مع اقتراب موعد تعيين رئيس جديد لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، ظهرت في منابر إعلامية عدة مقالات وتحليلات تحاول تحليل ماهية الإرث الذي سيتركه وراءه الرئيس الحالي لهيئة الأركان، الجنرال أفيف كوخافي، وكان بينها مقالات جزمت بأنه إرث خطر ويُستحسن التخلّي عنه، لا سيما في كل ما يرتبط بالمواجهات العسكرية المقبلة، أو بالحروب التي قد تخوضها إسرائيل في المستقبل.
وينبغي بداية أن نشير إلى أن هذا السجال أو الجدل غير متعلق بسجال آخر حول التحديات الأمنية الماثلة أمام إسرائيل مع اقتراب تسلم رئيس هيئة أركان جديد مهام منصبه.
ومن الطبيعي أن يتضمن تحليل إرث كوخافي تطرقاً إلى أبرز ما اتسمت به فترة رئاسته لهيئة الأركان العامة من خصائص، تتعلق ببنية الجيش الإسرائيلي عموماً من جهة، بقدر ما تتعلق بتجهيزه للمواجهات العسكرية أو للحروب المقبلة من جهة أخرى، بما في ذلك ما يحيل على عقيدته الأمنية، آخذين في الاعتبار ما سبق أن قيل في السابق مرات كثيرة، على ألسنة كبار المسؤولين الأمنيين وعدد من المنظّرين العسكريين، ومؤداه أن الجيش الإسرائيلي قائم من أجل مهمتين لا ثالثة لهما: إما خوض الحرب أو الاستعداد لخوضها.
ولدى المتابعة الدقيقة لآخر التحليلات ولما سبقها أيضاً، يمكن الاستنتاج بأن أكثر ما خضع له الجيش الإسرائيلي، في إبان "عهد كوخافي"، هو تطوير قدرة التدمير والقتل الخاصة به على نحو سريع. وعلى إيقاع تطوير هذه القدرة، حذّر كوخافي أكثر من مرة، كان آخرها في مراسم أقيمت في كريات شمونه (شمال إسرائيل) يوم 23 حزيران الحالي في مناسبة إحياء ذكرى مرور 40 عاماً على اندلاع حرب لبنان الأولى (التي تُعرف في إسرائيل أيضاً باسم "عملية سلام الجليل")، من تدمير دولة لبنان في المواجهة المقبلة مع الجيش. كما أكد أنه في مواجهة كهذه، لن يكتفي الجيش بالتدمير والهدم السريع وغير المسبوق الذي سيلحق بهذه الدولة المنهارة أصلاً، بل سيوقع الكثير من الضحايا اللبنانيين، وضمنهم آلاف المواطنين الأبرياء. ويُشار أيضاً إلى أن الجيش تحت قيادته يتدّرب فعلاً على سيناريوهات حربٍ كهذه.
وإذا ما انتقلنا إلى ساحة أخرى غير الساحة اللبنانية، فلا شكّ في أن ما يقوم به جنود الجيش الإسرائيلي من جرائم قتل مكثفة في أراضي الضفة الغربية، خلال الأعوام القليلة الماضية، هو بحد ذاته غاية موضوعة نصب أعينهم، على الأقل منذ تولّي كوخافي مهمات منصبه يوم 15 كانون الثاني 2019. فلقد كُتب في ذلك الوقت أنه "ذو نزعة قوة أكبر"! وسرعان ما برهن بنفسه على ذلك في الخطاب الذي ألقاه خلال مراسم تسلّم منصبه، وفي "الأمر العسكري اليومي" الذي نشره في أول يوم له كقائد للجيش، عبر وعده بأن يوجّه جلّ جهوده لـ "تأهيل جيش فتّاك وناجع ومتجدّد"، مضيفاً أن التغيير الذي يتطلع إلى الإتيان به سيتمحور حول تعزيز نزعة الفتك من ناحية، والمزيد من تعدّد أذرع العمل العسكري من ناحية أخرى.
