أدت حادثة استعادة جثث 6 مخطوفين إسرائيليين من نفق في قطاع غزة أول أمس السبت (31/8/2024) حتى الآن إلى تطوريْن ملفتيْن:
الأول، تكريس القناعة في صفوف المزيد من أوساط الرأي العام في إسرائيل بأن مقتلهم يُعدّ نتيجة مباشرة لقيام رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بنسف صفقات تبادل الأسرى المقترحة وإصراره على أن يحافظ الجيش الإسرائيلي على وجوده في محور فيلادلفيا، فضلاً عن تعزّز المقاربة الذاهبة إلى أن نتنياهو يتمسّك بهذا الموقف فقط من أجل خدمة مصلحته السياسية والشخصية.
والتطوّر الثاني هو اتساع حجم نزول الإسرائيليين إلى الشوارع للمطالبة بالتوصّل إلى صفقة تبادل أسرى، واحتجاجاً على مقتل المزيد من المخطوفين الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة، بموازاة انضمام اتحاد نقابات العمال العامة- الهستدروت إلى حملة الاحتجاج من خلال إعلان الإضراب العام اليوم (الاثنين).
وينبغي إيراد ما تكرّره الكثير من الجهات السياسية والتحليلات بأنه في سبيل حفاظ نتنياهو على مصلحته السياسية والشخصية، فإن الهدف الأسمى الذي يبقى ماثلاً أمام عينيه هو سلامة ائتلافه الحكومي الحالي مع أحزاب اليمين المتطرف من تيار الصهيونية الدينية وأحزاب اليهود الحريديم (المتشددون دينياً) والذي يوصف بأنه ائتلاف يميني كامل، مثلما ثبت مرات من الصعب حصرها إلى الآن. ولعلّ آخرها هو كل ما يتعلّق بقيام وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير (رئيس حزب "عوتسما يهوديت") مؤخراً بالإدلاء بمقابلة قال فيها إن سياسة الحكومة هي إتاحة المجال أمام صلاة االيهود في "جبل الهيكل" (الحرم القدسي الشريف)، وإنه لو كان الأمر في يديه فسيقيم كنيساً يهوديّاً هناك. وقد أشير في أغلب التعليقات حيال هذا السلوك إلى أن رئيس الحكومة اكتفى بإصدار بيان بارد ورسمي قال فيه إنه لا يوجد تغيير في ما يُشار إلى أنه "الوضع القائم" في الحرم القدسي، ولكنه من ناحية عملية يطبّع تغيير "الوضع القائم" الذي يقوم به بن غفير فعلياً، مثلما كتب المراسل السياسي لصحيفة "يديعوت أحرونوت" (27/8/2024). وبينما اعتبرت صحيفة "هآرتس"، من خلال محللها العسكري عاموس هرئيل، أن الحرم الشريف هو على الأرجح أكبر مصدر محتمل للانفجار في أراضي الضفة الغربيّة، فإنها أكدت في الوقت نفسه أن عناصر اليمين المتطرّف في الحكومة الإسرائيلية لا تكف عن صبّ الزيت على النار في الضفة الغربيّة بشكل متواصل. ووفقاً لتقدير هرئيل تقترب الضفة الغربية من نقطة غليان جديدة. ويعود سبب تقديره هذا، ناهيك عن إشارته إلى قيام اليمين المتطرّف بكل ما من شأنه الدفع قدماً نحو هذا الغليان، إلى واقع توفير الجيش الإسرائيلي غطاء للهجمات التي يقوم بها المستوطنون الإسرائيليون كما ورد في الكثير من التقارير التي تطرقت إلى الهجوم على قرية جيت في شمال الضفة، حيث أشار تحقيق أجرته المؤسسة الأمنيّة إلى أن جهاز الأمن الإسرائيلي العام ("الشاباك") سبق أن وجّه تحذيراً إلى الجيش والشرطة بشأن نية المستوطنين تنفيذ "جريمة قومية" في تلك المنطقة قبل اجتياح المستوطنين القرية. كما أشار التحقيق إلى أن الجنود كان يجب عليهم "التصرف بحزم أكبر". كذلك خلُص تحقيق أولّي أجرته المؤسسة الأمنية في اليوم التالي للهجوم على جيت، إلى وجود جنود احتياط إلى جانب المستوطنين الذين اقتحموا القرية، من دون أن يعتقلوا أياً من المعتدين. ووفقاً للتحقيق، كان هناك أيضاً أعضاء من "وحدة التأهب" المكلفين بحماية بؤرة "حفات جلعاد" الاستيطانية. غير أن جنود الاحتياط وأعضاء وحدة التأهب لم يحركوا ساكناً لمنع المجزرة التي ارتكبها المستوطنون.
