يعتبر المحامي أفيغدور فيلدمان أحد أبرز وأهمّ المحامين ألإسرائيليين، إن لم يكن أبرزهم وأهمّهم على الإطلاق، الذين خاضوا، بمنهجية ومثابرة، نضالاً قضائيا عنيداً ضد أساليب التعذيب التي يستخدمها "جهاز الأمن العام" (الشاباك) ضد المشتبه بهم أو المعتقلين الذي يخضعون للتحقيق لديه، وخصوصا من الفلسطينيين، وضد إرساء هذا الأساليب "نهجاً مكرّساً وطبيعياً" في عمل هذا الجهاز.
في مقالة مطولة نشرها في ملحق صحيفة "هآرتس" الأسبوعي (28/12/2017)، تحت عنوان "هكذا حاولت محاربة التعذيب في الشاباك وكدتُ أنجح"!، روى فيلدمان عن تجربته المريرة في هذا النضال المتواصل منذ سنوات طويلة واعترف بأنه فشل في نضاله هذا: "لسنوات عديدة، حاولتُ محاربة التعذيب في الشاباك، قضائيا، بل واعتقدتُ بأنني قد نجحتُ وحققتُ نصراً بتحويل إسرائيل إلى دولة أفضل. لكن، كم كنتُ ساذجا"!
يستهل فيلدمان مقالته بـ"صورة النصر" التي ارتسمت في أروقة "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية يوم 6/9/1999، حين أصدرت هذه المحكمة قرارها الذي يحظر "اعتماد التعذيب كنهج" في تحقيقات "الشاباك" ـ "قليلة هي صور النصر في ألبوم الصور خاصتي من المحاكم. ثمة صور كثيرة نظهر فيها، أنا وزملاء آخرون، نخرج من قاعة المحكمة برؤوس منكسة. ومن يمعن النظر في هذه الصور يمكنه أن يرى، أيضا، دمعة في العين بينما يتمتم اللسان عبارات من قبيل "سنقدم طلبا لبحث إضافي" أو "سنقدم طلبا لإعادة المحاكمة" أو شيئاً آخر عديم الأمل إطلاقا".
ثم يضيف: "كثيرة جدا هي الالتماسات التي تقدمتُ بها ضد التعذيب، لكن جواب الدولة كان واحدا موحدا على الدوام: "الشاباك لا يستخدم التعذيب". ولكن، ما الفائدة من تقديم الالتماس، أصلاً؟ فتجربتي في هذا المجال تثبت أن نقطة الانكسار لدى المحقَّق معه في "الشاباك" تحصل، عادة، في اليوم الثاني أو الثالث من التعذيب، بينما يستغرق تقديم الالتماس ـ منذ لحظة توجه العائلة إلى المحامي وحتى تحديد موعد للنظر في الالتماس، إذا لم يتم رفضه على الفور ـ ستة أيام على الأقل. وهي فترة زمنية كافية للمعذِّبين لعمل كل ما يريدون وانتزاع اعتراف، حقيقي أو وهمي. أما انكسار المحقَق معه فيحصل، أساسا، جراء تهديد المحقِّقين له بأنهم لن يتوقفوا (عن تعذيبه) حتى يدلي بما لديه من معلومات وجراء التهديدات بما سيفعلونه لزوجته، التي يتم جلبها إلى المعتقَل غير مرة ويضطرونها إلى المشي أمامه، حتى لو لم تكن ثمة أية شبهات ضدها هي. وأحيانا، يتم إحضار والده المسنّ إليه، ثم يقول له المحقق: أنظر إلى والدك كم يعاني، بإمكانك إنهاء هذه المعاناة بفتح فمك فقط. ليست وضعيات "الشبح" أو "الموزة" هي التي تكسر إرادة المحقَّق معه، وإنما قلقه وخوفه على والده وزوجته، سوية مع حرمانه من النوم لثلاث ليال. المحققون يعرفون جيدا أن الحرب بواسطة التعذيب الجسدي هي، في أحيان كثيرة، مجرد عرض تمويهيّ لأن الانكسار يحصل بسبب قلة النوم والتعذيب النفسي، الذي لا يترك أية آثار أو علامات ولا يظهر في التقارير الطبية".
