تجري مُحاولات عديدة من الجانب الإسرائيلي لفهمِ ممارسات "الدولة اليهوديّة" ضدّ الفلسطينيين، انطلاقاً من الأوضاع السيئة التي يعيشها هؤلاء الأخيرون. ونتساءل نحنُ الفلسطينيين حولَ إسهام بعض الجمعيّات والأحزاب في تحليلِ الأوضاع التي نمرّ بها، ومحاولاتها تأطير جميعَ الممارسات، وما هي الحدود المعرفيّة التي تُهيمن على هذهِ التحليلات، علماً بأنها تختلف وليست جميعها بنفسِ الدرجة من العُمق في اختراق طبقاتٍ الهيمنة الكولونياليّة إزاء الفلسطينيين، وأيضاً نتساءل كيف نستطيع نقد هذهِ التحليلات أو استعادتها فلسطينياً، أي إعادة سؤال الألم والقهر من الموقع الفلسطينيّ، حيثُ بدأت علاقة القمع.
ما سأحاول فعلهُ في هذا السياق هو نقد تقرير أصدرته منظمة "يش دين" (YESH DIN) لحقوق الإنسان مؤخراً تحت عنوان "الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربيّة وجريمة الأبارتهايد"، مبيناً كيف تمّت ديناميكيّة صياغة التقرير ليكونَ متوائماً بشكل ما مع الخطوط العريضة الإسرائيليّة، مع أن نصّ التقرير يملكُ إمكاناتٍ عديدة لنقدِ المنظومةِ الإسرائيليّة كاملةً كجهازٍ كولونياليّ لديهِ مهام وإجراءات محددة تجاه الفلسطينيّ، وفقاً للمنطقة الجغرافيّة.
نقد التقرير سيكون ضمن تمهيد عامّ حولَ التقرير، شارحاً أهم ما جاء فيه، ونقد بنيتهِ المعرفية وحُكمهِ الأخلاقي. أيضاً سأبيّن مواطن الضعف في النصّ، أي كيف تمّت مواءمتهِ مع الخطوط العريضة الكولونيالية وخاصّة في فهم السيادة، وسأناقش انطلاقاً من موقع المستعمَر الفلسطيني إمكانيّات تأطير مفهوم الأبارتهايد فيما يتعلّق بالكلّ الفلسطينيّ.
الأطروحات الأساسيّة
يرسم التقرير خريطة "الرأي القانونيّ" في خصوص جريمة الأبارتهايد والنظامِ الإسرائيليّ السياسيّ والقانونيّ. وحدّد جغرافيا الضفة الغربيّة (وغزة) كإطارٍ جيوسياسيّ، لفحصِ إنفاذ جريمة الأبارتهايد، وتوصّل الكتّاب القانونيون إلى ذلك من خلال الإشكاليّة أو المعضلة في وصفِ فلسطين التاريخيّة كإطار جيوسياسيّ، تجري فيهِ جريمة الأبارتهايد وفقاً للمنظمات الدوليّة في إثر التمايزات في الأنظمة التي شكّلتها دولة إسرائيل في الضفة الغربيّة (حُكم عسكريّ) وغزّة (حُكم عسكريّ من خلال الحصار) وداخل الخط الأخضر (حُكم برلماني ديمقراطي)، بغضّ النظر عن ادعاء أنها في النهاية تحكم فلسطين التاريخيّة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وإدارياً.
إذاً، التقرير مرتبط أساساً بجغرافيا الضفّة الغربيّة وغزة نظرياً، إنما عملياً كان التقرير متعلّقاً فقط بالضفّة الغربيّة حيث المنظمة تمتلك فيها تجربة طويلة وفهم عميق لجميعِ أشكال القهر والقمع إزاء الفلسطينيين في تلكَ المنطقة.
خطّة التقرير هي كالآتي: بدايةً توضيح مفهوم الأبارتهايد تاريخياً، ثمّ تبيان الفصل الحاصل بينَ واقع الجريمة التاريخيّ والجغرافيّ لتصبح جريمة قانونيّة دوليّة، لها مميزاتها وتفاصيلها المجرّدة، لتستطيع إسقاطها على ممارساتِ الأنظمة في جغرافيّات مختلفة ضمن شروطٍ محددة.
وذكرَ التقرير أن ما يميّز التعريفات الدوليّة أو الشروط لوصفٍ نظامٍ معيّن بأنه يقوم بجريمة الأبارتهايد، دون اشتراط أيديولوجيا عنصريّة، فقط شروط ثلاثة، وتحت أي دافع ومحفّز توصف بالجريمة الدوليّة.
