نشرت البروفسور مريام ألمان بحثا تفصيليا على موقع معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي لتحليل ما أسمته "تصاعد وتيرة ومظاهر وتعبيرات اللاسامية الجديدة" ودعوات نزع الشرعية عن إسرائيل ونبذها ومقاطعتها من قبل طلاب وأكاديميين وهيئات تدريسية في الجامعات الأميركية.
تقر معدة البحث في البداية، وبالاستناد إلى تقارير من العامين الماضيين لمنظمة محاربة التشهير، بأن معظم الجامعات الأميركية "غير متورطة" في اللاسامية التي تتنكر في هيئة معاداة الصهيونية وإسرائيل، وأن العمل ضد إسرائيل وسياساتها "غير مبرر ولا يلقى أرضية خصبة"، كما أن الطلاب اليهود لا يتعرضون للملاحقة بشكل يومي، ومن النادر أن يتعرضوا للأذى والاعتداء الجسدي، رغم نشاط حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات من إسرائيل (بي دي إس) ومحاولتها "تسميم الأجواء" وخلق مناخ سلبي ضد اليهود، وتكريس انطباعات عامة سلبية حول نفوذ اليهود الهائل المالي والسياسي في الولايات المتحدة الأميركية، وخاصة في جامعات تقع في منطقة الساحل الشرقي والغربي وشيكاغو وإيلينوي.
رغم إقرار الكاتبة المبدئي بهذه الحقيقة، إلا أنها لا تفتأ تحذر من تفشي "نوع جديد" من اللاسامية، بدأ ينتشر في مئات الجامعات في الولايات المتحدة، من بينها جامعات مرموقة ومعروفة بجديتها الأكاديمية، وتتركز فيها أعداد كبيرة من الطلبة اليهود، الذين بات ينظر إليهم على أنهم صهاينة.
اللاسامية الجديدة، وفق الكاتبة، لها مصدران رئيسان، يتقاطعان في تكريس الانطباعات السلبية عن اليهود ونفوذهم في الولايات المتحدة، أحدهما من اليمين المتطرف الذي يعبر عن وجوده من خلال رسم شعار النازية في الممرات والحمامات، أو عبر اتهام اليهود بأنهم يسعون إلى هدم أميركا البيضاء من خلال تشجيع الهجرة والقضاء عليها من الداخل، وهي تعبيرات تتعامل معها إدارات الجامعات بمنتهى الحزم وتواجهها بقوة ودون تردد، بخلاف التيار الثاني الذي يعد على "اليسار المتطرف" الذي لا تكاد الجامعات تفعل شيئا في مواجهته. تنظر الكاتبة إلى من تصفهم بأنهم "التيار اليساري المتطرف" بمنتهى الخطورة لأنهم يتسترون "تحت غطاء العدالة وحقوق الإنسان ومحاربة العنصرية" ولكونهم مكونا من جماعات تعتبر نفسها جماعات مقموعة ومستضعفة من أقليات عرقية متنوعة وجدت في إسرائيل عدوا مشتركا لها لتوجه ضده غضبها وتنشر أفكارها المسمومة، لتشكل هذه الأفكار الأرضية الخصبة لنمو اللاسامية في أوساط جيل الشباب من الطلاب والطواقم التدريسية وحتى رؤساء الجامعات"!
