تسلط أغلبية مواد هذا العدد الأسبوعي من "المشهد الإسرائيلي" الضوء على المُستجدات التي تراكمت في إسرائيل ترتباً على استمرار تداعيات أزمة فيروس كورونا، وفي مقدمها الاحتجاجات الاقتصادية والاجتماعية الآخذة بالتأجج على خلفية هذه التداعيات.
ولعل أكثر ما ارتأينا الالتفات إليه في الوقت الحالي هو وجود نوع من التناغم أو الربط بين الاحتجاجات ضد الأزمتين الصحية والاقتصادية والاحتجاجات التي تربط بين هاتين الأزمتين وأداء حكومة بنيامين نتنياهو الخامسة، والواقع تحت وطأة كون رئيسها يخصص جلّ وقته لهدف واحد فقط: بقاؤه بأي ثمن، كما سبقت لنا الإشارة إلى ذلك.
هذا الربط تسبّب بانطلاق حراك جديد لحركة تسمي نفسها "الرايات السوداء" والتي نحاول أن نلّم بخلفياتها وبرنامجها استناداً إلى ما توفر بشأنها من معطيات حتى الآن (اقرأ مقال عبد القادر بدوي). وهي تشير، من ضمن أمور أخرى، إلى أن انطلاقها جاء بالأساس كتعبير عن رفض للمفاوضات الجارية بين حزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو وحزب أزرق أبيض برئاسة بيني غانتس لتأليف حكومة طوارئ في إسرائيل، وتبنت شعارات تُندّد بتقويض نتنياهو وحكومته للديمقراطية في إسرائيل.
وليس من اليسير استشراف ما يمكن أن يؤول إليه هذا الحراك من النقطة الزمنية الحالية، علماً بأن هناك تعويلاً كبيراً عليه يبدو في الجانب الأبرز منه رغبياً أكثر من كونه واقعياً.
وبالرغم من هذه الرغبية الطاغية على معظم التحليلات التي تناولت طابع هذا الحراك ونشاطه، يمكن حتى الآن أن نشير إلى ما يلي:
أولاً، هذه الاحتجاجات هي بكيفية ما سياسية أيضاً، إذ تركز مطالبتها على تنحي رئيس الحكومة المتهم جنائياً عن منصبه، مع حكومته الفاسدة والمنتفخة، التي توصف بأنها منقطعة عن الواقع. وهناك الكثير من الرسائل من أجل الديمقراطية وضد الديكتاتورية، ومن أجل نظافة اليد وضد الفساد. واللهجة السائدة فيها مساواتية وليبرالية.
ثانياً، تتشكل القاعدة الأساس لهذه الاحتجاجات من الجيل الإسرائيلي الشاب، الذي كما جاء في بعض التعليقات يشبك أذرعه مع الأجيال السابقة ويحمل معه روحية جديدة، وطاقة مندفعة، ومزيجاً جارفاً من غضب وإصرار ونضال وإيمان، كونه ليس لديه عمل وليس لديه أمل.
ثالثاً، ستأخذ هذه الاحتجاجات وقتاً إلى أن تتمكن من تحقيق غاياتها، ولا بُدّ من أن نرى أن الغاية الأهم من بينها تتمثّل بإسقاط نتنياهو. وبناء على ذلك سيبقى السؤال: ما هو البديل الذي سيكون ماثلاً أمام إسرائيل في حال إسقاطه، وما هي السياسة التي سينطوي عليها هذا البديل على الصعد كافة؟
فضلاً عن ذلك، نتوقف في هذا العدد، واستمراراً لما بدأنا به في أعداد سابقة، عند آخر تجليات النهج الرامي إلى تجيير أزمة وباء كورونا لمحاصرة الحريات الديمقراطية وتكريس الاستبداد السلطوي، والذي يتبعه نتنياهو المنشغل أكثر من أي شيء آخر بمحاكمته بشبهات فساد (اقرأ مقال سليم سلامة). والمقصود بذلك "قانون كورونا الكبير" (أو: "قانون التفويض") الذي سنّه الكنيست الإسرائيلي في ساعة متأخرة من يوم 23 تموز الجاري واعتبر أنه يدشن مرحلة جديدة في مسار تطور إسرائيل السياسي والقانوني ويحدث تغييراً جوهرياً في مستوى العلاقة المستقبلية بين الحكومة، بكونها السلطة التنفيذية، وأذرعها المختلفة، من جهة، وبين الكنيست، باعتباره السلطة التشريعية والبرلمان الذي يجسد "حكم الشعب"، من جهة أخرى. والتغيير هنا يطال أيضاً الوضع الدستوري المعمول به في إسرائيل، إلى درجة أن القانون الجديد يشكل خروجاً واضحاً وفظاً عليه. فالوضع الذي كان قائماً حتى اليوم، أن الكنيست هو فقط المخول صلاحية وضع وإقرار الترتيبات والقواعد المعيارية الأساسية الملزمة للجمهور عامة. وما حدث هنا، في هذا القانون، أنه جرى قلب هذه القاعدة، وهو يكتسي خطورة استثنائية كون الحديث يجري حول تشريع جديد يطال، بصورة عميقة وحادة، حقوق الأفراد وحرياتهم الشخصية، بل قد يترتب عليه تجريم وعقوبة جنائية أيضاً.
وبين هذا وذاك استمرت أزمات حكومة نتنياهو الخامسة ورئيسها، سواء على مستوى مواجهة الأوضاع الصحية والاقتصادية المتفاقمة (اقرأ مقال برهوم جرايسي) أو على مستوى السياسة الخارجية ولا سيما في محور "العلاقة الخاصة" القائمة بين إسرائيل والولايات المتحدة والتي تشهد تغيرات قد يتبين أنها دراماتيكية وغير مسبوقة، في ضوء ما طرأ عليها من مستجدات في إبان الولاية الأولى للرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب (اقرأ مقال عصمت منصور). وأهم المستجدات هي تلك التي تسببت حتى الآن بظهور مؤشرات أولى إلى تصدّع الإجماع فوق الحزبي حيال دعم إسرائيل في الولايات المتحدة، كما أبانت حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستجري في تشرين الثاني المقبل.
وليس مبالغة القول إن وجود إسرائيل في الوقت الحالي تحت وطأة احتجاجات اجتماعية هو ما يحثّ على انطلاق آمال من طرف البعض بحدوث تغيير. وفي الوقت ذاته لا يمكن في هذه المرحلة التكهن بمحتواه وحجمه انطلاقاً من حقيقة بسيطة مؤداها أنه لم يفلح بعد في إيجاد تغيير جوهري لدى صناع القرار في إسرائيل، ولا على صعيد المفاهيم العامة السائدة في أوساط المجتمع الإسرائيلي.