وبحسب التقرير هذهِ الشروط وفق القرارات الدوليّة المتمثلّة في الاتفاقيّة الدوليّة المتعلقة بالـ"أبارتهايد" 1973 واتفاقيّة روما 1998: أولاً، وجود فعل الجريمة أو الجرائم الانسانيّة ضدّ جماعةٍ إثنيّة/ قوميّة على يد جماعةٍ إثنيّة/ قوميّة أخرى. وتتخلل الجريمة أفعال القتل والإبادة والطرد والمُلاحقة والاغتصاب والاستعباد والاستغلال وغيرها من الممارسات التي تقيّد الحريّات، وتسبب الأضرار النفسيّة، وتمنع استكمال الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ضدّ الجماعة.
والشرط الثاني متعلّق بالعلاقة بين جماعتين، لتحقّق جريمة الأبارتهايد. بمعنى أنه يجب وجود جماعة تقوم بالجريمة (كما في الشرط الأول) ضدّ جماعةٍ أخرى، بشكلٍ منظمّ ومنهجيّ في إطارٍ جيوسياسيّ معيّن، وهُنا يوضّح الشرط أن وجود جماعة تعبّر عن ذاتها على هيئة دولة، تقوم بجرائم متعددة ضد جماعةٍ أخرى وتضعفها وتُلاحقها وتبيدها بشكلٍ منهجيّ مرتبط بمؤسسات وهيئات وأجسام الدولة ولأي سبب كان. فهي جريمة أبارتهايد وضدّ الانسانيّة، أي أنها تحملُ قانونياً بعداً دولياً، وهي ليست جريمة محليّة فقط.
وأوضحَ التقرير أن الشرط الثالث كما جاء في الاتفاقيتين هو أن الجماعة المُعتدية المرتكبة للجريمة تسعى بطرقٍ متعددة للحفاظ على هذا النسق، وضمان استمراريّة الجرائم ضدّ الجماعة الأخرى. وأدرجت الاتفاقيات جريمة الأبارتهايد في سلّم الجرائم ضدّ الانسانيّة.
في هذا الصدد، قام التقرير بفصلِ بينَ السيادة على الضفة الغربيّة (وقطاع غزّة) في التعريفاتِ القانونيّة لدولةِ إسرائيل من جهة، والسيادةِ بالمعنى السياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ من جهةٍ أخرى. على إثر ذلك نظر التقرير إلى منظومة الاحتلال الإسرائيليّة التي يعبّر عنها الحاكم العسكريّ وضبّاط وجنود ومستوطنون، بمعزل عن المنظومة الاسرائيليّة البرلمانيّة أو المدنيّة التي تعبّر عنها الحكومة ووزارة العدل.
وبعدَ إتمام الفصل أكد التقرير وجودِ جماعةٍ فلسطينيّة في الضفة الغربيّة تعاني جميع أشكال القهر والقمع على يدِ جماعةٍ إسرائيليّة/ يهوديّة مستوطِنة في الضفّة الغربية، تحت إطار منظومة الاحتلال، للحفاظ وضمان سلبِ الأراضي والاستيطان الاسرائيليّ، وبذلكَ ترتكب جريمة حرب وفقاً للقانون الدوليّ، ولكن يتساءل التقرير: هل من الممكن فهم الممارسات الاسرائيليّة في الضفة الغربيّة كجريمة أبارتهايد؟
تحقّق جريمة الأبارتهايد متعلّق بسؤالِ الاستدامة للجرائم التي ترتكبها الجماعة ضد أخرى، بشكلٍ منظمّ ومنهجيّ، في إطارٍ جيوسياسيّ تحت سيطرة منظومة احتلال، وما يوردهُ التقرير في هذا الخصوص أن الأفعال المنهجيّة التي ترتكبها منظومة الاحتلال تُضعف وتقمع وتفكك المجتمع الفلسطينيّ في الضفة الغربيّة مقابل تمكين المجتمع الاستيطاني في المنطقةِ ذاتها. وأشار التقرير إلى أن مصالح المستوطنين في الضفة الغربيّة أصبحت متداخلة مع المنظومة العسكريّة، مما يجعل بنية متماسكة تثبّت علاقات استغلال من جهةٍ وإبادةٍ سياسيّة ورمزيّة ومادية من جهةٍ أخرى، وذلك عبرَ تقويض ومحو حقوق وحريّات الفلسطينيين مقابل تعزيزها عند المستوطن الإسرائيليّ في الضفة الغربيّة.
