المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
"الراحل" ترامب: بصمات عميقة على المشهد الإسرائيلي.   (الصورة عن: أ.ف.ب)
"الراحل" ترامب: بصمات عميقة على المشهد الإسرائيلي. (الصورة عن: أ.ف.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1133
  • برهوم جرايسي

يتزايد الحديث في إسرائيل هذه الأيام عن مدى تأثير نتائج الانتخابات الأميركية على مواقف الساحة السياسية الإسرائيلية التي تعيش هي أيضا أجواء انتخابية، مع فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة. والقاعدة العامة هي أن الانتخابات الأميركية لا تنعكس على الأجواء الإسرائيلية، باستثناء العام 1992 الذي برز فيه التدخل الأميركي لإسقاط حكومة إسحق شمير، بصعوبة شديدة، ولكن هذا الاستثناء لا يغير القاعدة. في المقابل، كشفت الانتخابات الأميركية عن عمق الفجوة السياسية والفكرية بين الإسرائيليين والأميركان اليهود الذين منحوا أصواتهم بأكثر من 75% لجو بايدن، وكانت نسبة اهتمامهم بإسرائيل 5% فقط؛ بينما نسبة شعبية ترامب في إسرائيل فاقت 75%.

في المحطات الانتخابية الإسرائيلية، في العقود الثلاثة الأخيرة، التي ظهر فيها ما يسمى إسرائيليا "تقاطب سياسي"، خاصة في التسعينيات من القرن الماضي، رأينا أن للساحة الإسرائيلية أحكامها في الانتخابات، دون علاقة بمن يجلس ويقود في البيت الأبيض. فعلى سبيل المثال، كان فوز بنيامين نتنياهو في الانتخابات المباشرة لرئاسة الحكومة في العام 1996، حينما كان بيل كلينتون من الحزب الديمقراطي، وفي أوج المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية والعربية، وحالة الانفراج السياسي المحلي والإقليمي، إلا أن ما حسم الانتخابات الإسرائيلية في حينه، كان التصعيد العسكري الذي بادرت له إسرائيل على الساحتين الفلسطينية واللبنانية، والرد الذي كان عليه. ولربما أن التدخل الأميركي الأبرز في الانتخابات الإسرائيلية، كان في العام 1992، حينما كان يجلس في البيت الأبيض جورج بوش الأب، من الحزب الجمهوري، الذي دخل في حالة صدام مع حكومة الليكود برئاسة إسحق شمير، لرفضها التقدم في المفاوضات التي انطلقت في خريف العام 1991 في "مؤتمر مدريد للسلام"؛ ورفضت واشنطن يومها، منح حكومة شمير ضمانات مالية بقيمة 10 مليارات دولار، لتمويل حملة استيعاب مئات آلاف المهاجرين اليهود إلى إسرائيل. وكان هذا الرفض رسالة سياسية واضحة. وفي انتخابات 1992 فاز حزب العمل برئاسة إسحق رابين، ولكنه لم يستطع تشكيل الحكومة إلا بدعم خارجي ومحدود من الكتلتين اللتين تمثلان الفلسطينيين في إسرائيل، الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والحزب الديمقراطي العربي. بمعنى أنه على الرغم من هذه الرسالة الأميركية الواضحة، والتقلبات في الشارع الإسرائيلي، على ضوء انتفاضة الحجر الفلسطينية، والحركات الإسرائيلية التي ظهرت مطالبة بحل القضية الفلسطينية، إلا أن الغالبية الساحقة من اليهود الإسرائيليين صوتت في تلك الانتخابات لصالح أحزاب اليمين والأحزاب الدينية القريبة منها.

