أعادت حادثة جبل الجرمق الأخيرة التي أسفرت عن مقتل 45 إسرائيلياً من التيار الحريدي الأنظار إلى ظاهرة "لجان التحقيق الرسمية" في إسرائيل. إذ تصاعد خلال الحادثة، وأكثر بشكلٍ لاحق، الخطاب الإسرائيلي الرسمي والمجتمعي الداعي لتشكيل لجنة تقصّي حقائق حول ما جرى، وهو ما يُصطلح عليه إسرائيلياً "لجان التحقيق الرسمية"، وهي ظاهرة نجد لها امتداداً عبر تاريخ التشكّل الدولاني للمنظومة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية في فلسطين منذ مطلع القرن الماضي، وبالذات منذ العام 1948 الذي شهد ذروة هذا التشكّل، ممثلاً بالإعلان الرسمي عن ذلك، والاعتراف الدولي الذي تبعه، وما رافق هذا الإعلان من مجازر ارتكبتها العصابات الصهيونية، المنظّمة والمسيّسة، بحقّ أبناء الشعب الفلسطيني، تسبّبت بخراب الحقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للفلسطينيين المُمتدّ على كافة الصُعد.
بداية يُمكن اعتبار لجان التحقيق الرسمية في الدول تعبيراً عن بيروقراطية الدولة الحديثة، وهو الأمر الذي شغل حيّزاً مهماً في كتابات العديد من الفلاسفة والمنظّرين. تناول الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو هذا الموضوع باستفاضة في حديثه عن عمل "لجان التحقيق" التي تُشكّلها الدول الحديثة في كتابه: عن الدولة، دروس في الكوليج دو فرانس، ترجمة: نصير مروة (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016). هذا الأمر يُظهرها، أي الدولة الحديثة، ككيان مُحايد في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية التي تعتليها وتُديرها، وتستفيد من ذلك في محاولة نفي هيمنتها وتسلّطها على المجتمع وتشكّلاته السياسية والثقافية والاجتماعية، بصورة متعمّدة غالباً، وكأنها تُدير الصراعات الاجتماعية، بشكلٍ مُحايد وموضوعي، ولمصلحة الجميع، ومن دون أن تكون ظاهرياً طرفاً فيها، أو بالحدّ الأدنى مُسبّباً رئيساً لها. أي أن هذه اللجان هي فعل من "أفعال الدولة" وجزءاً من مَسْرحَة عملها السياسي والقضائي.
في الحالة الإسرائيلية يُسيطر على الخطاب الرسمي الإسرائيلي ما يُعرف إسرائيلياً بـ"الخطاب الدولاني- مملختيوت"، الذي يعرّف الدولة كمنظومة عقلانية، ترسم علاقتها مع المجتمع - غير العقلاني والذي لا يُمكن التنبّؤ بأفعاله- بواسطة هذا الخطاب "الدولاني" بصورة تُمكّنها من الاستطراد في مُمارساتها الدولانية، الاستعمارية الاستيطانية في أساسها ومنطلقاتها هنا. ويصوّر بيير بورديو هذا الأمر وكأنها، أي الدولة الحديثة، تُقدّم نفسها ككيان مُحايد- "نقطة نظر مُحايدة"، بين وجهات نظر مختلفة ومُتصارعة تُمثّل المجتمع، تكون خُلاصتها إظهارها خارج الصراعات الأيديولوجية، ومُنزّهة عن التأثّر أو الانحياز لأي طرف أو مصلحة طرفٍ ما، وبهذا المعنى، تُصبح "لجان التحقيق الرسمية" شريكُا في مُلكية- والملكية حصرية هنا لها وللدولة التي شكّلتها فقط- السلطة الخطابية بشكلٍ يُمكّنها من إعادة إنتاج "الحقيقة" الرسمية؛ عبر تحميل "الأخطاء الأخلاقية والبشرية" لأجهزة الدولة وبعض المسؤولين فيها، وتصويرها كـ"أخطاء بشرية" فقط، ناتجة عن ضعف في الأداء الوظيفي، بدلاً من كونها نتاجاً طبيعياً وجوهرياً لعمل أجهزة الدولة، لا سيّما الأمنية منها، تنفي، بشكل مُطلق، منطق الإبادة الذي يحكم خطاب وسلوك دولة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلية في علاقتها مع الفلسطينيين، سكان البلاد الأصليين، وتصِفه بـ"الخطأ البشري"، بشكل يُسهم في إغناء مَسْرحَة العمل السياسي والقانوني في إسرائيل.للمزيد، أنظر/ ي: أنس إبراهيم، "لجان التحقيق في إسرائيل: لجنتا أور وكاهان نموذجاً (6/1)"، فُسحة: موقع عرب 48، https://bit.ly/3vTgZre.
تستند "لجان التحقيق الرسمية" في إسرائيل إلى القانون الذي نظّم تشكيلها وآلية عملها ومُخرجاتها؛ وهو "قانون لجان التحقيق للعام 1968"، إذ نصّ على أن للحكومة صلاحية تشكيل "لجنة تحقيق" في مسألة ذات أهمية بالنسبة للجمهور، وفي أي قضية عامة تتطلّب توضيحاً، أو في حالات الإخفاق الحكومي، بحيث تقوم هذه اللجنة بالتحقيق في الأمر وتقديم تقرير نهائي للحكومة، التي تمتلك صلاحية توسيع اللجنة أو تقليص موضوع التحقيق. وتتكون اللجنة، وفقاً للقانون، من ثلاثة أعضاء، ما لم تقرّر الحكومة، وبعد التشاور مع رئيس المحكمة العليا، زيادة العدد على أن يكون فردياً، ويترأس اللجنة قاض من المحكمة، على أن تُقدّم اللجنة تقريرها النهائي حول موضوع التحقيق المُشكّلة لأجله في نهاية عملها، وهي أقرب للتوصيات التي تتراوح ما بين التوصية بإغلاق الملف وبين تقديم لوائح اتّهام بحق أجهزة معيّنة أو مسؤولين مباشرين، وتوصياتها "غير مُلزمة قانونياً". مع أهمية الإشارة إلى أن اللجنة غير مخوّلة بنشر نتائج التحقيق "التوصيات"، إذا كان في الأمر ما هو مُتعلّق بأسرار الدولة أو في قضية حيوية أو على صلة مباشرة بالأمن القومي، كما ينصّ القانون على أن للحكومة الحق في تشكيل لجنة تحقيق بشكل سرّي، والإبقاء على أمر تشكيلها ومداولاتها وتوصياتها طيّ الكتمان في حال اقتضت الضرورة، أي إذا كان موضوع التحقيق يتطلّب ذلك.للمزيد أنظر/ ي: قانون لجان التحقيق لسنة 1968، https://bit.ly/3bcSJbL.
ويُمكن تقسيم "لجان التحقيق" الرسمية في إسرائيل إلى قسمين استناداً إلى سبب تشكليها؛ الأول خاص بالشأن الإسرائيلي الداخلي، والآخر ذو طابع سياسي خاص بالصراع مع الفلسطينيين والأحداث المندرجة تحت هذا الملف. وقد تشكّلت، على مدار العقود الماضية، مجموعة من اللجان في أعقاب الأحداث المختلفة- ربّما لا علاقة لطبيعة الحدث بذلك، وإنما استجابةً لضغط الرأي العام في إسرائيل، أو بسبب ردود الفعل الدولية؛ خاصة اللجان المُشكّلة في الأحداث السياسية.
ومن أبرز "لجان التحقيق الرسمية" التي تشكّلت على مدار العقود الماضية، تلك التي تشكّلت في أعقاب الفشل في حرب العام 1973: "لجنة أغرانات"، برئاسة القاضي شمعون أغرانات التي أقرّت بوجود "تقصير" في عمل أركان الجيش وأوصت بإقالة كلّ من رئيس هيئة الأركان في حينه دافيد بين إليعازر ورئيس جهاز الاستخبارات العسكرية "أمان" إيلي زعيرا. وخلال الأزمة الاقتصادية التي عصفت بإسرائيل في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم وانهيار "بورصة تل أبيب": "لجنة بيسكي"- 1983 التي حمّلت المسؤولية لوزيري المالية في حينه، يغئال هوروفيتس ويورام أريدور، وتمخّض عنها توجيه لوائح اتّهام جنائية بعد تقديم التماس للمحكمة العليا.مدار، "لجان التحقيق الرسمية في إسرائيل بين الماضي والحاضر"، المشهد الإسرائيلي، 09.02.2003، https://bit.ly/3et2Niz. وفي أعقاب مجازر صبرا وشاتيلا المُرتكبة بحقّ اللاجئين الفلسطينيين أقيمت "لجنة كاهان"- 1982 برئاسة القاضي إسحق كاهان، التي لم تُقدّم أي توصية بتقديم شخصية سياسية أو عسكرية للمحاكمة باستثناء توجيه اللوم لأريئيل شارون وزير الدفاع في حينه وإبعاده عن منصبه وتحويله لمنصب آخر، وتحميل مناحيم بيغن مسؤولية "عدم المبالاة" بتفاصيل الأحداث. وكذلك هناك "لجنتا شمغار" برئاسة القاضي مئير شمغار اللتان حقّقتا في مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل، واغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إسحق رابين، ولم تحملا أي توصية ضد أي شخصية سياسية أو عسكرية في حينه وعُرفتا بأنهما "الأكثر تساهلاً" في التعامل مع المستوى السياسي. بالإضافة إلى "لجنة أور" برئاسة القاضي ثيودور أور والتي شُكّلت في أعقاب أحداث تشرين الأول/أكتوبر 2000 التي وقعت في أراضي 1948، والتي منحت القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل شهادة براءة من مسؤوليتها عن استشهاد 13 مواطناً فلسطينياً خلال هبّة أكتوبر، ولم ترتقِ توصياتها إلى مستوى مواجهة الجريمة المُرتكبة.
وعلى الرغم من أن الغاية من تشكيل لجان التحقيق هي كشف الإخفاقات في مُمارسات السلطة التنفيذية، والتحقيق بُعمق في قضايا ذات أهمية "حيوية" بالنسبة للرأي العام الإسرائيلي، وهذا على الأقل ما هو معروفٌ عنها، فإنها تحولت مع الوقت إلى لجان تنشأ بهتافات إعلامية وخطابات كُبرى وتنتهي بردٍ ضعيف، لا يرتقي في معظم الحالات- خاصة تلك اللجان المُشكّلة للتحقيق في جرائم ارتُكبت ضد الفلسطينيين- لمستوى الجريمة المرتكبة، كما ذكرنا في الأمثلة أعلاه. وليس هذا وحسب، بل أصبحت عملية تشكيل "لجان التحقيق" آلية إسرائيلية فعّالة للتحايل على القانون الدولي والإفلات من العقاب وتضليل وخداع الرأي العام العالمي وتبرئة نفسها وجنودها والمسؤولين العسكريين والسياسيين من الجرائم والمجازر التي شُكّلت، ولم تُشكَّل لأجلها لجان تحقيق، على نحو حوّل هذه اللجان إلى صكوك غفران لتبرئة إسرائيل من جرائمها بحق الفلسطينيين.
أما فيما يتعلّق باللجان المشكّلة للتحقيق قي القضايا الإسرائيلية الداخلية؛ فتشقّ "لجان التحقيق الرسمية" طريقها بجدّ نحو توصيات جادّة وحقيقية، وصارمة في أغلب الأحيان، طالما الأمر يتعلّق بالمصلحة الإسرائيلية. وتعمل اللجان في هذه الحالة وكأنها أداة رئيسة لإعادة ثقة الجمهور بالسلطة التنفيذية، ومحاولة صياغة "رواية وطنية" حول موضوع التحقيق، بشكلٍ تُصبح فيه اللجان، أداةً- شكّلتها الدولة التي تصوّر نفسها على أنها "مُحايدة"- تُساعدها في إعادة إنتاج الرواية الرسمية، وتلعب دوراً مركزياً في تشكيل الوعي الخاص بالأحداث التاريخية المعيّنة، وهو ما أكّد عليه بورديو في وصفه لممارسات الدولة الحديثة.
ولعلّ الأيام المقبلة تحمل معها شاهداً حياً على ذلك، في حال تمخّضت عن الدعوات العلنية لتشكيل لجنة تحقيق رسمية في حادثة جبل الجرمق الأخيرة التي أسفرت عن مقتل 45 شخصاً من اليهود الحريديم، موافقة إسرائيلية لتشكيل "لجنة تحقيق رسمية"، والتي كان آخر ما تم التوصل إليه بشأنها هو إقرار المستشار القانوني أفيحاي مندلبليت بعدم وجود مانع قانوني أو عائق تشريعي لتشكيل "لجنة تحقيق".
إجمالاً؛ تُصنّف "لجان التحقيق الرسمية" الإسرائيلية التي تشكّلت في أعقاب بعض الجرائم المرتكبة بحقّ الفلسطينيين أداةً للتحايل على القانون الدولي، مكّنتها من الاستمرار في مُمارساتها الاستعمارية الاستيطانية والاستطراد فيها؛ فهي تصوّر من خلال تشكيل هذه اللجان نفسها ككيان مُحايد، أو كنقطة نظر محايدة بلغة بورديو، كما أوضحنا في البداية، وتمنح السلطة للجنة، تُعيد إنتاج الرواية "الحقيقية" الرسمية الإسرائيلية، مع تحميل المسؤولية لبعض المسؤولين بوصفها "أخطاءً بشرية" لا أكثر، وصرف النظر عن بنية المنظومة التي تولّد بحكم طبيعتها وأهدافها ومنطق عملها (منطق النفي والإبادة) هذه الممارسات، كشرط ضروري للاستمرار، واستبدالها "بالخطأ البشري" كون ذلك، في حال حصوله، يُعتبر مساساً بالرواية الصهيونية الرسمية، وهذا ما تفعله اللجان بشكل رئيس.