"في اللحظة الزمنية الراهنة، لا يفعل المجتمع الدولي أي شيء في سبيل الدفع قدماً بعملية سلام دراماتيكية في الشأن الإسرائيلي ـ الفلسطيني ولا يرى أي حاجة للتحرك من أجل استئناف المفاوضات حول اتفاق نهائي أو من أجل عقد مؤتمر للسلام في المستقبل القريب".
هذا واحد مما يمكن وصفها بـ "أسرار شائعة" عن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني وموقف "المجتمع الدولي" حياله خلال السنوات الأخيرة، يشكل واحدة من الخلاصات المركزية التي تشدد عليها "ورقة السياسات والتوصيات" الأخيرة الصادرة مؤخراً عن معهد "مِتفيم (مسارات) ـ المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية" تحت عنوان "خطوة إلى الأمام، خطوة إلى الوراء: السجال الدولي بشأن دفع السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني" والتي أعدّها د. ليئور لهرِس، الباحث في العلاقات الدولية ومدير "برنامج دفع السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني" في المعهد.
ترسم هذه الورقة، كما يقول معدّها، خارطة المواقف الدولية في مسألة دفع السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني في الظروف الراهنة، وذلك استناداً على مُخرَجات سلسلة من لقاءات الحوارات السياسية التي عقدها طاقم باحثي معهد "متفيم" خلال شهريّ آب وأيلول الأخيرين مع مجموعة من الدبلوماسيين والخبراء الأوروبيين، الأميركيين والفلسطينيين، إلى جانب مسؤولين من الأمم المتحدة، كما تستند أيضاً إلى نتائج سلسلة من المداولات التي أجراها طاقم من الخبراء الإسرائيليين شكله معهد "متفيم" لهذا الغرض خصيصاً. وتعرض الورقة تحليلاً لمواقف وتبصرات جهات دولية مختلفة بشأن التطورات السياسية الأخيرة على صعيد الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني وبشأن الخطوات المستقبلية، المطلوبة والمحتملة.
ينوه معهد "متفيم"، أولاً، بأن المبادرة لعقد هذه اللقاءات، ثم لإعداد هذه الورقة، جاءت على خلفية "واقع الجمود التام والمتواصل الذي تعيشه عملية السلام الإسرائيلية ـ الفلسطينية منذ انهيار مبادرة الوساطة التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جون كيري، في العام 2014 والقطيعة السياسية التامة التي تميز العلاقات بين الطرفين في السنوات الأخيرة، ثم سلسلة الأزمات والتوترات التي بلغت ذروتها في قضية "مشروع الضمّ" في العام 2020، والذي أزالته عن الأجندة اتفاقيات التطبيع مع بعض الدول الخليجية، لكنها لم تُحدث تغييراً في مستوى العلاقات الإسرائيلية ـ الفلسطينية. وخلال الأشهر الأخيرة، حصلت تطورات هامة على صعيد الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني تنطوي على تحديات ومخاطر كبيرة، لكنها تحمل أيضاً فرصاً واحتمالات جديدة. ومن هذه "التطورات الهامة"، تلفت الورقة الانتباه بشكل خاص إلى ثلاثة تطورات مركزية، ثم تتوقف عند كل منها بالتفصيل، وهي التالية: "أحداث التصعيد في أيار 2021، الأزمة العميقة في السلطة الفلسطينية وتشكيل حكومة جديدة في إسرائيل".
كما ينوه المعهد، ثانياً، إلى أن لقاءات الحوارات السياسية جرت وفق أحكام "قاعدة تشاثام هاوس" ولذا، فإن الورقة لا تشمل أياً من أسماء المشاركين في اللقاءات أو اقتباسات مباشرة من مداخلاتهم. ["قاعدة تشاثام" هي نظام يستخدَم في المناظرات والمناقشات السياسية التي قد تكون محل جدل، تُنسَب إلى معهد "تشاثام هاوس" اللندني ويعود تاريخها إلى سنة 1927 م. وتنص القاعدة على أنه: "حينما يُعقد اجتماع أو جزء منه في إطار قاعدة تشاثام هاوس، يكون المشاركون فيه أحراراً في استخدام المعلومات التي يحصلون عليها، لكن لا ينبغي كشف هويات أو انتماءات المتحدثين أو أي شخص آخر من المشاركين". والهدف من وراء هذه القاعدة هو إتاحة الفرصة للمشاركين للتستر على هوياتهم، سواء الاسم أو الجهة التي ينتمون إليها ويمثلونها. فللمشاركين حرية استخدام المعلومات المتداولة خلال اللقاء، لكن لا يُسمح بكشف هوية أو انتماء المتحدث أو أي مشارك آخر، وبالتالي فإن ما يقال لا يمكن معرفة قائله. وهذه السرية تشجع العديد من الأشخاص على التصريح بأقوال وآراء قد تتناقض مع ما يصرحونه علناً أو مع مواقف الجهة أو الحزب الذي ينتمون إليه].