وإذا ذكرنا انتخابات 1996، فإنه أيضا في السنوات الـ 11 الأخيرة، رأينا مشهدا مشابها تقريبا، ففي العام 2009، عاد بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، بعد أن كانت الولايات المتحدة قد انتخبت باراك أوباما رئيسا عن الحزب الديمقراطي، ورسائل الانفراج السياسي العالمي التي بثها في خطاباته الأولى، بعد ثماني سنوات من عهد جورج بوش الابن. وعاد نتنياهو وفاز برئاسة الحكومة في الانتخابات البرلمانية، في العام 2013، بعد أن خرق كل خطوط العلاقة السياسية مع الولايات المتحدة، بأن تدخل جهاراً ومعه اليمين الاستيطاني في الانتخابات الأميركية في العام 2012 ضد الرئيس أوباما والحزب الديمقراطي، لصالح الحزب الجمهوري. وأمضى نتنياهو سنوات الولاية الثانية لأوباما في حالة صدام معه، سجلت ذروتها بأن القى نتنياهو خطابا أمام الكونغرس في أوج الانتخابات الإسرائيلية في آذار 2015، مُحرضا على سياسة أوباما تجاه إيران، وداعيا لعدم الموافقة على الاتفاق الدولي مع طهران. ورغم هذا، عاد نتنياهو إلى ساحته وفاز مرّة أخرى برئاسة الحكومة في ذلك العام.

ولاحقا رأينا جولات الانتخابات الإسرائيلية الثلاث التي جرت من نيسان 2019 وحتى آذار 2020، إذ أن 64% من اليهود الإسرائيليين صوتوا لصالح أحزاب اليمين الاستيطاني، ومعهم المتدينون المتزمتون الحريديم الذين باتوا جزءا من هذا اليمين، وهذا ليس بسبب الدعم المطلق الذي عرضه دونالد ترامب لصديقه نتنياهو، وإنما هو أساساً انعكاس للانحراف المستمر في الشارع الإسرائيلي نحو اليمين الاستيطاني.

ودلالة على هذا نراها في الأسابيع الأخيرة، فقد ضغطت إدارة ترامب وأحضرت لنتنياهو اتفاقيتي تطبيع مع دولة الإمارات ومملكة البحرين، واتفاق نوايا علنية مع السودان، ولكن هذا لم ينعكس إطلاقا على الساحة الإسرائيلية، وواصل حزب الليكود برئاسة نتنياهو تدهوره في استطلاعات الرأي، لصالح تحالف اليمين الاستيطاني الأكثر تطرفا، "يمينا"، الذي يرتكز على التيار الديني الصهيوني.

من السابق لأوانه حسم نتائج الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، التي يبدو أن الإعلان عنها مسألة وقت، ولكن الاتجاهات في الشارع الإسرائيلي واضحة؛ وهذا ما أظهره استطلاعان للرأي في إسرائيل في يوم الانتخابات الأميركية، كما سنرى هنا لاحقا، إذ كانت نسبة تأييد الإسرائيليين لترامب ما بين 68% إلى 77%، ونسبة التأييد لجو بايدن، لم تتجاوز 23%، وهذه أجواء لا مثيل لها في أي من دول العالم، ولا حتى في أي ولاية أميركية، كما يشير لهذا المحلل السياسي الإسرائيلي حيمي شاليف، مستندا لنتائج الانتخابات في الولايات الـ 50.

ورغم هذا، فإن المؤشرات تدل على أن المنطقة ستشهد تحولات ولو محدودة في ما يتعلق بالمسار الفلسطيني الإسرائيلي، وهذا ما ظهر في تصريحات نائبة الرئيس المقبلة، كاميلا هاريس، بإعادة العلاقات السياسية مع السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، وإعادة فتح ممثلية فلسطين في واشنطن، وإعادة الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، وكما يبدو لوكالة غوث اللاجئين الأونروا. وسنسمع دعوات لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية على أساس حل الدولتين.

ومقارنة بالأجواء والسياسات التي فرضها ترامب وفريقه في البيت الأبيض الذي سيطر عليه اليمين الصهيوني الاستيطاني، في ما يتعلق بالشرق الأوسط، فإن عهد بايدن يدل على "انفراج" إن صح التعبير. ولكن في المشهد الحزبي الإسرائيلي القائم، هناك شك كبير في أن يلقى هذا الانفراج تحولا في الأجواء السياسية الإسرائيلية. فحتى أنصار الانفراج والحل السلمي في الشارع الإسرائيلي، لا يجدون اليوم، عنوانا واضحا من بين الأحزاب المنافسة على الحكم. والتحالف الأكبر الذي واجه الليكود واليمين الاستيطاني في الجولات الانتخابية الثلاث، التحالف السابق لـ"أزرق أبيض"، نجح نتنياهو في اختراقه وشقه إلى ثلاث كتل.