تحدي اللاسامية
تعود الكاتبة في بحثها إلى ما قبل قرابة العقدين من الزمن، إلى مؤتمر ديربن الذي عقد في جنوب أفريقيا العام 2001 وجمع مئات النشطاء والمنظمات الحقوقية والحركات الاجتماعية والسياسيين من مختلف دول العالم، ودعا إلى مقاطعة إسرائيل مقاطعة شاملة وعزلها دوليا ونبذها في المؤسسات الدولية، وهي الدعوة التي وجدت صداها في أوساط الجامعات الأميركية، ليصل الأمر في الوقت الراهن إلى ما هو أخطر من هذه الدعوات، حيث بات ينظر للطالب اليهودي الداعم لإسرائيل على أنه "إمبريالي وعنصري يؤيد تفوق البيض" وهو ما قاد إلى التشكيك في أهلية الطلاب اليهود وحرمانهم من تولي مناصب أكاديمية في الجامعات والتشكيك في نزاهتهم، وجعلهم يخشون من إبراز هويتهم الحقيقية وديانتهم وتعاطفهم مع إسرائيل، حيث اعتبرت منظمة "هيلل" التي تعتبر أكبر منظمة للطلبة اليهود في العالم والتي تنشط وتنتشر في 550 جامعة وكلية، أن الفترة ما بين الأعوام 2015-2020 شهدت أعلى نسبة في وقوع أحداث واعتداءات تصنف على أنها اعتداءات على خلفية لاسامية، وأن إسرائيل تحولت إلى شتيمة ومدخل إلى جهنم وأن منظمات تم استبعادها من نشاطات الجامعات، وأن مقتل الأميركي الأسود جورج فلويد على يد شرطي أبيض ساهم في تعزيز التحالف بين حركة حياة السود مهمة Black Lives Matter وما بين حركة المقاطعة الـ BDS وساعد على تغذية نظريات المؤامرة كتلك التي اتهمت المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة بأنها تمول إسرائيل من أجل تولي مهمة تدريب وتأهيل الشرطة الأميركية لقمع المظاهرات الاحتجاجية التي أعقبت مقتل فلويد بشكل لا إنساني وعنيف.
الكاتبة تلفت النظر إلى ما يحدث داخل الصفوف وإلى الدعاية "التي تغلف بكونها نقاشا حول أزمات الشرق الأوسط وإسرائيل" من قبل محاضرين لمهاجمة إسرائيل ونشر دعاية معادية لها في مجلات دورية مشهورة والمشاركة في نشاطات تشيطن إسرائيل وتؤيد العنف ضد مواطنيها وتدعو لتصفيتها.
تشارك الأطر الطلابية والاتحادات والأكاديميون وفق الكاتبة في الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل أكاديميا، بل إنهم يعاقبون الطلاب والمحاضرين "خاصة الصغار والجدد غير المثبتين" الذين يخترقون قرار المقاطعة لدرجة أنهم باتوا يخفون تعاطفهم مع إسرائيل كي لا يمس بهم ولا تتأثر مكانتهم في الجامعات.
انفتاح أكثر ورقابة أقل
تقدم الكاتبة في نهاية بحثها مجموعة من التوصيات "العملية" لمواجهة ما تصفه باللاسامية في الجامعات الأميركية معتبرة أن أفضل وأنجع الطرق هي المواجهة والانفتاح والحديث بشكل مستمر بدل الصمت أو الهروب إلى الأمام على اعتبار أن هذه الاستراتيجية هي الأنسب في فضاء الجامعات الأكاديمية التي تمتاز بحرية التعبير ولا تتساهل مع مظاهر العنصرية وتجرم العنف.
توصي الكاتبة على المستوى المؤسسي وما يتعلق بإدارات الجامعات وهيئاتها المختلفة، بالتشدد في الرقابة على المحاضرين الذين يستغلون محاضراتهم لتقديم أجندتهم السياسية الخاصة، أو استخدام موارد الجامعات ومواقعها ومنابرها من أجل نشر دعاية مناهضة لإسرائيل وعدم إساءة استخدام صلاحياتهم لأغراض سياسية وأيديولوجية وإرهاب الطلاب وفق تعبيرها، والتدقيق في النشرات التي تصدر عن هذه الجامعات والتأكد من عدم احتوائها على محتوى لاسامي ووضع معايير تحريرية عالية وصارمة على كل ما ينشر حول الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بالإضافة إلى مراجعة محتوى الكراسات التي يعدها المحاضرون وأن يتم التأكد من أنها لا تروج للرواية الفلسطينية وتعديل أي نص أحادي الجانب والنظرة.
فيما يتعلق بالأطر الطلابية توصي الكاتبة بإشراكها في دورات تأهيلية وتثقيفية حول الوعي بمفهوم اللاسامية وفهم أعمق لهذه الظاهرة، وتفهم القلق الذي يعيشه الطالب اليهودي، معتبرة أن الاستناد إلى الأمر الرئاسي الذي أصدره ترامب بتجريم انتقاد إسرائيل واعتباره مظهرا من مظاهر اللاسامية في الجامعات والتوجه إلى القضاء لا يشكل حلا للمشكلة وأن الحل يكمن في التوجيه والموارد وخلق إجماع في أوساط الطلاب والأكاديميين.