"السلام الاقتصادي" مقابل "السلام السياسي"
بالرغم من التزام اللاعبين الدوليين الأساسيين الثابت، كما تقول الورقة، بالعناصر والمركّبات المعروفة لأي اتفاق سلام مستقبلي بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، على أساس "حل الدولتين"، إلا أنهم يضعون في هذه المرحلة "أهدافاً متواضعة جداً" تتركز، بشكل أساس، في "خطوات لبناء الثقة، منع التدهور والتصعيد، الامتناع عن خطوات من شأنها إجهاض الحل المستقبلي والدفع نحو حوار وتعاون بين الطرفين"، من خلال "التشديد، بصورة خاصة، على تعزيز المؤسسات والاقتصاد في مناطق السلطة الفلسطينية"، مع الإشارة التأكيدية إلى أنه "خلافاً للمراحل السابقة من العملية السلمية في الشرق الأوسط، فإن توقعات اللاعبين المختلفين الآن متدنية جداً".
وتبين من لقاءات الحوار السياسي التي أجراها باحثو "متفيم" أن اللاعبين الدوليين المركزيين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، قد وضعوا القضية الإسرائيلية ـ الفلسطينية في درجة أفضلية متدنية جداً، نسبياً، ولم يبدوا أي اهتمام أو نية للتدخل الجدي في حلبة هذا الصراع. وفي اللحظة الزمنية ذاتها، أكد ممثلون مختلفون أن المجتمع الدولي يستعيد التقاط أنفاسه وتجميع قواه بعد فترة الخلافات والصراعات الحادة إبان حكم إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وخصوصاً حول "مشروع الضم"، وأن المجتمع الدولي يعيد الآن تنظيم نفسه للتعامل مع إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن التي "تبشر بعودة الولايات المتحدة إلى حظيرة الإجماع الدولي بشأن الصراع الشرق أوسطي".
ثمة خلافات في الآراء والمواقف بين أطراف مختلفة في المجتمع الدولي تدور حول ما إذا كان ينبغي اعتماد سياسة تركّز على اتخاذ خطوات فعلية لدفع عملية السلام في الشرق الأوسط وحول قدرة المجتمع الدولي على إحداث التغيير المنشود في الواقع السياسي الشرق أوسطي. وفي سياق هذه الخلافات في الآراء والمواقف، توجه جهات مختلفة في الحلبة الدولية نقداً لاذعاً لمركَزة السجال السياسي في مسألة بوادر حسن النية والخطوات الرامية إلى بناء الثقة بين الطرفين. وتقول هذه الجهات إنها ترحب حقاً بأي إجراء يساهم في تحسين ظروف وشروط حياة الطرفين وتباركه، لكنها تؤكد من جهة أخرى أن التركيز على هذا المسار وحده قد يحرف الأنظار عن القضايا المركزية التي تشكل لبّ الصراع ومركز الثقل في أي اتفاق نهائي مستقبلي. وهكذا، فبينما تتركز جهات معينة، وربما العالم بأسره، في بعض التعديلات والتحسينات التجميلية، تبقى المشكلات البنيوية الأساسية في الميدان على حالها، بل تزيد تفاقماً وتدهوراً الأمر الذي قد يقود إلى انفجار كبير.
وفي هذا السياق، ثمة من يدعي بأن التركيز على التعديلات والتحسينات التجميلية لا يعدو كونه محاولة للعودة إلى سياسة "السلام الاقتصادي" الذي عمل بنيامين نتنياهو على ترويجها قبل نحو عقد من الزمن، في مسعى لاستغلال الإجراءات الاقتصادية وتجييرها لحرف الأنظار عن الحاجة الأساسية الملحة والمتمثلة في مواجهة التحديات السياسية المركزية التي تطرحها استحقاقات حل الصراع. في المقابل، تعبر أوساط دولية أخرى عن إيمانها وقناعتها بأن مثل هذه الخطوات التدريجية (في تحسين أوضاع السلطة الفلسطينية وتحسين العلاقات والتعاون بين الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني) من شأنها "ضمان تقدم تدريجي يتيح، في مرحلة لاحقة، إمكان الانتقال إلى تحقيق الأهداف السياسية الأبعد أثراً والأكثر طموحاً".