ويتضح ذلك في جميع المستويات والجوانب، وعلى رأسها الأرض، فقد وظّفت منظومة الاحتلال 99% من الأرض لصالحِ المستوطنين، وما يقل عن 0.24% لصالح الفلسطينيين، وقامت بسلبِ الأراضي لصالح الإسرائيلي لخدمةِ مصالح سكنيّة ومدنيّة وأمنية. بالمقابل، تمنع المنظومة الفلسطينيّ من البناء والتطوير على الأرض.
ومنظومة الاحتلال تعمل وتضمن بقاء واستمراريّة الجرائم التي ذكرناها وغيرِها، كما تمّ تفصيلها في التقرير، من خلال إجراءات قانونيّة للسيطرة أكثر على الأرض، وتغيّرات بيروقراطيّة، وقرارات وإعلانات من مسؤولين في الحكومة في العقدِ الأخير خاصّة، جميعها تأتي في سياق بقاء هذهِ المنظومة والحفاظ عليها، وإتمامها من خلال سيرورة "الضمّ" بشكلٍ كامل أو مناطق معيّنة.
إذاً بعد إتمام الفصل بينَ النُظم الاسرائيليّة في كلٍ جغرافيا فلسطينيّة، والتركيز على جغرافيا الضفة الغربيّة، جاء تأطير الممارسات المنظمة والمنهجيّة ضد الفلسطينيين تحت عنوان جريمة الأبارتهايد، على أساسِ جميع الممارسات غير الانسانيّة ضد الفلسطينيين من نزعِ حقوقهم وحريّاتهم، والفصل بين المجموعتين في الضفّة الغربيّة، ومنعِ تطوّرهم وتقييد حركتهم في الحيّز المكانيّ، وجميعها وغيرها كما أوضحنا سابقاً، ليست مؤقتة بل بنيويّة، وإسرائيل تحاول قدرَ الإمكان استدامة هذهِ الممارسات، من خلال سياسة الضمّ، أو إعادة تشكيل الحيّز المكانيّ، وأيضاً ضرب جميع القوى السياسيّة المعارضة، وملاحقتها واعتقالها إدارياً. بالتالي، استنتج التقرير أن المنظومة العسكريّة يجب إعادة تأطيرها كجريمة أبارتهايد.
عند هذا الحد نتساءل: أين تكمن مواطن الخلل في هذا التقرير؟ وما هي الفرضيّات المعرفيّة التي تشكّل هذا الفصل بين النُظم؟
تحدّي فصل النُظم لـ"تبرئة الديمقراطية الإسرائيلية"
يتأسس التقرير بدايةً على الفصل بينَ النُظم الاسرائيليّة (الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر وقطاع غزّة) نظرياً، بالرغم من ملاحظتهِ لإمكانيّة فهم جميع النظم داخل نسق واحد استعماريّ بما أنها عملياً متداخلة ومن الصعب فصلها.
واعتمدَ الفصل على أساساتٍ قانونيّة/ سياسيّة داخل النظام الإسرائيلي في تعاطيهِ مع السيادة على الضفة الغربيّة وقطاع غزّة. وتفكيك هذا الفصل، يحتاج منّا بدايةً إلى رصد الفرضيّات التي يتأسس عليها التقرير، الالتزام بالقانون الرسميّ سواء الدوليّ أو الإسرائيلي، لفهمِ الواقع في فلسطين التاريخيّة وفصلِه، ويتضمن قبولاً وتأكيداً على شرعيّة الدولة اليهوديّة بالرغم من مضامين عنصريّة وممارسات منهجيّة ضد الفلسطينيين.
في صددِ فصلِ الدولة اليهوديّة كنظامٍ متمايز قانونياً عن "المنظومة الأبارتهايديّة"، كما وصفها التقرير، يتأتى ذلك عن فهمِ السيادة بوصفها قانوناً ضمن المنظور الليبراليّ، وفي نقدِ كارل شميت للسيادةِ وتعميق النقاش حولها يتبيّن معنى آخر للسيادةِ في حالةِ الاستثناء أو الطوارئ التي تمرّ بها الدولة، أي حدوث أمر لم يكن وفق حسابات المنظومة اليومية. وهذا يتداخل مع النقاش الدائر في التقرير؛ هل الدولة اليهوديّة (داخل الخط الأخضر) بمؤسساتها المدنيّة والعسكريّة مرتبطة وسيّدة القرار داخل الضفة الغربيّة؟ هُنا نعي أن السيادة، بوصفها القرار الأخير، تُصبح الدولة اليهوديّة مسؤولة عن مجملِ الأنظمة التي توظفها ضدّ الذوات الفلسطينيّة والمجتمعِ الفلسطينيّ، وإعادةِ تشكيل المساحات التي يعيش عليها الفلسطينيون لتصبح أداةً للقمع. وأقتبسُ من كارل شميت ("اللاهوت السياسي"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ص 29): "كلّ قانون هو قانون وضعيّ، والحاكم السيّد ينتج الوضع بمجمله ويضمنه، فهو يحتكر هذا القرار الأخير. وهُنا، يكمن جوهر سيادة الدولة التي يجب أن تكون محددة تشريعياً بشكلٍ صحيح، وهذا ليسَ احتكاراً للفرض أو للحكم، بل هو احتكار لاتخاذ القرار"، وبالتالي تتضح اصطناعيّة الفصل بين النُظم، علماً أنها نظرياً وعملياً متشابكة في القرارات، حيث إن شميت يوضّح لنا أهميّة القرارات النهائيّة، في سياقات استثنائية لتحليل السيادة في التعاطي مع الواقع (والقصدُ في "الحاكم السيّد" في سياقنا، هو الشخص الذي ينتخبه الشعب، ويصبح هو صاحب القرار الأخير، بمعزل عن طموحات الأفراد الذين انتخبوه).