في نهاية بحثها تدعو الكاتبة رؤساء الجامعات إلى إعلاء صوتهم وعدم التردد في الرد بسرعة على أي مظهر تشتم منه رائحة اللاسامية بما في ذلك التعبيرات التي تطال إسرائيل بالنقد على اعتبار أن هذا "التعميم" لا ينسجم مع القيم المدنية والأكاديمية والإنسانية، كما أن على الطلاب اليهود الصهيونيين أن لا يخشوا من التعبير عن هويتهم وآرائهم وعدم التسليم "بتكميم أفواههم".
تمويل اللاسامية
فيما يمكن اعتباره استكمالا لبحث البروفسور مريام ألمان، وتعبيرا عن الهاجس الذي بدأت تعيشه إسرائيل من تنامي ظاهرة التأييد للفلسطينيين في الجامعات الأميركية وازدياد وتيرة الانتقاد للسياسات والممارسات التي تقدم عليها إسرائيل تجاه الواقعين تحت احتلالها العسكري، نشر المحاضر في جامعة بار إيلان البروفسور إيتان جلبوع مقالا في صحيفة "معاريف" في 6-12-2020 تحت عنوان "ماذا سيفعل بايدن؟" استعرض فيه مظاهر اللاسامية في الجامعات الأميركية.
لم يتحدث جلبوع بكلمة واحدة عن سياسات إسرائيل، أو عن الأسباب التي أدت إلى "تضاعف هذه الظاهرة"، مكتفيا باستعراض الدعم المالي الذي تتلقاه المؤسسات الأكاديمية الأميركية من الدول العربية، متهما هذه الجامعات بعدم الشفافية في الإفصاح عن مصادر دعمها والمبالغ الحقيقية التي تلقتها من دول عربية، حيث يبرز أن هذه الجامعات تلقت منذ العام 1981 وحتى العام 2020 عشرة مليارات دولار، وأن 40% من هذا المبلغ لم يتم إطلاع الجهات المختصة عليه، والأهم أن هناك توجها فلسطينيا في دعم الجامعات حيث قامت فلسطين في الأربع سنوات الأخيرة بدفع 4.5 مليون دولار لجامعات أميركية وأن هذا الدعم يهدف إلى "شراء التأثير" داخل هذه الجامعات، على حدّ زعمه.
يخلص جلبوع إلى أن على إسرائيل أن تحارب هذا الدعم، وأن تطالب الرئيس الأميركي الجديد بوقفه وإلزام الجامعات بالكشف عن مصادر التبرعات التي تصلها.
عبء اللاسامية
أقدمت منظمة التحالف العالمي لحماية الكارثة "اي إتش آر إيه" في العام 2016 على صك تعريف جديد متشدد للاسامية، ربط بشكل مباشر بين انتقاد إسرائيل وسياساتها وإنكار حقها في الوجود وبين اللاسامية، وهو ضيق هامش الجدل وانتقاد ممارسات إسرائيل، وحول كل قرار دولي إلى قرار لاسامي بشكل أوتوماتيكي في عين إسرائيل والدول والبرلمانات التي تبنت هذا التعريف.
إن هذا التضييق على كل من ينتقد إسرائيل وممارسات جيشها، والخفة في استخدام هذا المصطلح من قبل نتنياهو وحكومته والناطقين باسمها في العالم، ووسائل الإعلام المؤيدة لها، حوله إلى عبء وفتح باب النقاش واسعا حوله وأثار تساؤلات حول دوره في الحد من العداء لليهود.
لخصت الصحافية نوعا لاندو هذا الجدل في مقال لها في صحيفة "هآرتس" في 18-1-2021 اعتبرت فيه أن هذا المصطلح "بات إشكاليا" من الناحية السياسية، كما أنه يثير القلق لدى جماعات يهودية ليبرالية عالمية ومنظمات حقوقية في اسرائيل من المس في حريتها في التعبير عن رأيها تجاه سياسات حكومات إسرائيل، خاصة أن "نتنياهو يتعمد طمس الخط الأخضر الواقع بين انتقاد اسرائيل وانتقاد المستوطنات".