"أعمال التصعيد" في أيار 2021
ولّدت أعمال التصعيد التي شهدتها المنطقة في نيسان ـ أيار 2021، والتي انتقلت شرارتها من القدس إلى قطاع غزة وشن إسرائيل عدوانها الجديد عليه تحت اسم "حارس الأسوار"، والذي انتهى باتفاقية لوقف إطلاق النار في 21 أيار 2021، وما رافقها من تحركات أميركية رسمية مختلفة، الانطباع وكأن الإدارة الأميركية الجديدة قد غيرت توجه سابقتها وتتجه نحو تعميق تدخلها السياسي والدبلوماسي في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. لكن سرعان ما تبين أن هذا الانطباع كان خاطئاً تماماً وأن ما حصل فعلياً من تدخل أميركي، مباشر أو غير مباشر، كان قصير المدى جداً ولم يكن يرمي سوى إلى وقف القتال، لكنه لم يحمل أي بشرى بشأن نقطة تحول قريبة نحو تعزيز وتكثيف الجهود الأميركية لحل الصراع.
في موازاة ذلك، قاد التصعيد الميداني أيضاً إلى تدخل لاعبين إقليميين في مقدمتهم مصر، التي قادت الاتصالات بشأن قطاع غزة، والأردن التي ركزت جهودها في مسألة الوضع في مدينة القدس، كما شكل هذا التطور امتحاناً هاماً لاتفاقيات التطبيع بين إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكتي البحرين والمغرب. وبرغم أن هذه الدول عبرت عن "قلقها" مما يحدث في القدس ودعت إلى "وقف القتال" في قطاع غزة، إلا أن الأحداث لم تؤثر على علاقاتها مع إسرائيل، بتاتاً، بل استمرت الجهود الرامية إلى إنشاء علاقات اقتصادية وثقافية ومدنية بكل زخمها.
على المستوى الدولي، أشار عدد كبير من المتحدثين الدوليين الرسميين إلى أن "موجة العنف الجديدة تبين مدى هشاشة الوضع المتمثل في استمرار الصراع والجمود السياسي، كما تؤكد مدى الحاجة الماسة إلى الدفع نحو حل سياسي للصراع". لكن هذه التصريحات لم تُترجَم إلى تغيير في السياسات الدولية ولا إلى خطوات فعلية. ويمكن القول إن صورة الوضع كما هي عليه اليوم تبين أنه ليس ثمة في الساحة الدولية أي شعور بأي ملحاحية وبأي دافعية لاجتراح خطط أو استراتيجيات سياسية جديدة وواضحة لدفع عجلة السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني. وهذا ما تجسده، أيضاً، حقيقة أن "اللجنة الرباعية الدولية" الخاصة بالشرق الأوسط (التي تضم: الولايات المتحدة، روسيا، الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) معطلة تماماً ولا تعقد أي لقاءات منتظمة ولا تدفع نحو أي خطوات سياسية، رغم التوقع بأن يقود تغيير الإدارة الأميركية إلى استئناف عمل هذه اللجنة، بعد الشلل التام الذي أصابها طيلة حكم إدارة ترامب.
الأزمة في السلطة الفلسطينية
شكلت الأزمة المتفاقمة في السلطة الفلسطينية مصدراً آخر لقلق شديد ولإشعال الأضواء الحمراء لدى أوساط واسعة في المجتمع الدولي عموماً، ولدى الضالعين في القضية الإسرائيلية ـ الفلسطينية خصوصاً، وهو ما وضع هؤلاء جميعاً أمام الحاجة الملحة إلى خطوات سياسية فورية "تفتح أمام الفلسطينيين أفقاً سياسياً".
للأزمة التي تعصف بالسلطة الفلسطينية جوانب سياسية وميدانية بالطبع، لكن اقتصادية أيضاً ذات أهمية وأثر كبيرين، وخصوصاً حيال تفاقم هذه الأزمة على خلفية جائحة كورونا وتراجع الدعم المادي الخارجي والتبرعات من الخارج (من أوروبا والعالم العربي)، التأخير في تحويل أموال الضرائب من إسرائيل والهبوط في المدخولات من الضرائب. وتنعكس هذه الأزمة في ارتفاع معدلات البطالة، زيادة العجز المالي وصعوبة دفع رواتب مستخدمي السلطة الفلسطينية ومؤسساتها بصورة منتظمة.
