على أعتاب الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت إلى الولايات المتحدة في أواخر شهر آب الفائت، أكدت مصادر سياسية إسرائيلية رفيعة المستوى أنه من المتوقع أن يطرح خلال اجتماعه مع الرئيس الأميركي جو بايدن وسائر كبار المسؤولين الأميركيين ما وصفته بأنه "سياسة إسرائيلية جديدة حيال الصين"، تعتبر العلاقات مع هذه الدولة بأنها تقف في صلب قضايا الأمن القومي، وتأخذ في الاعتبار عناصر القلق والتوجّس القائمة لدى واشنطن من مترتبات تلك العلاقات، وذلك أكثر مما كانت عليه الحال إبان ولايات حكومات بنيامين نتنياهو المتعاقبة منذ العام 2009.
وبموجب تقارير "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، فإن الموضوع الصيني لم يُطرح بتاتاً في إطار الاجتماع بين بايدن وبينيت، ولكن هذا لا يعني أنه غائب عن أجندة المستويات المهنية التي تعمل تحتهما. وربما يحيل عدم طرحه إلى واقع أن الاتفاق القائم ضمناً بين الجانبين فيما يتعلق بهذا الشأن، كفيل بعدم جعله من الموضوعات التي تتصدّر جدول أعمال الزعيمين. ولمحت تقارير المعهد المذكور كذلك إلى أن رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه) الذي قام بزيارة إلى إسرائيل قبل موعد زيارة بينيت إلى واشنطن، تقاسم مع رئيس الحكومة الإسرائيلية مشاعر القلق التي تنتاب الولايات المتحدة من حجم التغلغل الصيني في الاقتصاد الإسرائيلي وخصوصاً في مجالات الهايتك وفي مشاريع البنى التحتية الكبرى. وما زالت تتردّد إلى الآن أصداء تحذيرات فحواها أن إسرائيل تفتقر إلى آلية لتحليل ما تنطوي عليه الاستثمارات الاقتصادية الصينية من انعكاسات على الأمن القومي والعلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة، وكانت تُرفق في العادة بالدعوة إلى إنشاء مثل هذه الآلية على وجه السرعة. وفي مجرّد تلميح الحكومة الحالية إلى أنها ستُدرج العلاقات مع الصين في إطار قضايا الأمن القومي ما يشير إلى احتمال اعتماد مثل هذه الآلية.
في واقع الأمر، عاد موضوع العلاقات بين إسرائيل والصين وتأثير ذلك في العلاقات الخاصة الإسرائيلية- الأميركية إلى صدارة الأحداث أخيراً على خلفية افتتاح ميناء جديد في خليج حيفا، في الفاتح من شهر أيلول الحالي، فازت الشركة الصينية "شانغهاي إنترناشيونال بورت غروب" (SIPG) بمناقصة تشغيله على مدار 25 عاماً. وهو مُحاذٍ لميناء حيفا القائم والذي من المقرّر أن تتم خصخصته أيضاً في وقت لاحق. وأعربت الولايات المتحدة، في أثناء ولاية إدارة دونالد ترامب السابقة، عن مخاوف أمنية كبيرة من فوز هذه الشركة الصينية بالمناقصة، نظراً إلى أن ميناء حيفا يشكّل منذ أعوام طويلة نقطة رسو لسفن الأسطول الأميركي السادس، وأن الصين قد تستغل علاقاتها مع إسرائيل من أجل تحسين مكانتها الاستراتيجية، بالإضافة إلى أن وجودها في الميناء يمكن أن يُستخدم لجمع معلومات استخباراتية حساسة، ولمعرفة تكنولوجيا سرية. وأفيد في حينه أن إسرائيل قدمت إلى واشنطن ضمانات تكفل بألا تتمكن الصين من تجييش المشاريع التي تشارك فيها في إسرائيل لتحسين مكانتها الاستراتيجية وقدراتها الاستخباراتية.
وتعتبر قضية الميناء في حيفا بمثابة تفصيل واحد، ربما يكون صغيراً حتى، في نطاق شبكة واسعة من علاقات إسرائيل المتطورة مع الصين على مدار الأعوام القليلة الفائتة. غير أن ما تشدّد عليه المصادر الأميركية هو أن الهيمنة الصينية على موانئ استراتيجية عديدة وممرات بحرية في أنحاء العالم تأتي في إطار "مبادرة الحزام والطريق"، التي سبق للرئيس الصيني أن أكد أنها تدمج بين المجالين العسكري والمدني. وفي ضوء ذلك، فإن عقد إدارة ميناء في خليج حيفا يمنح الجيش الصيني نظرياً منشأة مفيدة في البحر الأبيض المتوسط، في واحد من أهم مسارات التجارة العالمية.
ومن الملفت للنظر أن الحال في هذا الصدد لم تختلف إلى حدّ كبير مع وجود إدارة أميركية جديدة. ففي أول خطاب أمام الكونغرس قال الرئيس الحالي جو بايدن إن إدارته تعتبر أن أميركا في وضع تنافس مع الصين على التفوّق والريادة في القرن الحالي. واقتبس زلمان شوفال، أحد السفراء الإسرائيليين السابقين في واشنطن، عن مستشار سياسي لبايدن مختص في شؤون الصين، هو راش دوشي، ضمن كتاب جديد له بعنوان "لعبة للمدى البعيد"، قوله إن الهدف الذي تسعى الصين نحوه هو الوصول إلى تفوّق عالمي مُطلق على الولايات المتحدة في غضون الأعوام الثلاثين المقبلة. وينوّه ألون بنكاس، أحد القناصل الإسرائيليين السابقين في نيويورك، بأنه في شهر تموز الفائت قدّم مركز الأبحاث في الكونغرس تقريراً جاء في 56 صفحة كان عنوانه "التحديث البحري الصيني وتداعياته على قدرات الأسطول الأميركي"، وورد في أول فقرة منه ما يلي: "إن جهود التحديث العسكري التي تقوم بها الصين ولا سيما في الأسطول أصبحت البؤرة الرئيسة لتخطيط وموازنة برامج الدفاع الأميركية. فالأسطول الصيني الذي يخضع إلى سيرورات تحديث وتعاظم منذ أكثر من 25 عاماً، أضحى قوة عسكرية مهمة في الحلبة البحرية المباشرة للصين ولكنه يقوم بمناورات بعيداً عن الصين، وذلك في مناطق المحيط الهادي، والمحيط الهندي، وفي المناطق البحرية المحاذية لأوروبا". وقبل هذا التقرير أصدر وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، توجيهات إلى "طاقم المهمات بشأن الصين" تتعلّق بتوصيات ينبغي اتخاذها وحدّد فيها أن "بكين تعتبر التحدّي الأكبر للولايات المتحدة"، ولذا يتعيّن على ميزانية الدفاع الأميركية للعام 2022 أن تعكس المقاربة التي ترى أن الصين هي بمثابة "تهديد ماثل في الأفق"! وعندما يكون مثل هذا التهديد ماثلاً أمام أفق أميركا فإن أمر مواجهته لا ينحصر في تخومها فقط، إنما أيضاً يتعدّاها إلى كل من يرتبط معها بـ"علاقات خاصة" على غرار إسرائيل.