التقرير يؤسس هذا الفصل لسببين متداخلين مع الفرضيّات التي يقوم عليها التقرير: الأول من أجل استهداف الجريمة التي تجري في الضفة الغربيّة وإعادة تأطيرها قانونياً على أنها أبارتهايد وجريمة عليا ضد الانسانية وفقاً للقوانين الدوليّة. والسبب الثاني من أجل استعادة الشرعية النظريّة للدولةِ اليهوديّة الديمقراطيّة، التي تتحقق خارج الجريمة التي تجري في جغرافيا الضفة الغربية (خارج الخطّ الأخضر)، أي أنها خارج "النظام الإسرائيلي الديمقراطيّ" داخل الخطّ الأخضر. وفي خصوص هذهِ المسألة، نرى منظور حاييم جانز، أستاذ فلسفة القانون والأخلاق في جامعة تل أبيب، للصهيونيّة في شكلها السياسيّ داخل الخط الأخضر على أنها تمثّل الشرعيّة الأخلاقيّة والقانونية لتأسيس دولة اليهود، إلا أن هذهِ الشرعيّة بدأت بالتصدّع بعد عام 1967، حيث بدأت هيمنة الدولة في جغرافيا محتلّة وفق القوانين الدوليّة ("الصهيونية العادلة - مقال عن الوضع الأخلاقي للدولة اليهودية"، منشورات مولاد، باللغة العبرية).
هُنا النقطة المركزيّة التي ينصّ عليها التقرير بشكلٍ أو بآخر، وينطلق منها لنقدِ الممارسات خارج "الجغرافيا الشرعيّة" وبالتالي يفقد التقرير مرتكزا أخلاقيّا ومنصوصا عليهِ في اتفاقيات دوليّة بخصوص الأبارتهايد ولفتِ إليه التقرير بشكلٍ عابر، إلا أنه يحمل إمكانات المساءلة السياسيّة والقانونية والأخلاقية ضدّ الدولة الكولونيالية، حيث يجب أن تكون على النحو التالي؛ هل يوجد جماعة تسحق جماعة، في فلسطين التاريخية؟ هذه المساءلة في شكلها المجرّد هي الانطلاقة الأولى للاتفاقيات؛ ونُجيب هُنا نعم، ننظر إلى فلسطين التاريخيّة منذُ عام الانتداب وبداية الاستعمار البريطاني، نجد جذور ونشوء صياغة جماعة يهوديّة استيطانيّة تطمح للهيمنة والسيطرة وجودياً في كلّ المستويات، وكانَ ذلك على حساب الجماعة الأصلانيّة.
إذاً، المعيار الأساسيّ في تنقيب الواقع بحثاً عن جريمة الأبارتهايد هو من خلال تقصي هيمنة جماعةٍ على جماعة أخرى، وهذا ما نجدهُ في فلسطين التاريخيّة، عبر نُظم وأساليب وديناميكيّات عدّة تطرّق إليها العديد من الباحثين. لذلك يمكن القول إنه في حالِ ارتكز التقرير على هذهِ الفرضية النظريّة "جماعة مقابل جماعة" كمعيار بدلاً من تقصي القوانين والبيروقراطية كمعيار أساس للحُكم الأخلاقي والدولي إزاء الجريمة المرتكبَة بحقّ الفلسطينيين، من الممكن تأطير الأبارتهايد فلسطينياً بصورة شاملة، مع التنويه أن هذا لوحده لا يكفي بالطبع لفهمِ المسألة الفلسطينية والظاهرة الكولونيالية الإسرائيلية.