سوق العمل من دون ان يدرك المخاطر التي تنتظره أو أساليب الاضطهاد التي قد يواجهها. وفي مقابل هؤلاء، هناك عائلات الوالد الذي يعمل ولكنه لا يستطيع ضمان معيشة كل الاولاد. وقد تعرفنا الى إحدى هذه العائلات التي التقينا ثلاثة من ابنائها يعملون في السوق، فوجدنا الوالد ما زال في السابعة والثلاثين من عمره، وقد بات أباً لثلاثة عشر ابناً، يعجز عن ضمان معيشتهم، فأبلغ أكبر أربعة منهم (17 و16 و 14 و 12) عن وضعه وان الحل الوحيد أمامهم هو ترك مقاعد الدراسة والبحث عن العمل.
وهناك من الفتية من ضاقت بهم حياة الكبت التي تسيطر على هذا الجيل الفلسطيني وتحرمه من أبسط ما يتمناه كل طفل وفتى في العالم، فيقرر مغادرة بيته والبحث عن عمل ليضمن مصروفه الشخصي وحياة أكثر رفاهية، وهؤلاء بشكل خاص هم الذين يسقطون في عالم الجنائيات.
وقبل الحديث عن ظلم اصحاب البسطات اليهود الذين لا يستغلون الطفل الفلسطيني في حقوقه ويسلبون راتبه فحسب، إنما يستغلونه جنسياً أيضاً. يتوجب الحديث بصراحة عن وضع بعض الأطفال الذين يعيشون ظروف استغلال قاسية داخل العائلة الفلسطينية نفسها. ففي لقائنا مع طفل في التاسعة من عمره، يعمل في تنظيف السمك لدى بائع يهودي، اكتشفنا انه تعرض للاستغلال مرتين: المرة الأولى كانت من والده نفسه الذي كان يرفض ادخاله الى البيت من دون ان يحمل غلة من المال، ثم تعرضه لاستغلال من صاحب العمل الذي حاول بداية سرقة راتبه ثم استغله جنسياً.
من يريد الوقوف على حقيقة مأساة هؤلاء الأطفال والفتية عليه مرافقتهم من الثامنة صباحاً وحتى الساعة نفسها من اليوم التالي. فعمل معظمهم الذي يبدأ في الصباح لا ينتهي مع اغلاق هذه السوق، إنما يستمر في أماكن أخرى هي أكثر خطورة على مستقبلهم من السوق نفسها على رغم كل المخاطر التي يواجهها داخل سوق محانيه يهودا. فهناك من لا يكتفي من أجر عمله في السوق الذي لا يتعدى 15 دولاراً يومياً فيلجأ إلى العمل في ساعات المساء، ويطلق على القائمين به "عصابة الدور"، وهذه بحد ذاتها ظاهرة خطيرة جداً من حيث العمل في ساعات الليل وحتى الثامنة صباحاً، إذ يتعرض الأطفال الى ابتزاز الشبان الأكبر عمراً.
الدخول الى سوق "محانيه يهودا" وفي هذه الأيام أمر في غاية الصعوبة، خصوصاً إذا كنت فلسطينياً، فالحراسة المكثفة في السوق والخوف من تنفيذ عملية فدائية تعرضك إلى عملية تفتيش دقيقة كلها شكوك حتى وان أبرزت بطاقة الصحافة. فمن غير المهم لهم من أنت وما مهمتك، ولأي هدف تدخل السوق، المهم انك عربي وهذا يضعك في قفص الاتهام والشكوك، وهذه هي أيضاً حال الأطفال الفلسطينيين الذي يعملون في هذه السوق. فهؤلاء، على رغم معرفة الحراس بهم، فإنهم يتعرضون يومياً لأكثر من عملية تفتيش دقيقة ويبقون طوال اليوم تحت رقابة الحراس.
العاملة الاجتماعية في الحركة الـعالمية لحقوق الطفل، هديل يونس التي رافقت بعض هؤلاء الأطفال في محاولة لمنع استمرار انتهاك حقوقهم ومنعهم من الانحراف تقول في حديثها مع "الوسط": "باتت ظاهرة عمل الأطفال والفتية الفلسطينيين في سوق محانيه يهودا مقلـقة جداً. فنحن نتحدث عن شريحة تشكل مستقبل المجتمع الفلسطيني وقد تركت مقاعد الدراسة ولجأت الى العمل في جيل غير قانوني". وتضيف: "الوصول الى سوق محانيه يهودا ليـس بالأمر السهل. فهؤلاء يخاطرون بـداية في الطرق التي يسلكونها للدخـول الى القـدس. ثم أن الوصول الى السوق هو بحد ذاته مشكلة بالنسبة إلى كل عربي. وطبعاً اليهودي يحتاج إلى هؤلاء للعمل، لأنـه أولاً لا يـوجد من اليـهود من يرضـى بظـروف العـمل الذي يرضـى بها هؤلاء الأطفال، ولا يمكنه تشغيل أي يهودي من دون ضمان حقوقه ودفع الحد الأدنى من الأجر الشهري والذي يساوي اضعاف ما يتقاضاه الطفل الفلسطيني (الحد الأدنـى للأجـور في اسرائيل يعادل 650 دولاراً في الشهر). ثم ان هذا الطفل يعمل بطاعة وينفذ أوامر مشغّله من دون أي نقاش أو خلاف". ويضيف العامل الاجتماعي جواد صـيام الذي رافق هذه المجمـوعة من الاطفال والفتية ضمن مشروع يعمل به بمشاركة هديل يونس: "معظم هؤلاء الأطفال حاولوا العمل في المناطق الفلسطينية وحصلوا على أجور زهيدة، وعلى رغم المبلغ القليل الذي يحصلون عليه من اليهود في سوق محانيه يهودا، إلا أنـه أفـضـل بألـف مرة مما كانوا يتقاضونه في المناطق الفلسطينية. وهذا هو الدافع لمجيئهم إلى سوق محانيه يهودا".
ونعود إلى وليد الذي التقيناه لدى دخولنا الى السوق، فقد جاء من الخليل وهو من عائلة مؤلفة من عشرة أنفار: "اضطررت لترك الدراسة لأن أبي لم يجد العمل وقد حاول الدخول الى اسرائيل واعتقل اكثر من مرة لذلك لم يبق أمامنا، إلا أن اترك المدرسة لأحاول ان اصل انا الى اسرائيل. لقد علمت من زملاء لي ان دخول الأطفال الى إسرائيل أسهل من دخول الكبار. ووصلت مع مجموعة من زملائي إلى مخيم عناتا، فقد قالوا لنا ان هذا المخيم لا يدخله الجيش ولا تجرى فيه تفتيشات، وهذا ما حصل بالفعل، ومن المخيم وصلنا الى السوق".
وعندما سألناه عن اختيار هذه السوق بالذات، حيث الاجواء العنصرية وخطر تعرضهم للاعتداء قال: "لا نستطيع الوصول الى محلات خاصة، في مجمعات تجارية أو شوارع رئيسية، فصاحب المحل اليهودي يطردنا ولا يسمح لنا أصلاً بالدخول الى المحل، كما أننا نخاف من الاعتقال. صحيح اننا نخاف هنا من اعتداء اليهود، خصوصاً إذا نُفذت عملية في اسرائيل. فنشعر ان كثيرين من اليهود يريدون الانتقام منا، فيصرخون بنا ويحاولون الاعتداء أيضاً. انظري الى صاحبي هيثم، الذي يعمل في بسطة خضار لقد تعرض لاعتداء من يهوديين من دون أن تصدر منه أية تصرفات تضايقهم، كانت بينه وبين الموت شعرة".