كرسي الأطفال وراء الحائط!
يقدم فيلدمان عرضاً لأبرز أساليب التعذيب التي يمارسها "الشاباك" خلال التحقيقات، ومن بينها إجلاس المحقَّق معه على كرسي صغير (للأطفال) في "وضعية الموزة" وهو مقيّد اليدين والساقين لساعات طويلة. ويقول: "رأيت هذا الكرسي بأم عيني خلال النظر في أحد الملفات لدى القاضي شلومو إيزكسون، الذي كان قاضيا مدنيا ورئيس لجنة التسريحات في لواء المركز. في إحدى الجلسات، روى المتهم عن تعذيبه بواسطة الكرسي الصغير المائل إلى الأمام. لكن ممثل الادعاء نفى استخدام مثل هذا الكرسي لدى الشاباك وكذلك فعل محققو الشاباك مؤكدين: لدينا كراسٍ عادية، ليس لدينا أطفال ولا كراسي أطفال. لكنني، كنت أعرف، بالصدفة، أن مركزا للتحقيقات تابعا للشاباك موجود خلف حائط قاعة المحكمة، في رام الله على ما أذكر. فاقترحت على القاضي الذهاب إلى هناك ليرى بأم عينيه. خروج القضاة من قاعة المحكمة هو أمر جلل، عادة، لكن القاضي العسكري إيزكسون، الذي يضع الطاقية الدينية على رأسه قال: لمَ لا؟. وهذا ما لن أنساه له أبداً. خرجنا، القاضي والمدّعي وأنا، من القاعة وطرقنا الباب المحاذي. "مَن هناك؟"، جاء صوت عصبيّ. "القاضي إيزكسون"، قال القاضي فعمّ صمت مطبق خلف الحائط، ثم فُتح الباب ودخلنا إلى ما بدا أنه عالم مواز لم أسمع عنه حتى تلك اللحظة إلا من زبائني. في مركز التحقيقات، الشاباك هو الملك ولا يجوز لأي شخص، بمن فيهم رجال الشرطة و"سلطة السجون"، الدخول إلى هناك دون إذن من رجل الشاباك المسؤول. على مرأى من رجال الشاباك، الذين فغروا أفواههم مصدومين، قادنا المتهم حتى وصلنا إلى غرفة التحقيق، وفيها كرسي لأطفال في الخامسة من العمر، مائل نحو الأمام، كما وصف بالضبط. تحلقنا حول الكرسي كأنه أثر متحفيّ، وربما سيصبح كذلك في متحف الشاباك الذي سيقام مستقبلاً. أذكر أن القاضي إيزكسون جلس على الكرسي، أو ربما أهذي الآن. على أي حال، أنا جلست وشعرت بمدى المعاناة والآلام التي يمكن أن يسببها كرسي الأطفال لشخص بالغ يُجبر على الجلوس عليه لساعة واحدة، أو لبضع ساعات. هذا الكرسي هو وسيلة تعذيب أقسى بكثير من قلع الأظافر"!
في تلك الأيام ـ يقول فليدمان ـ لم يكن يجري توثيق تحقيقات الشاباك، بالصوت أو بالصورة، وإنما بـمذكّرة من بضعة أسطر تشير إلى "لقب" المحقق، اسم المحقّق معه، ساعة بدء التحقيق وساعة انتهائه. كما كان يشار، غالبا، إلى الشطيرة التي قدمها المحقق للمحقق معه. في مثل تلك "المذكرات"، كانت تظهر هنا وهناك، أيضا، كلمات مثل "استراحة" أو "راحة". لكن الزبائن كانوا يروون أنهم كانوا يتعرضون خلال تلك "الاستراحات" لأقسى الوسائل التعذيبية ـ الهزّ، الصفع، الضرب على الرأس وضرب الرأس بالحائط. ومع انتهاء التحقيق، بعد ثلاثين ساعة متواصلة، كان يتم إرسال المحقق معه إلى غرفته بينما على رأسه كيس نتن، مع حرمانه من النوم بواسطة تشغيل موسيقى صاخبة جدا. يشار إلى أن توثيق التحقيقات الخطي اليوم هو أكثر تفصيلاً بقليل، قد يصل إلى أربع صفحات أحياناً تلخص تحقيقا استمر 15 ساعة.