السؤال الذي يطرح نفسه حاليا: هل المتغيرات في الولايات المتحدة ستقود إلى إعادة بناء التحالف السابق لـ"أزرق أبيض"، ليضم قوى أخرى؟ في السياسات الإسرائيلية لا توجد مستحيلات كهذه، فكل شيء ممكن، وهذا نتركه لبعض الوقت، حتى تظهر الأمور بوضوح أكثر، ما يتيح رسم السيناريوهات المحتملة. ولكن حتى لو التأم هذا التحالف من جديد، وجاء بقوة في الانتخابات المقبلة، على وقع الأجواء الأميركية، فإنه حينما سيأتي لتشكيل حكومة لن يجد أحزابا تضمن له الأغلبية بتوجهات خارج معسكر اليمين المتشدد.
القضية ليست اغلاق أبواب ونفي احتمالات، ولكن إذا ستكون تحولات سياسية في الشارع الإسرائيلي، فهذا لا يمكن أن يكون إذا لم تعلق إسرائيل بأزمة داخلية، وتغير في العلاقات الدولية والإقليمية معها.

فجوة سياسية بين اليهود الإسرائيليين والأميركيين

على مدى سنوات طويلة حذرت معاهد إسرائيلية، وبالذات معاهد صهيونية في العالم، من حالة الافتراق في الفكر والسياسات بين اليهود الإسرائيليين وأبناء الديانات اليهودية في أوطانهم في العالم. وسلسلة التقارير السنوية لمعهد "سياسة الشعب اليهودي" التابع للوكالة اليهودية (الصهيونية)، بما فيها الصادر في الآونة الأخيرة، دعت الحكومة الإسرائيلية والوكالة اليهودية إلى رصد موارد وطاقات لجذب أبناء الديانة اليهودية في أوطانهم، أو حسب التسمية الصهيونية "الشعب اليهودي"، للمؤسسات اليهودية الصهيونية، لزيادة الارتباط بإسرائيل.

الانتخابات الأميركية الأخيرة أظهرت أن الفجوة تتسع أكثر فأكثر، لا بل سجلت ذروة غير مسبوقة في تصويت اليهود لصالح الحزب الديمقراطي، على الرغم من كل ما قدمه دونالد ترامب لحكومة بنيامين نتنياهو، وكسر فيه الكثير من القوالب السياسية الأميركية، إذ تقول الاستطلاعات إن الأميركان اليهود صوتوا بنسبة تتراوح ما بين 75% إلى 77%، لجو بايدن، وبنسبة 78% لنواب الحزب الديمقراطي.

وأظهر استطلاعان أجريا في الولايات المتحدة هذه النتيجة، وسنأتي عليهما، ولكن هذا يتلاقى مع البيان الغاضب الذي أصدره دونالد ترامب قبل أكثر من أسبوعين من يوم الانتخابات، حينما قال إن أحد الاستطلاعات يتوقع أن يصوت 75% من اليهود لصالح جو بايدن، بينما أعلى نسبة سجلها أي مرشح ديمقراطي بين اليهود كانت 72%، وأدنى نسبة كانت 67% على مدى السنين.

فقد قال استطلاع لمعهد "بيو" الأميركي، الذين يعني بالشؤون اليهودية في الولايات المتحدة، بما فيها تعدادهم وتوزيعهم السكاني، إن 75% من الأميركان اليهود صوتوا لصالح بايدن، مقابل 21% صوتوا لصالح ترامب. بينما في انتخابات العام 2016، كانت نسبة ترامب أعلى، وحصلت المرشحة الديمقراطية في حينه، هيلاري كلينتون، على 70%، وفق المعهد ذاته.

