تمثل المنطلق الرئيس للمعارضة التي أبدتها جهات إسرائيلية حيال قرار لجنة إدارة "كيرن كييمت ليسرائيل" (الصندوق الدائم لإسرائيل) الذي يقضي رسمياً، لأول مرة، بشراء أراضٍ خاصة من فلسطينيين في الضفة الغربية بهدف توسيع المستوطنات، في فرضية وحيدة مؤداها أن تبعاته قد تكون ذات ضرر بالغ على المستوى الدولي، وفي مقابل الإدارة الأميركية الجديدة، وفي كل ما يتعلق بالعلاقات مع يهود الشتات. وهذا المنطلق يشمل كذلك حركة "السلام الآن"، التي تعارض توسيع المستوطنات القائمة. وينبغي القول إن هذه الحركة شكلت بمثابة "رأس حربة" ضد نشاطات سابقة لهذا الصندوق في أراضي 1967 جرت بطرف التفافية وبما يخالف سياسته العامة التي تنص على وجوب ألا تتجاوز هذه النشاطات "المناطق الخاضعة للحكومة الإسرائيلية" وألا تمتد إلى الأراضي المحتلة منذ 1967.
ومن المتوقع أن يتم التصويت على هذا القرار في الهيئة العامة لذلك الصندوق بعد الانتخابات القريبة للكنيست التي ستجري يوم 23 آذار المقبل. غير أنه بغض النظر عما سيسفر عنه هذا التصويت، من الواضح أن قرار لجنة الإدارة، الذي اتخذ بغالبية الأصوات، يُعدّ انتصاراً آخر للمستوطنين واليمين الاستيطاني. في واقع الأمر، وكما تؤكد مصادر إسرائيلية عديدة، فمنذ بداية مشروع الاستيطان في أراضي 1967 شكل المستوطنون أقوى مجموعة ضغط في السياسة الإسرائيلية. وابتزوا بوسائل مختلفة جميع حكومات إسرائيل على مدار الأعوام، وأرهبوا قادة الجيش الإسرائيلي أيضاً. وقبل قرار "الكيرن كييمت" أشارت بعض هذه المصادر إلى أن "قضية البؤرة الاستيطانية عمونه" أدت في الآونة الأخيرة إلى وصول هذه الممارسات إلى أسفل درك من الانحطاط، حيث نجح المستوطنون مرة أخرى في أن يسخروا من الدولة وأن يبتزوها من أجل الحصول على موافقة مسبقة على آلاف المباني في مقابل عشرات قليلة. وليس ثمة مجال لإبداء الدهشة، فمستوطنو "عمونه" لا يمثلون "أعشاباً شاذة" في تربة السياسة الإسرائيلية، بل هم أصحاب قرار.
لا شك في أنه لا يمكن التقليل من أهمية مثل هذه التحليلات الإسرائيلية، فهي تسعف إلى حدّ كبير في تشخيص آخر الوقائع والمستجدات المرتبطة بحيثيات الوضع الإسرائيلي الراهن وإحالاته في المستقبل المنظور. لكن من الواضح أيضاً أنه لا يمكن عزو انتصار المستوطنين في أراضي 1967 إلى نفوذهم السياسي فقط بمنأى عن نفوذ القوى التي تؤججهم، سواء تلك التي في القاع أو التي في رأس هرم الحكم الإسرائيلي.
ويمكن الاستنتاج بأن قرار "الكيرن كييمت"، شأنه شأن ما عرف باسم "قضية عمونه"، يشكل محطة مهمة في سبيل فهم التغيرات التي طرأت على السياسة الإسرائيلية خلال العقد الأخير على الأقل، وكلاهما يمثلان حالة دراسية ملفتة لفهم ظاهرة تغلغل المستوطنين وتأثيرهم على المشهد السياسي الإسرائيلي الرسمي وغير الرسمي. وفي هذا السياق نعيد إلى الأذهان أنه مرّ عقدان على إقامة تلك البؤرة الاستيطانية دون أن تنجح الحكومات الإسرائيلية المتتالية في إخلائها بل أخذت بالتجذر والتوسع. كما أن قرارات المحكمة العليا القاضية بتأجيل أو تسويف عملية إخلاء البؤرة، بناء على طلب الدولة، سبع مرات منذ العام 2008، تعتبر أبلغ دليل على تغلغل المشروع الاستيطاني بشخوصه وأفكاره ومشروعه في ما يسمى "دولة إسرائيل ضمن حدود العام 1948".
ويحيل هذا الاستنتاج إلى استنتاجات أخرى منها: 1) يبرهن قرار "كيرن كييمت" على ثبات المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، وربما على تحوّله إلى مشروع بات عصيّاً على الإخلاء طوعاً؛ 2) صراع اليمين والمستوطنين من أجل القرار يندرج ضمن استراتيجيا عامة تهدف إلى تجذير مشروع الاستيطان في الضفة الغربية؛ 3) استغل اليمين معارضة بعض الجهات للقرار لتسعير هجمته على هذه المعارضة في إطار هجمة أوسع وأشد شراسة لكبح جماح كل من يخالفه الرأي كما هو ديدنه دائماً.