ومع توقع الاستمرار في تسليط الأضواء على توتر الأوضاع في الضفة الغربية، علينا أن نشير إلى ما يلي:
أولاً، تؤكد عدة تقارير إسرائيلية سواء لمنظمات أو محللين أن عصابات المستوطنين في الضفة الغربية التي تعرف باسم "شبيبة التلال" ارتفعت أعدادها من مئات الشباب الذين يصر البعض على نعتهم بأنهم "أعشاب ضارة" إلى حركة استيطانية مسلحة ومنظمة، تحتل كل يوم مزيداً من الأراضي، وتقيم مزارع وبؤراً استيطانية، وتحدّد مناطق أمنية، ومساحات للرعي. ووفقاً لما أكده المحلل السياسي عوزي بنزيمان فإن الحكومة برئاسة نتنياهو ترى ما يجري، ولكنها تتجاهل معناه والإمكانات الهدامة الكامنة فيه. وبرأيه تتجاهل الحكومة الخروق الفجة التي يقوم بها هذا الجمهور، وتتجاهل أيضاً العمليات التي ينفّذها هذا التيار في القرى الفلسطينية البسيطة، ولا تدفع بالسلطات المختصة نحو إنفاذ القانون وتقديمهم للمحاكمة ("هآرتس"، 28/8/2024). ولا شكّ في أن هذا التجاهل هو الأسلوب الذي يسم علاقات الحكومة في السياق الإسرائيلي الراهن.
ثانياً، ارتباطاً بما سبق وفي ما لا ينحصر في أراضي الضفة الغربية، يتعيّن أن نشير كذلك إلى أن الكهانيّة داخل المجتمع الإسرائيلي تحوّلت من مجموعة صغيرة ربما كانت منبوذة في وقت ما إلى حزب شرعيّ له وجود آخذ بالتعزّز أيضاً، والقصد حزب "عوتسما يهوديت" الذي يحصل في آخر استطلاعات الرأي العام على 10- 12 مقعداً في الكنيست، والذي لا يوفر أيّ أداة عنيفة وإرهابية من أجل الوصول إلى أهدافه. كما أنه نجح في السيطرة على مواقع السلطة وله ممثلون كبار في الحكومة، وأيضاً في مؤسسات الدولة.
ثالثاً، ربما من المفيد أن نعيد التذكير أن تأثير هذا اليمين المتطرّف في الحكومة الإسرائيلية الحالية كبير وطاغ. والتطوّرات التي تتواتر في أعقاب مفاوضات صفقة التبادل عبر الوسطاء بمثابة دليل صارخ ليس على تفسير أعراض هذا التأثير فحسب إنما أيضاً على تفسير أسبابه. وحتى عندما كان تحالف "المعسكر الرسمي" برئاسة بيني غانتس جزءاً من الائتلاف الحكومي، دأبت الكثير من التحليلات على تأكيد أن الوحدة كانت ظاهرية ومزيفة، وأنه حتى عندما كان غانتس ومعه غادي أيزنكوت في "كابينيت الحرب"، فإن القوة الحقيقية كانت في أيدي زعماء أحزاب اليمين المتطرف العنصري.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, يديعوت أحرونوت, هآرتس, عوزي, الهستدروت, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو