أوقفوا العالم، أنا أنوي الهجوم، لكن العالم لا يتوقف.ربما تكون أهمية معينة للإيحاء بأن إسرائيل ليست قطعة واحدة، ولا يلهث كل الاسرائيليين وراء هذه الحرب؛ وبالتأكيد، هناك أهمية لإيقاظ الرأي العام في إسرائيل، برؤية ما تخبئة لنا الأيام هنا، بعيون مفتوحة. لرؤية ما تعنيه هذه الحرب لكم.
هناك إسرائيليون لا يُطبّلون لكل حرب وكأنها لُقية كبيرة، ولا حتى لحرب أمريكية "لم نرَ مثلها بعد".
وليس هناك أدنى شك في أن العالم كان سيشعر أفضل بكثير لو أن صدام حسين إنصرف أو أطيح به. والشرق الأوسط أيضًا كان سيتنفس الصعداء، وإسرائيل أيضًا. ولكن كما في كل مواجهة، يبقى السؤال سؤال الثمن - كم ستكلفنا هذه الاطاحة، نحن وسائر العالم. السؤال هنا هو ليس سؤالا مبدئيًا. لو كان السؤال كذلك، لكانت الولايات المتحدة بدأت بأيران أو بكوريا الشمالية أولا، اللتين تعرِضان بفخر الإحتمالات العدوانية المتوفرة لديهما. وبينما يقوم العراق بتفكيك صواريخ "صمود 2" التي بحوزته، وهي صواريخ لمدى 200 كلم على الأكثر، بعد فرض ذلك عليه، تطلق كوريا الشمالية صواريخها بتحدٍ ظاهر، وهي صواريخ للمدى البعيد، وهي معروضة للبيع لكل راغب.
كما أن ثمن الاطاحة بصدام يزداد مع الوقت ويكبر، ويتحول إلى ثمن مبالغ به، أشك جدًا في جدوى دفعه، ولذلك حان الوقت، وربما قد فات، لفحص هذا الثمن.
لا يمكن الفوز بهذه الحرب، حتى لو فزتَ بها. الجزء العسكري في هذه المغامرة هو الجزء السهل بالذات، كما أن الانتصار التكنولوجي - العسكري اللامع لا يضمن مستقبلاً أفضلَ للعراق وللعالم كله.
وحتى قبل إندلاعها، تتسبب هذه الحرب بأضرار بالغة، غالبيتها مستديمة، وتأثيراتها الهدامة هي لسنوات طويلة.
وعلى الرغم من أن صاروخًا واحدًا لم يُطلق حتى الآن صوب بغداد، إلا أن ضررًا كبيرًا حلّ بالأمم المتحدة، وهو يشكل تهديدًا بإنهيار التنظيم ومؤسساته. وقد لعبت الأمم المتحدة، في السنوات الأخيرة، دورًا هامًا ومفيدًا في مراكز إشكالية مختلفة، وضُعف هذا التنظيم سيخدم عناصر مغامرة خطيرة في سائر العالم فقط، وستعم الفوضى ثانيةً.
كما أن الأمم المتحدة لن يكون وحده التنظيم المحطم والذي سيضطر لإعادة اللحمة لهيئاته خلال فترة طويلة؛ الحلف الأطلسي ينهار أيضًا، ولا أحد يعرف ما إذا كان الحلف سينهض ثانية أم لا، ومتى. رياح سيئة تهزّ الاتحاد الأوروربي وكل المجتمع الدولي ممزق ومُمَشكَل. المواجهة الحادة، غير المسبوقة، بين الولايات المتحدة وبين حلفائها التقليديين هي كارثية. منذ الحرب العالمية الثانية لم يحدث شرخٌ كهذا. العديد من "الزعران"، من بن لادن وحتى القذافي، يجلسون الآن ويفركون أيديهم بلذة، فيما يشاهدون التشويش التام اللاحق بالنظام العالمي: منذ الآن، ستقل الرقابة عن نزواتهم الفتاكة، وسيكون بمقدور كل مجرم دولي أن يناور العالم وأن يهزّه وكأنه ذَنَبه. ومنذ فتور الحرب الباردة، لم تتبقَ أمام هؤلاء "الزعران" هوامش مناورة بين القطبين، وها هي هذه الهوامش تُفتح أمامهم ثانيةً، وواسعًا، وبهيئة جديدة.
من سيستعين بالفيتو الآن
الجميع يسأل ماذا سيحدث في "اليوم الذي يلي"، ولا أحد، طبعًا، بوسعه أن يقدّر بدقة: كل ما يُقال هو تخمينات طائشة. ولكننا نعرف الآن جيدًا ماذا يحدث في "اليوم الذي يسبق"، وما يحدث هو مقلق جدًا، إن لم يكن مخيفًا: الولايات المتحدة أيضًا تفقد من رِفعتها كقوة عظمى وحيدة، ومكانتها آخذة في التقلص والتفتت. هناك الكثيرون ممن لا يحبون أمريكا كـ "شرطي دولي"، لكن العالم الذي تنعدم فيه مرجعية مسيطرة، هو عالم سيء وخطير، تغلب عليه قوانين الغاب. من الآن بوسع كل منبوذ أن يُدبِر لواشنطن، التي قُصّت ظفائرها وخارت قواها السياسية.
وقد برزت للجبهة المشتركة الأمريكية - الأوروبية، في السنوات الأخيرة، ميزات كثيرة، وخاصة في سياق النزاع الاسرائيلي - العربي، وسيكون فقدان هذه الشراكة الآن خسارةً.
واشنطن ضعيفة لا تصب في مصلحة إسرائيل، لأنها مسندها الأمين والوحيد. الخاسرة الأولى والأساسية جراء هوان أمريكا النسبي هي إٍسرائيل إذن، بلا شك. من سيصوّت بالفيتو في مجلس الأمن على مشروع قرار ضد إسرائيل؟ من سيكون مستعدًا بعد للوقوف إلى جانبنا، وحده، بعد التجربة المرعبة من العزلة المطلقة.
كما أن الحرب في العراق ستُخرج كل عفاريت اللاسامية من القمقم، وستَسْوّد حياة اليهود أينما كانوا، لأن الكثيرين في العالم مقتنعون بأن هذه الحرب هي حرب ضد الإسلام، بتأثير إسرائيلي ويهودي، ما يشبه حرب يأجوج ومأجوج المتطرفين المسيحيين، على الطراز التكساسي، من محبي إسرائيل، وبأمر من مسيحهم.
ومنذ الآن يمكن القول إن الولايات المتحدة قد مُنيت بالهزيمة في حرب "اليوم الذي يسبق". وقد تخسر أيضًا حرب "اليوم الذي يلي". وحتى لو سقط الصاروخ الأول على رأس صدام حسين، عندها أيضًا، وعلى الأغلب، لن تُتوج الحرب بالنصر. وحتى أن العراقيين قد يستقبلون "المحررين"، في الأسابيع الأولى، بالسكاكر وبزغاريد الفرحة والتشجيع، كما هو متبع في هذا الجزء من العالم، ولكن بعد مضي وقت قصير ستتطور مع الوقت "جيوب مقاومة" ضد الاحتلال، في الفضاء المبني وفي الفضاء المفتوح أيضًا. العراقيون ليسوا أغبياء، وبتوجيه مُوجِّه، وبحكم التجرية، فإنهم سيجرّون الأمريكيين إلى قلب المدن الكبيرة والمزدحمة لزيادة قتل المواطنين والجنود أيضًا.
مكوث متواصل ودامٍ
أمريكا بحاجة حقيقية لأعجوبة، من أجل السيطرة على العراق المعقدة والمُتَمَشكلة، وفرض "نظام جديد" فيها يكون مستقرًا. وصحيح أنني قرأت أن السفارة الأمريكية في بغداد ستكون المفوضية العليا والقادرة على كل شيء في العراق الجديد، ولكن يجب التشكيك في إحتمالات نجاح هذه السيدة الموهوبة والمتمرسة. ليس هناك سيناريو معقول لواقع هادئ وطبيعي، لا يجبي ثمنًا دمويًا كل يوم، يكون ممكنًا بين القوات الداخلية في العراق وبين القوات المتربصة في الخارج. ومن دون حسم سريع، واضح وسلس، ستقع هزة أرضية دولية، يكون مركزها في الشرق الأوسط. وإلى أن يسقط صدام، من الممكن أن ينشأ بدلا منه من إثنين إلى ثلاثة "صدّامات"، ذوي طابع متطرف أصولي، كما أن عرفات سيحظى بفسحة أمل على حساب "أبو مازن".
ستضطر أمريكا، التي لم تقبض على بن لادن بعد، والتي هربت من المعركة الكبيرة في فيتنام ومن المعركة الصغيرة في موقاديشو في الصومال، ستضطر للبقاء في العراق لسنوات طويلة لكي تواجه الشيعة ضد السنيين ضد الأكراد في الداخل، وضد الأيرانيين والأتراك من الخارج، ولم نتطرق بعد لجهات أخرى متعطشة وذات مصالح. أنا مقتنع بأن الرأي العام في الولايات المتحدة لن يصمد في حلبة المكوث المستمر والدامي على أرض العراق. وحتى قبل الحرب، هناك هبوط ملحوظ في دعم الجمهور الأمريكي للحرب، ومن السهل وصف كيفية هبوطه مع الأشهر والسنين مقابل الضحايا اليومية أيضًا بين المواطنين العراقيين وبين الجنود المبعوثين.
الآن، يبدو حقيقةً أن الوضع معقد جدًا: تفكيك كل هذا الآلية الضخمة –300000 جندي ووسائلهم القتالية- وإعادتها إلى البيت، هو أيضًا علامة واضحة على الفشل. لكن، وفي اللحظة الأخيرة أيضًا، قد تكون علامة الهزيمة أفضل من الهزيمة نفسها.
(يديعوت احرونوت 14/3، الترجمة العربية: "مـدار")