وهيثم هذا في الثالثة عشرة من عمره، لكن الحديث معه يشعرك بأنك أمام شاب تجاوز الثامنة عشرة. فهو لا يعرف معنى الخوف وكل ما يفهمه انه يريد العمل وجمع الأموال للعائلة. اقتربنا منه وكانت نظرات الزبائن اليهود غير راضية من تصرفنا. نظرات تعكس مدى حقدهم على هؤلاء الأطفال: "عيسر عل عيسر… يللا عيسر عيسر"، راح يصرخ هيثم وهو يحمل التفاح الأحمر وفي نغمة مميزة ترافقها لهجة عبرية ركيكة كان يغري الزبائن للشراء من بسطة مشغله، وقصد بجملته هذه ان التفاح من أفضل نوع "عشرة على عشرة". حاولنا "خَطفه" من بين هذا الصراخ الملحن، فاقترب منا بعد استئذان مشغله ولما بدأنا الاستفسار عن وضعية عمله لم يفكر كثيراً بالاجابة: "كلها عيشة سودا. الموت والحياة واحد"، قال قاصداً خطورة ما قد يتعرضون له في هذه السوق، ورفض الحديث كثيراً عن عملية الاعتداء عليه لكنه قال: "حتى ولو شاهدت الموت بعيني فأنا مضطر للعمل لتوفير النقود للعائلة. أنا اليوم المعيل الوحيد لعائلتي. والدي لا يعمل واخوتي الصغار لا يستطيعون العمل بسبب صغر سنهم، ولم يبق أمامنا أي حل إلا أن أغامر وأعمل". وأضاف: "صدقيني، نصف عملنا يذهب لشراء وجبة طعام واحدة نتناولها ساعات الظهر وأحياناً لا نستطيع تحمل الجوع فنشتري ساندويتشاً آخر، ولكن الله بيسر. على الأقل ضميري مرتاح لأنني أضمن وجبة الطعام والحليب لاخوتي".
جواد صيام الذي كان شاهد عيان على حادثة اعتداء هيثم قال: "كنت في طريقي الى السوق، وإذا بضجيج وسط السوق يدل على ان هناك شجاراً. ولما اقتربت من المكان وجدت اثنين من اليهود يعتدون على هيثم بشكل عنيف، لم يتركا مكاناً في جسده إلا وأصاباه. وقد شعر الجميع انه كاد يموت من الضرب ولم يتركاه إلا بعد تدخلنا مع بعض اليهود الذين صرخوا بأن الفتى مات وكانوا قد خافوا بالفعل ان يموت هيثم من شدة الاصابات".
وتضيف هديل يونس: "إننا في الحركة العالمية لحقوق الطفل لمسنا ذلك الخطر الجدي على حياة هؤلاء الاطفال، سواء الذين يتعرضون لاعتداءات من قبل اليهود أو الذين ينحرفون ويضيعون كل ما يجبونه من عمل اليوم على الكحول والمتعة الشخصية وحتى المخدرات، لذلك أعددنا مشروعاً خاصاً حاولنا من خلاله احتضان هؤلاء الأطفال والفتية، وان لم ننجح مع الجميع فلا بد اننا نساعد بعضهم في الخروج من الوضع الصعب الذي يعيشونه أثناء عملهم في ساعات اليوم. فهؤلاء يعانون من حرمان حقيقي من كل ما يتمتع به الأطفال والفتية ويكبرون قبل جيلهم ولا يعيشون طفولتهم، وبدورنا حاولنا التعويض لهم عن هذه النواقص واشغالهم في برامج تربوية وترفيهية لإبعادهم عن بعض التصرفات التي تشكل خطراً جدياً على مستقبلهم".
* عناء الليل والنهار
قد يضيق تحقيق كهذا للحديث عن المعاناة الحقيقية لهؤلاء الأطفال ونشر القصص الكثيرة عنهم. وربما أيضاً لا يستطيع القلم مهما استعمل من كلمات معبرة عن المعاناة ان يعكس بالضبط عمقها وتأثيرها على هؤلاء الأطفال. فإذا قلنا إن معظم هؤلاء ينامون على كرتونة بمحاذاة السوق أو يسمح أصحاب الحوانيت لبعضهم بالنوم داخلها بعد اغلاقها في ساعة مبكرة، فهذا الكلام لا يحمل في طياته المعنى الحقيقي لهذه المعاناة. ولكن لنتخيل ما معنى ان يقضي طفل يومه بالعمل الشاق الذي يفوق طاقته، ثم يسجن داخل حانوت او يرتمي على كرتونة ثم يأتي المساء الذي من المفروض ان تكون ساعاته للراحة، فيتحول الى رحلة شاقة اخرى. فالنوم على قطعة كرتون يعني النوم على رصيف من الاسفلت.