على هذه الخلفية، دعت جهات دولية مختلفة، في مقدمتها الولايات المتحدة، إلى تقديم مساعدات عاجلة للسلطة الفلسطينية لمنع حصول تدهور إضافي في وضعها ومكانتها. وفي تشرين الثاني 2021، التأم في أوسلو مؤتمر الدول المانحة الذي بحث في سبل مواجهة الأزمة التي تعصف بالسلطة الفلسطينية. وفي كانون الأول عقد لقاء هو الأول من نوعه منذ خمس سنوات بين ممثلين أميركيين وفلسطينيين رفيعي المستوى، في إطار الحوار الاقتصادي بين الجانبين، إذ تباحث مسؤولو الطرفين في مواضيع اقتصادية مختلفة مثل تطوير البنى التحتية، التجارة والطاقة. وعلى الصعيد السياسي، وكجزء من جهود إدارة بايدن لترميم العلاقات مع السلطة الفلسطينية، تعهدت الإدارة بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس (وهي التي تولت إدارة العلاقات مع الجانب الفلسطيني حتى إغلاقها ودمجها في السفارة الأميركية في القدس خلال حكم إدارة ترامب)، لكن هذا التعهد لم يتحقق حتى الآن، وربما يكون سبب ذلك المعارضة الشديدة التي يلقاها من جانب حكومة بينيت ـ لبيد.
حكومة جديدة في إسرائيل
تشكلت في حزيران 2021 حكومة جديدة في إسرائيل حظيت بترحيب حار من جانب أوساط واسعة في المجتمع الدولي، وثمة أكثر من مؤشر إلى أن المجتمع الدولي عموماً معني باستمرار هذه الحكومة واستقرارها السياسي الداخلي.
يتمثل التغيير الأبرز على الساحة الإسرائيلية ـ الفلسطينية، في السياسة الإسرائيلية منذ تشكيل الحكومة الجديدة في إعادة فتح قنوات الاتصال والحوار بين مسؤولين رفيعين من الجانبين، بعد سنوات طويلة من القطيعة شبه التامة والمطلقة على الصعيد السياسي. وفي هذا السياق، بالإمكان الإشارة إلى جملة من اللقاءات والاتصالات التي عقدها وأجراها مسؤولون رسميون إسرائيليون مع مسؤولي السلطة الفلسطينية، وكان أبرزها لقاء رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، مع وزير الدفاع الإسرائيلي، بنيامين غانتس، في منزل الأخير في بلدة "راس العين" (روش هعاين).
ورغم الترحيب الدولي بالخطوات التي اتفق عليها الطرفان في إطار "جهود الحوار"، وبضمنها تقديم إسرائيل قرضاً بمبلغ 500 مليون شيكل للسلطة الفلسطينية، يتم خصمه من أموال الضرائب المستحقة التي تحولها إسرائيل إلى السلطة، وزيادة 15 ألف تصريح عمل في إسرائيل لعمال فلسطينيين، والمصادقة على بناء 1300 وحدة سكنية في المنطقة C، إلا أن المجتمع الدولي "يجد صعوبة جمة في فهم الموقف الدقيق الذي تتبناه الحكومة الجديدة في الشأن الفلسطيني"، كما تقول الورقة، وذلك "حيال التناقضات الجوهرية والعميقة بين التصريحات والأفعال التي تصدر عن أوساط متعددة في الحكومة تشد إلى اتجاهات مختلفة".
إلى ذلك، تدرك أوساط واسعة في المجتمع الدولي أن "الحكومة الإسرائيلية الجديدة لا تنوي إطلاق خطوات سياسية كبيرة وذات أهمية في الشأن الفلسطيني" وليست هناك أي نوايا لممارسة هذه الأوساط الدولية أي ضغوط على الحكومة الإسرائيلية لحملها على فعل ذلك في المستقبل القريب. وتكتفي الأوساط الدولية بمطالبة إسرائيل بـ "عدم اتخاذ خطوات تصعيدية، كمطلب حد أدنى" و"عدم اتخاذ خطوات من شأنها المس بفرص الحل السياسي المستقبلي"! غير أن الحقيقة الأهمّ ـ كما تراها الأوساط الدولية، بحسب الورقة ـ هي أن "التطورات الميدانية الخطيرة تُفقد إجراءات حسن النية الاقتصادية والمدنية تجاه السلطة الفلسطينية أهميتها وسيقتنع المواطنون في نهاية المطاف بأنه ليست ثمة سياسة جديدة طالما أنهم لا يشعرون بالتغيير ميدانياً وهو ما سيحكم على جميع خطوات بناء الثقة بالفشل المحتوم".