اتخذ مجلس إدارة "الكيرن كييمت ليسرائيل" (الصندوق القومي اليهودي) قراراً جديداً مؤخراً يقضي بالسماح للصندوق، وللمرة الأولى، "بتحرير" أراضي الضفة الغربية من الفلسطينيين عبر شرائها بشكل مباشر. ويطلق الخطاب الصهيوني الاستعماري على هذا "التحرير" المصطلح التوراتي: غئولات كركع. و"التحرير" لا يعني استصلاح أراض تسيطر عليها إسرائيل في الضفة، ولا يقتصر على توسيع المستوطنات القائمة، وإنما "استرجاع" أراض يملكها الفلسطينيون حالياً وتحويلها لملكية اليهود الأبدية.
"الكيرن كييمت" هو صندوق تأسس عام 1901 كأحد أدوات الصهيونية الاستعمارية، على أن يقوم بجمع أموال من يهود العالم وتخصيصها للاستيلاء على الأراضي وتوسيع الاستيطان اليهودي. ويتبع الصندوق المنظمة الصهيونية العالمية، ويضم في مجلس إدارته ممثلين عن كل قطاعات وأحزاب اليهود سواء من داخل اسرائيل أو من الجاليات الصهيونية في باقي أرجاء العالم. بعد إقامة دولة إسرائيل، تعالت أصوات تنادي بتحويل الصندوق، الذي له طابع استعماري بحت، إلى تراث لا داعي له، بحيث أن دولة إسرائيل هي التي يجب أن تأخذ على عاتقها التصرف بأراضي الدولة. وعليه، في العام 1954 قرر الكنيست الإسرائيلي حصر عمل الصندوق من الناحية الجغرافية في الأراضي الخاضعة للقانون الإسرائيلي. أما من ناحية المهام، فبدل أن يكون الصندوق رأس حربة في المشروع التوسعي، اقتصرت مهامه على استصلاح الأراضي التي تملكها الدولة وتشجيرها.
كانت لقرار الكنيست العام 1954 تبعات على عمل الصندوق تكشفت لاحقاً بعد حرب حزيران 1967. فتعديلات الكنيست تميز بشكل ضمني ما بين المناطق التي تخضع للقانون الإسرائيلي (دولة إسرائيل) وما بين الأراضي التي تخضع للسيادة الإسرائيلية (لاحقاً أراضي الضفة الغربية). لكن هذه التغييرات ظلت، على ما يبدو، تغييرات سطحية يراد منها إزالة الصبغة الاستعمارية عن إسرائيل أمام المجتمع الدولي. في الواقع، عمل الصندوق داخل الأراضي المحتلة بطرق ملتوية لكنها واضحة.
كان الصندوق يستحوذ على أراضي داخل الضفة الغربية والقدس (خاصة سلوان) من خلال شركة بنت (اسمها هيمنوتا) والتي كانت، نيابة عن الصندوق، تقوم بشراء الأراضي مستخدمة كل الطرق الخفية وغير القانونية وتربطها علاقات وثيقة مع الإدارة المدنية. من الصعب تقدير مساحة الأراضي التي اشترتها هيمنوتا بين العام 1967 والعام 1993، لكن حسب متتياهو سبيربير (مدير هيمنوتا السابق وعضو مجلس إدارة في الصندوق) فقد توقف نشاطها بشكل شبه كلي داخل أراضي الضفة بعد توقيع اتفاق أوسلو.