اعتبرت لاندو أن هذا التعريف أشعل خلافات أكثر وأكثر، وهو ما حدا بعشر منظمات يهودية ليبرالية من بينها جي ستريت وصندوق إسرائيل الجديد إلى إطلاق نداء استثنائي مشترك موجه إلى الرئيس الأميركي جو بايدن يطالبه بعدم تطبيق وعد الرئيس السابق دونالد ترامب بدمج هذا التعريف في القانون الأميركي.
رد الكاتب الاسرائيلي غادي طاوب على هذه الدعوة في مقال آخر في "هآرتس" في 29-1-2021 اعتبر فيه أن تقديم عريضة من قبل منظمة "جي ستريت" اليهودية الليبرالية ومنظمة "أميركيون من أجل السلام الآن" ومنظمة "بناة الحرية في أميركا الشمالية" وسبع منظمات أخرى تطالب بعدم تبني الإدارة الجديدة للتعريف الجديد، هو نوع من تذويب الفارق بين من يعارضون الاحتلال ومن لا يعترفون بحق إسرائيل في الوجود كدولة للشعب اليهودي، واصفا هذه المنظمات بأنها "يسارية متطرفة" ستمكن بدعوتها هذه "أعداء" إسرائيل من أن ينظفوا أنفسهم من وصمة اللاسامية.
نشر الكاتب البريطاني جونثان كوك بدوره مقالا في "ميدل إيست إي"، اعتبر فيه أن إسرائيل بدأت تخسر معركتها في إخفاء طابعها العنصري لدرجة أصبح فيها من الصعب تشويه سمعة منتقديها واتهامهم باللاسامية.
قال كوك إن اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الذي يروج للتعريف الجديد للاسامية يتجاهل تقارير مثل تقرير منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية الحقوقية التي وصفت اسرائيل بأنها دولة فصل عنصري، وتتبنى وتعزز نظام سيادة يهودية على حساب الفلسطينيين داخل وخارج الخط الأخضر.
لقد تحول التعريف والاستخدام غير الموضوعي والمفرط خاصة في السنوات الأخيرة في مواجهة الحركة الدولية المتنامية الداعية لمقاطعة إسرائيل في ظل جمود عملية السلام والتنكر لها، وتحت رعاية إدارة ترامب المتماهية مع توجهات حكومات اليمين التي قادها نتنياهو منذ ما يزيد عن عقد من الزمان وتحالفه مع عتاة اليمين الفاشي والمستوطنين، والذي يربط بين إسرائيل وممارساتها من جهة وما بين العداء لليهود واللاسامية من جهة أخرى، إلى قيد على حركات السلام والدول الداعمة لحل الدولتين والقوى الليبرالية اليهودية التي بدأت تأخذ مساحة أكبر من التأثير في الولايات المتحدة وأوروبا، كما أنه دفع الكثيرين إلى التحلي بالمزيد من الجرأة في انتقاد هذا التعريف والتحذير من خطورته على حرية التعبير لدى المنظمات الحقوقية اليهودية التي لا تتقاطع في رؤيتها للحل، ولمصالح دولة إسرائيل مع رؤية وبرنامج حكومات اليمين، قبل غيرها.
إن الخشية الحقيقية لدى التيارات الليبرالية اليهودية من الدور الذي تقوم به وزارة الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلية، وإبرازها لسلاح اللاسامية في سياق ملاحقتها لحركات المقاطعة في العالم، وحربها الشرسة ضد مصادر تمويل منظمات المجتمع المدني الفلسطيني ومحاولة شيطنة حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، هو في إفقاد هذا المفهوم لأهميته وإفراغه من مضمونه وتحويله لأداة سياسية محدودة التأثير وتحوّله إلى عبء ثقيل يصعب التماهي معه أو الالتزام بمعاييره.
إن الحديث عن "نوع جديد" من اللاسامية انما هو التعبير المستعار عن ضيق الهامش إلى حد الحظر والتجريم تجاه أي سلوك ينتقد إسرائيل أو يقف في وجهها، بما يشبه الإعلان بأنه لم يعد هناك مكان للتسامح أو التنوع في كل ما يتعلق بإسرائيل وفق ما تحدده حكومتها للعالم أجمع.