الجولة الأولى ـ تعذيب منظم بتعليمات دقيقة!
في العام 1999، قدمت "اللجنة العامة ضد التعذيب في إسرائيل" التماساً جريئا إلى "محكمة العدل العليا"، طالبت فيه بحظر جميع أنواع وأشكال التعذيب خلال التحقيق مع فلسطينيين مشتبه بهم بارتكاب "مخالفات أمنية". وقد تم توحيد هذا الالتماس مع عدد آخر من الالتماسات التي كانت تنتظر بالدور منذ سنوات. مثـّل الدولة في الرد على هذا الالتماس المحامي شاي نيتسان، ممثلا عن النيابة العامة التي يشغل الآن منصب رئيسها. "في طعونه أمام المحكمة"، يضيف فيلدمان، "تبين فجأة، أن الدولة لا تطرح للبحث السؤال: هل يستخدم "الشاباك" وسائل التعذيب أم لا؟ وإنما السؤال الأكثر ثقلاً وتحدياً: هل التعذيب ضروري للحرب ضد الإرهاب الذي لا قواعد له ولا حدود؟ وفي رأيي، إنها المرة الأولى في العالم التي تطلب فيها دولة تصريح التعذيب كنهج والادعاء بأن "ثمة حاجة عملانية إليه". لم يدعّ نيتسان بأن الشاباك لا يستخدم التعذيب، وإنما بذل كل ما في وسعه لإقناع المحكمة بأن في ظل "عدم وجود التعذيب ضمن صندوق الأدوات في عمل الشاباك، سنكون جميعاً فريسة للإرهاب المتصاعد في تلك السنوات، أواخر التسعينيات". مثل هذا الادعاء، طرحته الولايات المتحدة، أيضا، في أعقاب عملية تفجير البرجين التوأمين في نيويورك، في 11 أيلول/ سبتمبر 2001. وهناك، أيضا، لم يصمد هذا الادعاء، وخاصة على ضوء ما بينته الأبحاث من حقيقة أن التعذيب لا يقود إلى الإدلاء باعترافات حقيقية وموثوقة بالضرورة، بل إلى قول المحقق معه ما يتوقع منه المحقق قوله بغية التخلص من التعذيب الجسدي فقط.
"وهنا طرأ التحول في الحبكة. فقد حضّر لنا نيتسان مفاجأة: اتضح أن التعذيب ليس شأنا ارتجاليا يقرره المحققون، وإنما هو نهج منظم ومنصوص عليه بتعليمات وضعتها لجنة وزارية ترأسها القاضي موشي لاندوي وأن هذه التعليمات دقيقة جدا: أي "ضغط جسدي" هو المسموح، لكم من الوقت، في أية ظروف ومَن المخوّل بالمصادقة على استخدام وسائل خاصة. وكل هذا تحت عنوان سخيف هو "ضغط جسدي معتدل"، تحول فيما بعد إلى تعبير اصطلاحي دارج".
