بالرغم من أن أزمة جائحة كورونا في إسرائيل ما زالت في ذروتها يمكن ملاحظة أن هناك سعياً محموماً لاستخلاص عدة تبصرّات تتعلق بما ستمسي عليه الصيرورة الإسرائيلية فيما بعد هذه الأزمة غير المسبوقة، يؤكد بعضها أنها لن تكون كما كانت قبلها. وهي تبصرّات غير مرتبطة فقط بالأزمتين الصحية والاقتصادية، إنما أيضاً بالشروخ الاجتماعية، ومستقبل نظام الحكم. من هذه التبصرّات بالوسع أن نشير الآن إلى ما يحيل على قطاع اليهود الحريديم المتشددين دينياً، وعلى ما سيترتب على سلوك أقطاب اليمين الجديد بالنسبة إلى مستقبل "الديمقراطية الإسرائيلية"، وهو ما سنتوقف عنده هنا وإن بنظرة طائر، على أن نتابعه بقدر أكبر من التفصيل في قادم الأيام.
بالنسبة إلى اليهود الحريديم أظهرت أزمة كورونا أنهم في معظمهم يرفضون الانصياع للقيود التي فرضتها الحكومة الإسرائيلية بحجة الحؤول دون تفشي عدوى فيروس الجائحة، ما يعيد إلى الواجهة مسألة اندماجهم في المجتمع الإسرائيلي المطروحة بحدة في جدول أعمال هذا المجتمع منذ عدة أعوام.
وربما يتعين أن نذكر هنا أن الحريديم يشكلون نحو 13% من مجموع السكان في إسرائيل، لكنّ نسبتهم من بين مجموع أصحاب حق الاقتراع في إسرائيل تبلغ، حسب معطيات غير رسمية، نحو 10% فقط، ويفترض أن تكون قوتهم البرلمانية النسبية 12 مقعداً في الكنيست، بينما فازوا، في الواقع، بزيادة بنحو 35% عن وزنهم النسبي المفترض. وتشير توقعات المكتب المركزي الرسمي للإحصاء في إسرائيل إلى أن الحريديم سوف يشكلون 32% من مجموع السكان في إسرائيل حتى العام 2065، ما يعني أن عدد أعضاء الكنيست الممثلين لأحزاب الحريديم قد يزداد بمقعدين اثنين في كل أربعة أعوام، وفقاً للتوقعات!
ولا بُدّ كذلك من أن نعيد إلى الأذهان أن لا اليمين ولا الوسط ولا اليسار هم ما يعني الحريديم ويؤرقهم، بل إن ما يعنيهم أكثر من أي شيء آخر هو استمرار المحافظة على الطابع اليهودي في الحياة العامة وفي الحيّز العام، بالإضافة إلى استمرار الحفاظ على ميزانيات المدارس الدينية (ييشيفوت) ومخصصات الأولاد. بناء على ذلك فاليمين جيّد لهم حين يكون معهم، والوسط أو اليسار قد يكون ممتازاً لهم حين يكون إلى جانبهم.
وبالانتقال إلى السلوك الصادر عن أقطاب اليمين الإسرائيلي الجديد، نواصل في هذا العدد تسليط الضوء على مرامي القرارات الرسمية، التشريعية والسياسية، التي تتخذ في إسرائيل في ظل "حالة الطوارئ" وتحت عنوان جائحة كورونا وبحجتهما، وخصوصاً في الفترة الأخيرة، والتي يتضح يوماً بعد يوم أنها قرارات لا علاقة لها بتاتاً تقريباً بفيروس كورونا وبالمعطيات الحقيقية حوله، وإنما هي قرارات تتذرع بوباء كورونا وتتغطى بحالة الطوارئ الناجمة عنه وتستغلها لتحقيق مآرب سياسية ـ حزبية وشخصية تتمثل، بالأساس، في رغبة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وإصراره على البقاء في منصب رئيس الحكومة لأطول فترة زمنية ممكنة، سواء في هذه الحكومة أو في أخرى مقبلة، والتخلص من عبء التظاهرات الاحتجاجية المطالبة باستقالته ومنع تحولها إلى حراك شعبي عارم يرغمه على الاستقالة، ثم التسويف لمواصلة تأجيل بدء محاكمته الجنائية بشبهات فساد قدر المستطاع، أو ربما إلغاء المحاكمة كلياً في ظروف معينة.
ولفتت عدة تحليلات مستجدة في هذا الشأن إلى أن إسرائيل ربما لم تتحول إلى دكتاتورية بعد، ولكنها بالتأكيد ليست ديمقراطية (متى كانت ديمقراطية أصلاً؟).
ويجدر بنا أن نستعيد عند هذا الحدّ تحليلات سابقة تجوهرت حول هذا موضوع طابع إسرائيل، وأشارت من ضمن أمور أخرى إلى أن الدولة الحديثة هي، أولاً وقبل أي شيء آخر، سلطة القانون. فهي ليست حُكم الأغلبية، ولا حكم الجمهور، ولا حكم النُّخب، بل هي سلطة القانون. غير أن ما يحدث في الأعوام القليلة الفائتة من طرف رموز اليمين الإسرائيلي الجديد هو تمجيد "مبدأ الحوكمة" والتهليل له، كما لو أن مهمة الدولة الرئيسة تتمثل في الحكم، بأي ثمن ومهما يحدث. وقد أشير في هذا الصدد إلى أن من بين السلطات الثلاث التي تتكون منها الدولة الحديثةـ السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذيةـ يشكل القانون مهمة السلطتين الأولى والثانية، وليس الأمر صدفة أو عبثاً، فنظام القانون هو الذي ينظم إدارة الدولة، وهو الذي يسبغ الشرعية على أعمالها ونشاطاتها. بيد أن أولئك الذين يتحدثون باسم "مبدأ الحوكمة" يدّعون عملياً بأن السلطتين اللتين تحفظان نظام القانون يجب أن تكونا في خدمة السلطة الثالثة، التنفيذية، وهذا مبدأ مشوّه يتكئ عليه أي نظام دكتاتوري.
ويتواصل التشديد من طرف أقطاب اليمين الجديد في إسرائيل حتى في ظل أزمة جائحة كورونا، على مبدأ الحوكمة كما بدر مثالاً لا حصراً عن رئيس الكنيست ياريف ليفين (الليكود) عند إغلاق هذا العدد.
أخيراً وليس آخراً ينبغي ألا ننسى أيضاً وأيضاً أن إسرائيل تنكرت رسمياً للجوهر المدني الذي يجب أن تكون عليه الدولة عندما أقدمت على سنّ "قانون أساس القومية" في تموز 2018.