ما زالت هبّة أيار 2021 تأخذ مساحة من النقاشات الإسرائيلية، لا سيّما الأمنية- السياسية منها، حتى أنها تحولت إلى ظاهرة/ حالة تُثير الخوف، وتدفع في اتجاه العمل على تجنّبها لما أثبتته من قدرة على زعزعة الاستقرار الذي تسعى إسرائيل للحفاظ عليه والمتمثّل في الإبقاء على "الوضع الراهن"، وإضعاف قدرتها في إدارته والتحكّم فيه لصالح استمرار قطار الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس؛ والإبقاء على هامش للمناورة في سياساتها مع قطاع غزة بشكل يمنع انفجار الأوضاع، وفي المقابل، محاولة الحفاظ على معادلة الردع التي ترى إسرائيل أنها لا تزال قائمة حتى بعد الحرب الأخيرة- ما يسمى "حارس الأسوار"- ومجرياتها ونتائجها، بالإضافة إلى استمرار إدارة العلاقة مع الفلسطينيين في الداخل بين سياسات التحريض والأسرلة.
خلال الأسابيع الماضية، وقبل اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، نشرت عدّة وسائل إعلام إسرائيلية تقديرات للجيش الإسرائيلي وجهاز "الشاباك"، تتحدّث عن توقّعات بأن تشهد الفترة الممتدة ما بين شهر رمضان وعيد الفصح العبري تصعيداً قد يتطوّر إلى هبّة شعبية كبيرة ومواجهة مع قطاع غزة كما حدث خلال الهبّة الأخيرة. وتستند هذه التقديرات، وفق التقارير المنشورة، إلى تزايد حدّة التوتر في القدس، لا سيّما في حيّ الشيخ جرّاح، وزيادة عدد الشهداء في كافة مناطق الضفة الغربية، وتحديداً في شمالها، وهو ما دفع قائد "لواء يهودا والسامرة" في الجيش الإسرائيلي آفي بلوط لعنونة تقريره حول الوضع بـ"غداً الحرب"؛ يتحدّث فيه عن تقديرات الجيش للأوضاع الأمنية في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وآلية التعامل مع ذلك. بالنسبة لحيّ الشيخ جرّاح؛ أشارت التقديرات إلى أن هناك احتمالا كبيرا بأن تؤدّي الاشتباكات في الحيّ إلى تصعيد الأوضاع في بقية أحياء القدس والضفة الغربية وقطاع غزة أيضاً، على غِرار ما حدث العام الماضي. لذلك أجرت الحكومة الإسرائيلية، برئاسة نفتالي بينيت، مشاورات تحت عنوان "تقييم الوضع" بحضور عومر بار ليف- وزير الأمن الداخلي، ويعقوب شبتاي- قائد الشرطة، بالإضافة إلى ممثّلين عن كل من الجيش والشاباك، واعتبر بينيت اقتحامات إيتمار بن غفير المتكرّرة للحيّ بمثابة "إشعال النار في المنطقة"، واستدرك قائلاً إن "الحكومة الإسرائيلية هي من تحكم في القدس ولا أحد سواها، وبأن الشرطة ستؤمن جميع سكّان المدينة (في إشارة إلى اليهود)... إلخ". أمّا في الضفة الغربية، فتُشير التقديرات إلى أن تصاعد العمليات الفردية، وتحديداً الاشتباكات المسلّحة في مناطق شمال الضفة الغربية مؤخرّاً، وكذلك الاقتحامات المتكرّرة للجيش والوحدات الخاصة والمستعربين، وارتقاء عدد من الشهداء، من شأنها تسخين الأوضاع في الضفة، ويزداد ذلك مع تصاعد الأوضاع في القدس. إلى جانب ذلك تُشير التقديرات نفسها إلى أن تصاعد عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية يزيد من سخونة الأوضاع.
تقول التقديرات بأن تراكم هذه العوامل من شأنه إشعال "موجة تصعيد" جديدة، من المتوقّع أن تصل ذروتها في الفترة الواقعة ما بين شهر رمضان وعيد الفصح العبري، بسبب قدسية المسجد الأقصى وتوافد المصلّين بأعداد كبيرة خلال شهر رمضان، وقد بدأت الاحتجاجات والمواجهات بالفعل خلال الأيام والأسابيع الماضية، وكان آخرها اعتداء الشرطة على الفلسطينيين بشكل وحشي في منطقة باب العامود، مع تواجد مئات الآلاف لتأدية الصلاة في المسجد الأقصى في ذكرى الإسراء والمعراج،https://bit.ly/3sMnA8d. وكذلك المواجهات التي اندلعت في حيّ الشيخ جرّاح في أعقاب اقتحام المتطرّف إيتمار بن غفير للحيّ، ورغبته في إعادة افتتاح مكتبه، بالإضافة إلى عمليات الهدم التي شهدها الحي في الآونة الأخيرة. وقد أظهر ذلك ردود فعل إسرائيلية مُتباينة حول "جدوى" و"حقيقة" مثل هذه الخطوات (خطوة إيتمار بن غفير)، على ضوء التشكيلة الحكومية الحالية، وانتقال بعض كُتل اليمين بزعامة الليكود إلى المعارضة بعد حكم استمر لأكثر من عقد.