ومع ذلك، ظل صيت صفقاتها المشبوهة يطاردها وفي العام 2013 تبين أن لهيمنوتا شبهات فساد تربطها بتجار أراض وضباط كبار في الإدارة المدنية الذي سهلوا عملها لقاء رشوات سخية. تم خلال وقت قصير إغلاق هذه الملفات التي لم تصل أصلا إلى المحكمة. لكن مع صعود اليمين المتطرف في السنوات الأخيرة، والإعلان عن خطة ترامب، قررت أصوات يمينية داخل مجلس إدارة الصندوق إعادة النظر في تعديل الكنيست للعام 1954. فقد توجه أعضاء من مجلس إدارة الصندوق إلى يوسي إيلون (رئيس المحكمة المركزية في بئر السبع ما بين 2007-2008) لوضع رأي قانوني فيما يخص تفسيرات تعديل 1954. في دراسته القانونية التي أتمها عام 2020، ربما بالتزامن مع إعلان "صفقة القرن"، أجاز إيلون للصندوق بالعمل حتى في المناطق التي تقع تحت السيادة الإسرائيلية ولا ينطبق عليها القانون (في إشارة إلى الضفة الغربية). وعليه، استند الصندوق إلى هذه الرأي القانوني الذي لم يلتفت اليه أحد في إسرائيل وقام بتاريخ 14 شباط 2021 بالسماح بشراء أراضي داخل الضفة الغربية بشكل علني. بيد أن قرار الصندوق الذي جاء بصيغة "غئولات كركع"، لا يقتصر على أراضي مناطق "ج" وإنما يشمل، نظرياً، أي قطعة أرض يملكها الفلسطينيون سواء أكانت تحت السيادة الإسرائيلية (مناطق "ج") أو لم تكن (مناطق "أ" و"ب").
ثمة بعض الملاحظات المهمة التي يجب أن تُقرأ على هامش هذا القرار الدراماتيكي. قبل أشهر قليلة، جرت انتخابات داخل مؤسسات المنظمة الصهيونية العالمية وبموجبها توسع نفوذ اليمينيين بشكل غير مسبوق. بيد أن تواجد أصوات يمينية داخل مجلس إدارة الصندوق (الذي لطالما ارتبط اسمه بإرث الأحزاب العمالية الصهيونية- شبه المندثرة حالياً) ظل قليلاً جداً. ومع ذلك، هذه الأصوات القليلة التي تربطها علاقات وثيقة جداً باليمين السياسي الإسرائيلي، خاصة الصهيونية الدينية (وبالتحديد عضو الكنيست بتسلئيل سموتريتش) كان لها تأثيرات سرية واسعة على أداء الصندوق. حسب تقرير داخلي أعده المحامي يهوشع لامبرغر عن أداء الصندوق في السنوات العشر الأخير، تبين أنه وفي ظل "السبات العميق" لليسار الصهيوني، استطاع سموتريتش ورجاله الاستيلاء على الصندوق (رغم عددهم القليل بداخل مجلس الإدارة) وتحويل مبلغ 100 مليون شيكل إلى حسابات وهمية وشركات مشبوهة لشراء أراضي داخل الضفة. كل ذلك، حسب التقرير، حصل بشكل سري، كما أنه تم إجبار الأفراد المطلعين على هذه العمليات على التوقيع على أوراق للحفاظ على سرية العمليات!
وعليه، فإن هذا القرار، وفي توقيته الحالي، يجب أن يُفهم كجزء من المنافسة الانتخابية ما بين اليمين المتطرف وباقي الطيف السياسي الإسرائيلي من خلال استخدام الصندوق كمطية للمضي قدماً بضم الضفة الغربية بشكل يلتف على القانون الدولي ويستثني "حكومة إسرائيل" من الاحتجاجات الدولية. من المهم التنويه إلى أن قرار الصندوق الجديد لا يعني فقط استلامه أراضي دولة من قبل الحكومة الإسرائيلية (أراضي الضفة المصادرة لصالح الدولة) وإنما يعني أيضاً نيته الشروع بشراء أراض من الفلسطينيين بغض النظر عن مكانها. وعليه، اعترض وزير الدفاع عن حزب "أزرق أبيض" بيني غانتس، على هذا القرار الذي اتخذه الصندوق بدون إجراء مشاورات مع الدوائر الأمنية في إسرائيل. حسب غانتس، الذي يعتبر الضفة الغربية حديقته الخلفية ويترأس وحدة تنسيق أعمال الحكومة (وبالتالي الإدارة المدنية)، فإن للقرار الجديد تبعات خطيرة لم تتحضر لها المؤسسة العسكرية من قبل.
