لعلّ أول ما نصادفه في سياق إجمال الأيام المئة الأولى من الحرب الإسرائيلية ضد غزة التي صادف انتهاؤها أمس الأحد (14 كانون الثاني 2024)، هو أن ثمة لهجة مختلفة تطغى على جلّ التحليلات المتعلقة بالنتائج التي تم إحرازها حتى الآن في سياق هذه الحرب، وهي لهجة فيها قدر أكبر من خيبة الأمل وربما المرارة من جراء الفجوة الكبيرة بين ما جرى تحقيقه فعلاً والأهداف التي وضعتها الحكومة للحرب والتي ازداد توصيفها بأنها أهداف طموحة جداً وغير واقعية.
كما أن هناك حديثاً متواتراً عن خسارة وحتى عن هزيمة، وهو ما يقتضي أن نتطرّق إليه في المستقبل.
في أغلب هذه التحليلات ثمة تحفّظ من المعاني المتضخمة واللغة الرتيبة لأغلب الساسة. هذا التحفظ كبير نسبياً إذا ما قيس بما كانت عليه الحال عند بدء الحرب.
فيما يلي عرض وتحليل لأبرز ما بدر عن هذه التحليلات من تشخيصات واستنتاجات:
أولاً، استمرار الحرب يبقى المسار الأضمن لسلامة ائتلاف حكومة نتنياهو السادسة:
يبقى من أبرز التشخيصات ذلك التشخيص الذي يرى أن الاستمرار في الحرب، على الرغم من الاتفاق الواسع بأنها قد تكون استنفدت نفسها من ناحية تحقيق الأهداف التي وضعتها الحكومة لها، وبالأساس القضاء على حكم حركة حماس في القطاع وعلى قوتها العسكرية إلى جانب إعادة المحتجزين الإسرائيليين، هو المسار الأضمن لسلامة ائتلاف حكومة بنيامين نتنياهو السادسة الحاليّة على الرغم من أنه لا يؤدي إلى أي نهاية مستقرة، ولا يؤمّن تحقيق أهداف الحرب عموماً، مثلما أكد اللواء احتياط تامير هايمان، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان") والمدير الحالي لـ"معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. كما أن ثمة تلميحات في العديد من التحليلات الإسرائيلية إلى أن التقديرات السائدة في الولايات المتحدة هي أن نتنياهو يضع مصالحه السياسية حتى فوق المصالح الحيوية الأميركية، وقطعاً فوق مصالح الرئيس جو بايدن الانتخابية.
عند هذا الحدّ يتعيّن علينا أن نشير إلى أن وقف الحرب يمكن أن يتسبّب، من ضمن أمور أخرى، بخروج حزب "عوتسما يهوديت" بقيادة وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير، وحزب "الصهيونية الدينية" بقيادة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، من الائتلاف وسقوط الحكومة. ناهيك عن أن استمرار بقاء تحالف "المعسكر الرسمي" بقيادة بيني غانتس في الحكومة هو أمر مرهون باستمرار الحرب.
وفي هذا الشأن من المهم التأكيد في الوقت نفسه، أنه بالرغم من وجود بعض الخلافات في قيادة الحكومة ولا سيما في "كابينيت الحرب" (قد يكون أبرزها الخلاف بين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت) فإن الإجماع على استمرار الحرب ضد غزة وربما بالتوازي مع الاتفاق على تغيير شكلها من خلال إطلاق ما يوصف بأنها "المرحلة الثالثة" منها، ما زال طاغياً على جميع مركبات الائتلاف الحكومي، والمعارضة، والمؤسسة الأمنية، والرأي العام الإسرائيلي.
كما أنه لا وجود ملفت لأي قوة إسرائيلية ذات وزن، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، تتمرّد على هذا الإجماع. والأصوات التي تطالب بوقف الحرب ما انفكت محصورة في أفراد معدودين، وفي أوساط أهالي المحتجزين الإسرائيليين، وهي أصوات لا تصل أصداؤها إلى أسماع أصحاب القرار، ولا تؤثر في قراراتهم.
ولا ينبغي أن نسقط من الحساب أن الشروط التي شنّت فيها إسرائيل هذه الحرب كانت ممتازة من ناحيتها، وهي ناجمة بصورة رئيسة عن وجود مناخ إقليمي ودولي مؤات كما تؤكد صباح مساء، وفي الوقت عينه تشدّد على أن ذلك لا يعني أن هذه الشروط قد تتكرّر في حروب مقبلة، سواء ضد قطاع غزة، أو ضد جبهات أخرى مثل لبنان.