مع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، وانشغال النقاشات الإسرائيلية الداخلية في البحث عن أفضل السُبل الواجب اتّباعها لكي تحفظ إسرائيل مكانتها، وتحافظ على مصالحها وعلاقاتها مع الولايات المتحدة والدول الغربية، وفي الوقت نفسه، تجنُّب استفزاز روسيا، في ظلّ حاجتها لاستمرار حالة التنسيق بينهما في سورية، تركّز اهتمام معاهد الأبحاث الإسرائيلية، وتحديداً تلك المهتمة بمجالات السياسة والأمن القومي والاستراتيجيات، في موضوع الحرب الروسية على أوكرانيا، وتراجع الحديث، إلى حدٍّ كبير، عن احتمالية اندلاع جولة جديدة من المواجهة مع الفلسطينيين، كما ظهر خلال الأسابيع التي سبقت اندلاع الحرب. بموازاة ذلك، ظهرت بعض الأصوات الإسرائيلية التي تحاول تصوير المقارنة بين ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 (الاحتلال)، وبين ما يحدث في أوكرانيا- يُطلق عليه الغرب، وإسرائيل كذلك، الاحتلال الروسي لأوكرانيا- على أنه أمرٌ سطحي، ونابع من "قصور في فهم الاختلاف بين الحالتين"! فمثلاً يدّعي ميخائيل كوبلو، من "منتدى السياسة" الإسرائيلي، أن احتلال إسرائيل (احتلال عام 1967) كان "صدّاً ناجحاً للغاية لهجوم متعدّد الجبهات على إسرائيل"، وجاء الاحتلال "في أعقاب الخطوات الإسرائيلية التي هدفت إلى منع الهجوم الذي كان وشيكاً"، وليس كما هو حاصل في أوكرانيا حيث تُريد روسيا استعادة جمهورية سابقة لها أو تنصيب حكومة تابعة لها. بالإضافة لذلك، يدّعي كوبلو أنه وعلى "عكس الأوكرانيين، فإن للفلسطينيين تاريخاً حافلاً بالإرهاب ضد المدنيين، وهو الأمر الذي لم يستخدمه الأوكرانيون لصدّ الغزو الروسي"، وأيضاً، "القصف العنيف الذي تشهده أوكرانيا بدون استفزاز، لا يُشبه القصف الذي تردّ فيه إسرائيل على صواريخ حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة وليس أُحادي الجانب كما تفعل روسيا".https://bit.ly/3Cf072y.
تُدرك إسرائيل، وعلى الرغم من مخاوفها من اندلاع هبّة فلسطينية في الوقت القريب، أنه في حال اندلاع مواجهة مفتوحة مع الفلسطينيين، كهبّة أيار 2021، فسيمنحها الانشغال العالمي بقضية الحرب الروسية- الأوكرانية مساحة للإفلات من الضغط الدولي، أو على الأقل، الانتقاد لممارساتها وسياساتها تجاه الفلسطينيين. إن تراجع الحديث عن احتمالية اندلاع مواجهة مع الفلسطينيين من قِبَل الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ومعاهد البحث والتفكير، لا يعني أن التقديرات السابقة قد أُسقطت تماماً، أو أن العوامل والظروف التي بُنيت عليها قد تغيّرت؛ فقد شهدت الأسابيع والأيام الماضية زيادة في عمليات القمع والتنكيل، وتصعيد وتيرة الاقتحامات الليلية للمناطق الفلسطينية المحتلّة في الضفة الغربية والقدس أسفرت عن ارتقاء 4 شهداء خلال اليوم الأول من شهر آذار (14 شهيداً منذ مطلع العام الحالي) واستمرار فرض وقائع جديدة على الأرض من قِبل الجيش والمستوطنين، وكلّ ذلك في ظلّ توقّعات بأن يشهد الشهر المُقبل (شهر رمضان) مواجهات واشتباكات مع الشرطة والمستوطنين في القدس، بسبب سياسات الاحتلال للتضييق على المصلّين والمقدسيين في المدينة، بشكل مُشابه لما حدث خلال شهر رمضان العام الماضي، الأمر الذي يُعزّز من احتمالية اندلاع المواجهة خلال الفترة المُقبلة، قد تتطور إلى مواجهة مع قطاع غزة. في المقابل، فإن تقديرات الجيش، حتى وإن استندت إلى عوامل ملموسة وموجودة بالفعل، يُمكن أن تُفهم أيضاً ضمن سياسة التضخيم، حدّ المبالغة، في التوقّعات، وهي عادة قديمة لدى المستويات الأمنية والعسكرية ظهرت في أعقاب حرب أكتوبر 1973 ونتائجها المؤلمة لإسرائيل. في هذا السياق؛ يُشير ميخائيل ميلشتاين، الذي شغل منصباً مهماً في قسم الاستخبارات في الجيش، إلى أن "مخاوف إسرائيل لا يجب أن تكون من اندلاع انتفاضة ثالثة، أو حتى من انهيار السلطة؛ وإنما من الزحف البطيء للإسرائيليين والفلسطينيين نحو تطبيق فكرة الدولة الواحدة... فقد تجد إسرائيل نفسها في واقع مستقبلي يُهدّد قدرتها على الوجود كدولة يهودية وديمقراطية".للمزيد، أنظر/ي: ورقة نُشرت في معهد السياسات والاستراتيجية في جامعة ريخمان على الرابط: https://www.runi.ac.il/he/research/ips/pages/insights/michael-milshtein-16-2-22.aspx.