لكن بعيدا عن الحسابات الأمنية، التي عادة ما تخدم مشروع التوسع الاستيطاني في نهاية المطاف، فإن لقرار الصندوق بشراء أراضي من الفلسطينيين تأثير إيجابي على الحملة الانتخابية لليمين الصهيوني، ومن شأنه أن يحدث المزيد من الانزياح اليميني في الخارطة السياسية داخل إسرائيل. كما أن السماح للصندوق بشراء الأراضي في الضفة سيعني بأن تبرعات "الشعب اليهودي" (المقصود كل يهود العالم) سوف تنصب أكثر فأكثر في السيطرة على الضفة الغربية!
"أطلس معهد ترومان: خرائط الصراع اليهودي- العربي":
عرض حلول وفق "الحالة القائمة على الأرض"!
صدر في نهاية العام 2020 كتاب "أطلس معهد ترومان: خرائط الصراع اليهودي- العربي" الذي أعده، ورسم معظم خرائطه، الكولونيل الإسرائيلي المتقاعد شاؤول أريئيلي.
يقدم الكتاب الذي يقع في 80 صفحة بنسخته العبرية (وتمت ترجته إلى العربية والإنكليزية من قبل معهد ترومان) سياق ترسيم حدود دولتي إسرائيل وفلسطين من خلال 22 محطة تبدأ من رسائل ماكماهون- الشريف حسين (1915) وصولاً إلى خطة ترامب (2020). في كل محطة، يوفر الأطلس خرائط ملونة بجودة عالية تظهر تفاصيل ملفتة للنظر.
يحمل أريئيلي درجة الدكتوراه في الجغرافيا من جامعة حيفا، وقد خدم في الجيش الإسرائيلي في عدة مواقع حساسة أهمها نائب المستشار العسكري لرئيس الحكومة الإسرائيلية (1997-1999) ورئيس فريق الحل النهائي في سنوات أوسلو الأولى قبل أن يتقاعد العام 2001 وينضم إلى حزب ميرتس.
ويعتبر أريئيلي من الضباط الإسرائيليين المطلعين على التفاصيل التي رافقت عملية المفاوضات فيما يخص ترسيم الحدود. وإن اختياره لمحطات معينة والسكوت عن محطات أخرى، أثناء شرح سيرورة النزاع على الحدود، إنما يكشف عن دمجه بين عقيدتين بشكل لا يعتبر إشكالياً بالنسبة له: من جهة، هو يتبنى وجه نظر صهيونية لضابط انكشف على الصراع الحدودي داخل مؤسسة الجيش بحيث أنه يرى أن حدود أي دولة فلسطينية يمكن نقاشها بعد الاتفاق على ضم الكتل الاستيطانية الكبرى والحفاظ على أحياء واسعة من القدس الشرقية. من جهة أخرى، يتفاخر أريئيلي بميوله اليسارية ونشاطاته لتحقيق السلام من خلال إقامة دولة فلسطينية، بيد أن سقف "تنازلاته" اليسارية يصطدم باستمرار، وبشكل غير معلن، بغريزته الصهيونية والتزامه بالحفاظ على أمن إسرائيل.