وعندما نقول إن أصحاب الحوانيت يسمحون للأطفال والفتية بالنوم داخل الحانوت قد يفهم للوهلة الأولى أنه ضمن نوماً هنيئاً، ولكنه في الواقع يكون عقاباً بكل ما تعنيه الكلمة. فأكبر محل في هذه السوق هو عبارة عن غرفة صغيرة لأن معظم الحوانيت تضع بسطاتها في الخارج. وفي المساء تمتلئ هذه الغرفة بالبضاعة، ما يعني نوم الطفل بين صناديق الخضار والفواكه وربما ينام بعضهم بين صناديق الاسماك.
والأدهى من ذلك أن هؤلاء الاطفال الفلسطينيين الذين جربوا الحياة المرة في قريتهم الفلسطينية من دون عمل، ما يعني عدم توفير لقمة العيش، يفضلون هذه المعاناة على تجويع عائلة بأكملها، حتى ان بعضهم يتحمل ان يتحول جسده إلى سلعة لمشغّله من أجل لقمة عيش العائلة، وهذا ما حدث لأحدهم الذي كشف عن قصته، وربما هناك آخرون تعرضوا لاعتداءات مشابهة، ولم يكشفوا عن المصيبة التي لحقت بهم. فهذا الطفل يُستغل بشكل فاحش من مشغله. فهو يعمل ساعات اليوم كله في مقابل عشرة دولارات، وحتى هذا الراتب القليل حاول المشغّل سرقته بعدم دفعه لقاء عمل شهرين ثم بعد ذلك بدأ يستغله جنسياً، حتى بلغ الطفل حالة يأس رهيبة كادت تجعله يرتكب جريمة بحق نفسه، فأبلغ العامل الاجتماعي من قبل الحركة العالمية لحقوق الطفل الذي يرافقهم، والذي وضع حداً لهذه الأعمال واتبع اسلوب مرافقة الطفل بشكل مستمر بعدما رفض الطفل تقديم شكوى إلى الشرطة ضد المشغل اليهودي، لأن الثمن سيكون الحاق الأذى به وبجميع زملائه.
ويقول جواد صيام إن وراء كل طفل قصة ومعاناة حقيقية: "خوفنا الأكبر هو على مجموعة أطفال وفتية وصلوا الى هنا في حالة يأس بسبب الأوضاع التي يعيشونها في بلدتهم الفلسطينية وانحرفوا نحو المخدرات والكحول وكل الأماكن التي يضيعون فيها نقودهم ومستقبلهم. فهؤلاء نحاول تقديم كل دعم لهم. وقد نجحنا مع بعضهم، إلا أن العمل معهم يحتاج الى فترة طويلة وجهود خاصة". وأضاف جواد: "في بعض الحالات تكون المسؤولية المباشرة على الأهل الذين لا يسألون بتاتاً عن ابنهم. أحد الفتية تدهور وضعه بشكل كبير ولم يغادر منطقة القدس لمدة ثلاثة أشهر من دون أن يستفسر عنه أحد، وفقط بعدما بحثنا طويلاً عن عائلته ووصلنا اليها، تمكنا من اعادته الى البيت لوضع حد لحالته المتدهورة"، يقول جواد ويضيف: "للأسف اهمال العائلة الفلسطينية وعدم توفير الامكانات لدى المؤسسات الفلسطينية يكونان أحياناً سبباً اضافياً لمعاناة هؤلاء الفتية الذين يبحثون عن منقذ حقيقي لحالتهم البائسة والخطيرة".
(الوسط، العدد 579 – 3 آذار 2003)