ويضيف فيلدمان: بعد الانتهاء من تقديم الطعونات، انتظرنا صدور قرار الحكم. أبلغونا بأنه سيصدر يوم 6/9/1999. وبالفعل، صدر القرار، بإجماع قضاة المحكمة كلهم، بأن "الشاباك غير مخول باستخدام التعذيب في غياب نص قانوني صريح وواضح يجيزه" وأنه "يجب التوقف عن استخدام هذه الوسائل من الآن فصاعداً". "وهكذا خرجت صورة النصر"، يقول فيلدمان، ثم يستدرك على الفور: "لكن الفرحة كانت سابقة لأوانها، إذ أمرت المحكمة لاحقا بإنشاء "وحدة مُراقب الشكاوى ضد محققي الشاباك". إنه إجراء مستهجَن، إذ لماذا هنالك حاجة لجهاز تصفية للشكاوى، خاصة وأن هذا الجهاز هو سدّ منيع لا يتيح لأية شكوى الانتقال إلى مرحلة التحقيق (مع محققي الشاباك)؟... جميع الشكاوى التي قُدمت ضد محققي الشاباك على خلفية التعذيب تم إغلاقها، كما أن الالتماسات الكثيرة التي تم تقديمها إلى محكمة العدل العليا ضد إغلاق هذه الملفات قوبلت بالرفض التام، فكان المحامون يخرجون من قاعة المحكمة أذلاء يمسحون الدموع عن أعينهم"!
الجولة الثانية ـ المحكمة العليا تلتف على قرار سابق لها!
في تموز 2012، قدمت "اللجنة العامة ضد التعذيب في إسرائيل" التماساً إلى المحكمة العليا للمطالبة بإصدار أمر إلى المستشار القانوني للحكومة بفتح تحقيق جنائي ضد محققي "الشاباك" الذين عذّبوا، خلال التحقيق، ناشط "حماس" أسعد أبو غوش. في مرحلة معينة من النظر في الموضوع، وفي أعقاب ملاحظة "وحدة مراقب الشكاوى ضد محققي الشاباك" بأنه "قد تم استخلاص الاستنتاجات المناسبة من هذا الحادث"، اعترفت الدولة بأن محققي الشاباك استخدموا "وسائل خاصة، لكن ليس التعذيب" خلال التحقيق مع أبو غوش. وفي جلسة المداولات التي عقدتها في تموز 2015، طلبت المحكمة من المستشار القانوني "توضيح وتعليل أسباب إغلاق ملف الشكوى التي قدمها أبو غوش". وكانت تلك المرة الأولى، بعد ألف شكوى سابقة، التي طلبت المحكمة فيها الاطلاع على قرار معلـَّل من المستشار القانوني بشأن إغلاق الشكوى ضد التعذيب. فقد اعتقدت المحكمة أيضا، على ما يبدو، أنه "لا يُعقل أن يكون مثل هذا العدد الكبير (ألف) من الشكاوى الكاذبة". وبناء على ذلك، قدم المستشار تعليلاته السرية إلى المحكمة وموجزا مقتضبا عنها قال فيه إن "استخدام أساليب التحقيق الاستثنائية في الحالة العينية قيد البحث تندرج تحت "مبدأ الحاجة"، أي أنها أساليب خاصة لم تسبب الألم مثل التعذيب".
في قرارها في قضية أسعد أبو غوش، يقول فيلدمان، "انتزعت المحكمة العليا لبّ القرار الذي صدر عنها في العام 1999، شوّهت ما ورد فيه وسوّغت التهرب من المسؤولية الذي يؤدي إلى نشوء منظمة ممأسسة للتعذيب"! ويضيف: "فلنمحُ ابتسامة النصر عن وجوهنا في تلك الصورة إياها، إذن. خمسة محامين سذّج يقفون ويبتسمون ابتسامة حمقاء، بينما يعود التعذيب إلى سابق عهده وتعود إلينا المنظومة البيروقراطية التي تحمي التعذيب بصورة أقوى، من خلال قرار الحكم الأخير الذي أصدرته المحكمة العليا". ولكن، من نص القرار إياه تطلّ الكلمات الأخيرة التي سجلتها مريم ناؤور، كقاضية وكرئيسة للمحكمة العليا: "في منظومتنا القضائية، ثمة حظر مطلق على استخدام التعذيب. لا استثناءات لهذا الحظر ولا موازنات. إنه تصريح واضح وقاطع يعني: التعذيب في إسرائيل هو خارج اللعبة القضائية"!