كما أثبت كوخافي نزعة جعل الجيش الإسرائيلي أكثر فتكاً من خلال ترقية ضابطين تقرّر في قيادة الجيش قبل ذلك تجميد رتبتيهما:
الأول، قائد "لواء جفعاتي"، عوفر فينتر، الذي حثّ جنوده على أن يعتبروا الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة العام 2014 حرباً دينية تهدف إلى تحقيق حسم ضد "عدوٍ كافرٍ يحاول تحقير آلهة إسرائيل". وفي حينه جرى التنويه، من طرف البعض، بأنه حتى وإن لم تُرتكب جرائم الحرب على مرّ التاريخ وفي تاريخ حروب إسرائيل بفعل أوامر دينية فقط، فإن إزالة الموانع أمام ارتكاب مثل هذه الجرائم يغدو أسهل عندما يتم تصوير الحرب بأنها حرب دينية ضد أناس كفّـار. فضلاً عن ذلك، فبمجرّد تصوير الحرب ضد غزة بوصفها جزءاً من حرب دينية يستقر في لا وعي الجنود المقاتلين إن لم يكن في وعيهم التام أنه لا يجوز وقفها إلا من خلال تحقيق الحسم، وأن كل الوسائل للوصول إلى هذه الغاية شرعية!
والضابط الثاني الذي تمت ترقيته هو رومان غوفمان، وكان من أشدّ المعترضين على تراجع استعمال سلاح المدرعات وقوات الجيش البرية في المواجهات مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ 1967 ولا سيما في قطاع غزة.
في سياق متصل، ينسحب الفتك الإسرائيلي الذي دفع به قدماً قائد هيئة الأركان الإسرائيلي الحالي خلال ولايته التي توشك على الانتهاء، على صادرات دولة الاحتلال الأمنية، والتي سلطت الضوء عليها مُجدّداً فضيحة برمجية التجسّس "بيغاسوس" التي تنتجها شركة NSO الإسرائيلية، والمستمرة في التفاعل دوليّاً.
وقد لا يتسع الحيّز هنا، في هذا الصدد، إلا لأن نعيد التذكير بما يلي:
في بداية العام 2020 ضمّت NSO إلى صفوفها الرئيسة السابقة للرقابة العسكرية (إحدى أذرع شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي)، وأوكلت إليها منصب "مديرة وحدة العلاقات مع الجمهور". بعد ذلك بأيام معدودة جندت الشركة رئيس طاقم وزارة الدفاع، الذي عيّنه وزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان، لتولي منصب "مدير قسم السياسات الدولية" في الشركة. وقبل ذلك بشهرين كانت الشركة أنهت تعاقدها مع مكتب العلاقات العامة الذي كانت تتعامل معه وانتقلت إلى مكتب آخر هو MFU، الذي يملكه عوديد هرشكوفيتش، وهو نائب الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي سابقاً. وفي مجرّد هذا ما يجسّد شراكة الطريق بين هذه الشركة والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
ووفقاً للمحامي إيتاي ماك، وهو أبرز ناشط في إسرائيل من أجل زيادة الشفافية والإشراف العام على التصدير الأمني الإسرائيلي، فإن معظم الحكومات الإسرائيلية تتبع منذ سبعينيات القرن الفائت سياسة واحدة، تتمثل بشراء مؤيدين عن طريق تزويدهم بالسلاح الفتّاك الذي تنتجه. وأول من اتبع هذه السياسة كانت حكومات توصف بأنها "يسارية"، فمثلاً في فترة ولاية حكومة إسحق رابين كانت إسرائيل ضالعة في تشيلي والأرجنتين، وكذلك في رواندا والبوسنة والهرسك، وهي أماكن ارتُكبت فيها جرائم رهيبة ضد السكان المدنيين. كما أن جميع الذين عملوا في هذا المجال هم جنرالات كبار ينتمون تاريخياً إلى "مباي"، الحزب الذي أسس إسرائيل وحكمها حتى العام 1977 ومنه انبثق حزب العمل الحالي. فقد كان هناك جنرالات انتقلوا إلى السياسة وآخرون ذهبوا إلى الصناعات الأمنية، ولكن في نهاية الأمر فإن اليد الواحدة تغسل الأخرى!