ثانياً، المواجهة مع حزب الله مستمرة حتى إشعار آخر:
ينسحب ما يُقال بالنسبة إلى الحرب الإسرائيلية ضد غزة على الوضع القائم في الجبهة الشمالية ضمن منطقة الحدود مع لبنان حيث تستمر المواجهة العسكرية وتبادل إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله. وبموجب تصريحات قادة المؤسسة العسكرية والأمنية وفي مقدمها آخر التصريحات الصادرة عن رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي الجنرال هرتسي هليفي، وكذلك بموجب أغلب التحليلات الإسرائيلية، سيستمر هذا الوضع حتى إشعار آخر، على خلفية إعلان حزب الله أنه لن يوقف المواجهة إلا عند انتهاء الحرب التي شنتها إسرائيل على القطاع.
ويقرّ عدد من المحللين العسكريين، ومنهم ألون بن دافيد، المحلل العسكري لقناة التلفزة الإسرائيلية 13، أن حزب الله نجح في تكبيد وحدات المراقبة الجوية الإسرائيلية في ميرون خسائر فادحة، وإن تسبب هذا أيضاً بتكبيده خسائر فادحة ومؤلمة هو أيضاً "تمثلت في عمليات اغتيال مسؤولين لم يتوقع تنفيذها"، على حد تعبيره. وبرأيه على إسرائيل أن تفترض أن حزب الله سيقوم بترقية قدرات القتال التي يمتلكها تحضيراً للمرحلة المقبلة من المعركة. فإذا تلقّت إسرائيل حتى الآن ضربات محدودة من الصواريخ المضادة للدروع الطويلة المدى Kornet-EM، يمكن الافتراض بأنها ستواجه، عمّا قريب، صواريخ مضادة للدروع أُخرى متطوّرة.
كذلك لا بُد من الإشارة إلى أن المحللين المقربين من نتنياهو يروجون لضرورة استمرار المواجهة مع حزب الله واحتمال توسعتها بحجة أن هذا الحزب هو أحد وكلاء إيران في منطقة الشرق الأوسط وأن هذه الأخيرة تعدّه لأن يشغل إسرائيل ويصرف الأنظار عنها عندما تتخذ قرارها بشأن المضي قدماً في إنتاج أول قنبلة نووية، مثلما كتب في صحيفة "معاريف" أمس الأحد كل من يعقوب ناغيل، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، والباحثة أندريا ستريكر.
ثالثاً، إسرائيل لا تمتلك قوة ردع فعلية منذ ما قبل حرب 1967:
طوال الأيام المئة الأولى من الحرب ظل هناك حديث متواتر حول قوة الردع الإسرائيلية التي تلقت طعنة نجلاء في إثر الهجوم الذي قامت به حركة حماس ضد مواقع عسكرية إسرائيلية وضد السكان في ما يعرف باسم "غلاف غزة" في المنطقة الجنوبيّة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وما تزال مسألة استعادة الردع بمثابة إحدى أهم الغايات التي يلّح عليها كثيرون وخصوصاً من أوساط المسؤولين الأمنيين السابقين. وأول ما يحضرني عندما يتكرّر الحديث عن قوة الردع الإسرائيلية هو توكيد قديم صدر عن أستاذ إسرائيلي في العلوم السياسية لفت فيه إلى أن إسرائيل لا تمتلك قوة ردع فعلية منذ ما قبل حرب حزيران 1967. فقد اندلعت هذه الحرب على الرغم من الإنجاز الإسرائيلي في الحرب التي سبقتها (حرب السويس في العام 1956). كما أن حرب الاستنزاف، في أواخر ستينيات القرن العشرين الفائت، اندلعت على الرغم من الإنجازات الإسرائيلية العسكرية في حرب حزيران تلك. وينسحب هذا الحكم على حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وعلى ما تلاها من حروب ومواجهات مع منظمة التحرير الفلسطينية وحزب الله، وصولاً إلى حرب لبنان الثانية في العام 2006 والحروب الإسرائيلية ضد قطاع غزة منذ العام 2008. كما أنّ اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن لم تكونا محصلة قوة الردع العسكرية الإسرائيلية، في رأي هذا الأستاذ. علاوة على ذلك كله فإنه حتى امتلاك إسرائيل السلاح النووي "لا يردع أعداءها" قطّ، على حدّ تعبيره. وعلى الرغم من ذلك لا تصدر عن المؤسستين السياسية والأمنية في إسرائيل أي إشارات إلى وجود نية بالتوقف عن اللهاث وراء قوة الردع العسكرية. بل يمكن القول، من دون خشية الوقوع في المبالغة، إنهما ستظلان منهمكتين بهذا اللهاث غير المجدي.