يختار المؤلف أن يبدأ الحكاية من رسائل ماكماهون- الشريف حسين والتي بموجبها "فهم" العرب أن أجزاء واسعة من فلسطين ستضم إلى دولة الشريف حسين العربية. وهو يحاول هنا أن يشير ضمنياً إلى أمرين: الأول، لا يوجد نص صريح وواضح يدعم هذه الاستنتاجات التي وصل إليها العرب، لكن لا ضير في اعتبار المراسلات وعداً بمنحهم أجزاء من فلسطين، فالأهم هو الأمر الثاني الذي يريد أريئيلي من خلاله إيصال رسالة مبطنة بأن سكان فلسطين العرب لم يتوقوا فعلاً إلى الانضمام إلى دولة الشريف الحسين، بل إنهم حاربوا ضد بريطانيا وإلى جانب القوات العثمانية على العكس من قوات الشريف حسين. بناء على هذه البداية (غير الموفقة) يتسلسل الكتاب ليشرح تطور الحدود المتنازع عليها من خلال التركيز على وجهة النظر الرسمية المتمثلة بالاتفاقيات والمؤتمرات الدولية التي كان أهمها اتفاقية سايكس- بيكو (1916)، مؤتمر سان ريمو (1920)، لجنة بيل (1937)، قرار التقسيم (1947)، تبادل الأراضي بموجب اتفاقيات الهدنة (1949)، حرب حزيران (1967)، اتفاقية أوسلو (1993-1999)، ومؤتمرات كامب ديفيد (2000) وطابا (2001) وجنيف (2003) وأنابوليس (2007) وغيرها من المحطات. في كل محطة، يعرض إما الشكل النهائي للحدود ما بين إسرائيل وفلسطين، أو يقارن المقترح الإسرائيلي بالفلسطيني. وقد احتلت القدس مكانة مركزية في الأطلس بأن أفرد أريئيلي لها خرائط خاصة لا تبخل في التفاصيل الدقيقة.
يعتبر الكتاب مرجعا شاملا لتطور المسألة الحدودية خلال ما ينيف عن قرن من الصراع. لكنه في المقابل ينطلق من افتراض مغلوط يخفي الوجه الاستعماري التوسعي لإسرائيل من خلال تصويرها كدولة تسعى إلى "تعزيز السلام وحل الصراعات الحدودية مع الدول والحضارات والقبائل" المجاورة أسوة بالعديد من الدول ذات الحدود المتنازع عليها.
تكمن الإشكالية في هذا الطرح في تركيزه على الحدود (border) وسكوته عن تطور التخوم (frontier). فالحدود هي خطوط جيوسياسية تحدد نهاية سيادة دولة معينة وبداية سيادة دولة أخرى. بينما التخوم، حسب تيرنير- Frederick J. Turner- هي مناطق مفتوحة تنتظر اكتشافها وغزوها، وتعتبر في المخيال الاستعماري حيزا جغرافيا احتياطيا يمكن تنظيفه من الشوائب البشرية "المارقة عليه" واستيطانه من قبل الإنسان المتحضر. وعليه، لا تروي خرائط أريئيلي توسع الجيوب الاستيطانية (الييشوف) في فترة الانتداب البريطاني. فهو يقفز من مشروع دولة "إيرتس يسرائيل" الذي عرضه وايزمان أمام مؤتمر فيرساي للسلام (1919) عندما كانت أراضي الييشوف تشكل جيوبا غير متصلة ومبعثرة في مناطق الساحل الشمالي، إلى قرار التقسيم الأممي (1947) بكل سلاسة دون أن يأتي على مفهوم المشروع الاستيطاني الذي اعتمد على توسع التخوم والسيطرة المتدحرجة على الأراضي من خلال وسائل قانونية وغير قانونية لم تخلُ من التحايل والعنف والاشتباك مع السكان الأصلانيين.
وبشكل مشابه من التحايل الجغرافي، ينتقل أريئيلي إلى حرب حزيران (1967) ليقدم خارطة لمدينة القدس الشرقية والضفة الغربية وقد امتلأت بالمستوطنات الإسرائيلية دون أن يشرح السياق التوسعي الذي بموجبه تحولت الأراضي المحتلة من أرض متنازع عليها إلى أرض متنازع بداخلها. هذا السكوت يجعله يفترض، بكل سلاسة، بأن الحل العادل لحدود دولة فلسطين المستقبلية يجب أن لا يجحف بحقوق المستوطنين الذين قفزوا فجأة إلى داخل المشهد الجغرافي.
رغم أهمية الكتاب كمرجع لا يمكن إغفاله، إلا أنه يجب أن يُقرأ باعتباره مرجعاً صهيونياً يروي الحكاية من الأعلى من خلال الاتفاقيات والمؤتمرات التي عرضت حلولاً وفق "الحالة القائمة على الأرض" وليس وفق الحق التاريخي أو السياسي.