وما يعزز نتيجة هذا الاستطلاع، وما سبقه قبل الانتخابات، كان استطلاع منظمة "جي ستريت" الصهيونية ذات التوجهات السلامية، والتي تحاول منافسة منظمة "إيباك"، إذ قال استطلاعها إن بايدن حصل على 77%، مقابل 21% لترامب. وفي الانتخابات لمجلس الشيوخ والكونغرس ارتفعت نسبة تصويت اليهود لمرشحي الحزب الديمقراطي إلى 78%. ويشكل اليهود نسبة 2% من ذوي حق الاقتراع، ولكن لهم قوة أكبر في مراكز تجمعهم الأكبر.

ووفقا لاستطلاع "جي ستريت"، فإن القضايا الرئيسة التي تهم الناخبين اليهود هي مكافحة فيروس كورونا- 54%، وتغير المناخ- 26%، والتأمين الصحي- 25%، والاقتصاد- 23%، أما مكانة إسرائيل، كأحد المواضيع التي تهم الأميركان اليهود، فقد حصلت على نسبة 5% فقط، مقابل 9% في العام 2016. وكما ذكر سابقا، فإن نتائج هذا الاستطلاع مطابقة لتقارير سابقة، التي تتحدث عما أسمته المعاهد الصهيونية حالة اغتراب بين يهود العالم عن إسرائيل.

ولكن ما ساهم في ارتفاع النسبة، حسب التقارير الإسرائيلية، هو أن الجمهور اليهودي في الولايات المتحدة، الذي تسيطر عليه الأجواء الليبرالية، ينظر بقلق لتنامي الحركات اليمينية المتطرفة، ومنها الأقرب الى النازية، وتدعم ترامب والحزب الجمهوري، وما تبديه هذه الحركات من عنصرية شرسة، تجاه شرائح مختلفة، ستصل في يوم ما لليهود أنفسهم.

وحالة "الاغتراب" حسب تسمية المعاهد الصهيونية، قائمة ليس فقط في الولايات المتحدة الأميركية، بل أيضا في التجمع الثالث في العالم، لأبناء الديانة اليهودية، بعد إسرائيل والولايات المتحدة، وهو فرنسا التي فيها 485 ألف نسمة من اليهود، فحين دعا بنيامين نتنياهو الفرنسيين اليهود في العام 2014 للهجرة إلى إسرائيل، في إثر سلسلة هجمات شهدتها بلادهم، لم يكن التجاوب سوى ببضعة آلاف على مدى عامين أو ثلاثة، وهناك شك إذا بقوا كلهم في إسرائيل، ولم يعودوا إلى وطنهم الأم، بسبب اختلاف الثقافات.

الفجوة في المواقف السياسية والفكرية مع اليهود الإسرائيليين، ظهرت في استطلاعين للرأي في إسرائيل، الأول للقناة 13 التلفزيونية الإسرائيلية، إذ قال الاستطلاع إن 68% من الإسرائيليين يؤيدون ترامب، مقابل 12% لجو بايدن، والاستطلاع الثاني لمعهد "ميتافيم"، الذي قال إنه بعد تحليل أجوبة الذين لم يردوا جهارا على الأسئلة، فإن نسبة التأييد لترامب تصل إلى 77%، مقابل 23% لجو بايدن.
وقال رئيس الحزب الجمهوري الأميركي- فرع إسرائيل، مارك تسيل، في تصريحات إعلامية، إن 80% من الذين صوتوا في إسرائيل في الانتخابات الأميركية منحوا أصواتهم لصالح ترامب. ولم تصدر إحصائية رسمية لمعرفة عدد المصوتين، ولكن يقدر عددهم ببضعة آلاف.

وتبين من تقرير لصحيفة "هآرتس" أن إسرائيل لربما هي الوحيدة في العالم، التي يحظى فيها ترامب بهذه الشعبية، ففي استطلاع عالمي تبين مثلا أن نسبة التأييد لترامب في الدانمارك 6% مقابل 80% لبايدن، وفي ألمانيا 11% لترامب مقابل 71% لبايدن، وفي إسبانيا حظي بايدن بتأييد 65% مقابل 18% لترامب، وفي إيطاليا كان نصيب بايدن 58% مقابل 20% لترامب.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات