إذا كان الصرف الإجمالي على آلة الحرب الإسرائيلية، بما فيها كلفة الاحتلال والاستيطان ومختلف الأجهزة "الأمنية"، أشبه بمتاهة لا حصر دقيق لها ويبقى أقل مما ينشر للجمهور، فإن حجم هذا الصرف ليس وحده "سريا"، بل هناك أيضا الصرف الكلي على كل ما يتعلق بالشؤون الدينية اليهودية، بما في ذلك كلفة الاقتصاد، وسيبقى أبعد من تحديده بشكل دقيق، برغم أن التقديرات تقول إن الميزانيات المباشرة والتسهيلات الضريبية تصل إلى ما يعادل 3ر2 مليار دولار سنويا.
ونشرت المجلة الشهرية لصحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية اليومية مؤخرا تحقيقا حول هذا الملف بالتعاون مع جمعية "يسرائيل حوفشيت" (إسرائيل حرة)، التي تعنى بالحريات الدينية.
ويأتي التحقيق في محاولة للوصول إلى أقرب ما يمكن للصرف الكلي على الدين اليهودي، من ميزانيات مباشرة، وتسهيلات ضريبية، وكلفة للاقتصاد بشكل عام. وهذا البند الأخير سيكون من الصعب حصره، فمثلا انخراط عشرات آلاف الرجال "الحريديم" في المعاهد الدينية طيلة حياتهم، وامتناعهم عن الانخراط في العمل، والعيش على المخصصات الاجتماعية، هذا بحد ذاته مكلف للاقتصاد، من حيث عدم الانتاجية، وتكوين عشرات آلاف الأسر التي تعيش بفقر إرادي. ويضاف الى هذا، شبه شل الحركة العامة والحركة التجارية والمواصلات العامة في أيام السبت، الذي يكلف الاقتصاد الاسرائيلي ويساهم في تقليص وتيرة نموه سنويا، بموجب أبحاث سابقة.
ما دفع إلى هذا التحقيق، بحسب معديه، هو الاتفاقيات المتعلقة بالقطاع الديني، التي أبرمت بين الكتل التي تشكل الحكومة الحالية، وخاصة الدينية منها، إذ أن "الابتزاز" حسب تعبير التحقيق، كان تقريبا في جميع الوزارات، وبكل الطرق، لأن كل واحد من البنود في ميزانيات كهذه، سيصب في نهاية المطاف لدى الجمهور الديني، وبالتالي الأحزاب التي تمثله.
ومن أجل الوصول إلى ما هو أقرب إلى الحقيقة، فقد تم فحص كل واحدة من الجمعيات ذات الطابع الديني التي تتقاضى دعما، أحيانا يكون من أكثر من جهة حكومية؛ إلى جانب التدقيق في الميزانيات المباشرة التي تتلقاها المؤسسات الدينية الرسمية، والمدارس الدينية الخاصة للتيارات الدينية. وحسب التقديرات، فإن حجم هذه الميزانيات إلى جانب التسهيلات الضريبية، تصل إلى 7ر8 مليار شيكل، وهو ما يعادل 3ر2 مليار دولار سنويا.
ويقول مدير عام جمعية "يسرائيل حوفشيت"، ميكي غيتسين: لقد سعينا لمعرفة الصرف الكلي على الشؤون الدينية وما يتبع لهذا الصرف، ووضعه في خانة واحدة، كي يكون بقدرة المواطن معرفة حجم الصرف بالشفافية الموجودة في جوانب الصرف الأخرى في الموازنة العامة.
ويقول التقرير إن حجم الصرف السنوي على الشؤون الدينية من كل جوانبها ليس ثابتا، فهناك ميزانيات شبه ثابتة وترتفع مع ارتفاع حجم الميزانية العام، والقصد تلك التي تصرف على المؤسسات الدينية الرسمية، مثل الحاخامية العليا، أو المجالس الدينية المنتشرة في جميع المدن والبلدات الكبيرة؛ بينما الصرف على الجمعيات التي تعمل في الشؤون الدينية هو الأكثر تقلبا، وهذا كما يبدو مرتبط أكثر بشكل الائتلاف الحاكم، وموقع الأحزاب الدينية منه.
كما يتضح أن الصرف على هذه الجمعيات يأتي من عدة وزارات، وأحيانا يكون من الصعب حصر ما تحصل عليه الجمعية الواحدة. ويقول غيتسين إنه من المستهجن أن الحكومة تموّل جمعيات تختص بالعمل بين الجمهور العلماني لحثه على الاقبال على الدين والتدين، إن كان هذا من خلال جمعيات ومراكز دينية تعمل في جذب الجمهور للتدين، أو من خلال فرض حاخامين على الجمهور العلماني ليفرضوا عليه املاءاتهم الدينية، وغالبا فإن القصد هنا متعلق بعملية عقود الزواج.
والصرف الأكبر، حسب استعراض التحقيق، هو على المعاهد الدينية، وحملات التدين، وأيضا المجالس الدينية الرسمية في المدن والبلدات الكبرى، وعلى المؤسسات التي تفرض الحلال اليهودي.
وفي ما يلي عرض لبعض جوانب الصرف المركزي.
المعاهد الدينية
حسب مسح التقرير، فإن مجموع ما حصلت عليه المعاهد الدينية اليهودية، ومراكز أخرى تقود حملات للتدين، بلغ في العام الماضي 2015، مليار شيكل، وهو ما يعادل 260 مليون دولار، وهذا يشمل التيارين الدينيين الأكبرين: الديني المتزمت (الحريديم) والديني الصهيوني. والقسم الأكبر من هذه المعاهد، تسمى معاهد لتعليم التوراة، والطلبة عادة هم ممن تجاوزوا المرحلة المدرسية، وأيضا المتقدمون في العمر، وهؤلاء يحصلون على مخصصات اجتماعية خاصة بهم لضمان الدخل، من الموازنة العامة، وتقدر الميزانية التي يحصلون عليها سنويا حوالي 27 مليون دولار.
وهذا الصرف لا يشمل شبكات التعليم الخاصة، التابعة للتيارات الدينية المختلفة، فمثلا شبكة التعليم التابعة لحركة "شاس" لليهود المتدينين المتزمتين، حصلت في العام الماضي على 519 مليون شيكل، وهو ما يعادل 136 مليون دولار.
ويدور منذ سنوات طويلة، جدل حول ميزانيات شبكات تعليم "الحريديم"، التي تدفع لهم بشكل استثنائي، لأنها لا تلتزم بالمنهاج التعليمي الرسمي، ولا تدرّس مواضيع أساسية، مثل الرياضيات والعلوم، وتصل نسبة التمويل للمدارس إلى ما يقارب 100%. وهي تُعد قانونيا "مدارس معترفا بها ولكها ليست رسمية".
وللمقارنة، فهذا التعريف القانوني "مدارس معترف بها ولكنها ليست رسمية" يسري أيضا على 43 مدرسة في المجتمع العربي تابعة لكنائس، وغالبيتها قائمة منذ ما قبل النكبة. ورغم أنها مدارس لا تّعد دينية من حيث المنهاج الدراسي وتلتزم بالمنهاج الرسمي، إلا أن تمويلها الفعلي لا يتعدى 50%، وهي تواجه أزمة اقتصادية خانقة في السنوات الأخيرة.
كذلك من بين الأطر التي تحصل على ميزانيات من وزارة التعليم، جمعيات تعمل على نشر "الثقافة الدينية اليهودية"، وبلغت ميزانيات الدعم التي حصلت عليها في العام الماضي ما يعادل 37 مليون دولار.
المجالس الدينية
الصرف الكلي على المجالس الدينية بقي غير دقيق، فالمجالس الدينية تقام في كافة المدن، والبلدات الكبيرة، وتقدم خدمات دينية لطالبيها، مثل عقود الزواج والاشراف على تطبيق الشريعة في مختلف المجالات وغيرها. وصعوبة حصر الميزانية الكلية نابعة من أن موارد التمويل من ثلاث جهات، الحكومة والمجالس البلدية والقروية، وأيضا الرسوم التي يدفعها متلقو الخدمات؛ ولكن مما ورد، فإن الحكومة تدفع تمويلا مباشرا للمجالس الدينية في مختلف المدن والبلدات الكبرى، 295 مليون شيكل، وهو ما يقارب 77 مليون دولار. في حين تبلغ مساهمات البلديات في المجالس الدينية حوالي 450 مليون شيكل، وهو ما يعادل 118 مليون دولار.
ويعمل في المجالس الدينية، ما يقارب 2250 موظفا. ويصل معدل الراتب غير الصافي للموظف الواحد إلى 2700 دولار، ولكن هناك مسؤولون كبار في مجالس دينية لمدن كبرى، يصل راتبهم الشهري غير الصافي إلى حوالي 7 آلاف دولار.
كذلك يعمل 105 حاخامين مسؤولين عن مدن أو تجمع بلدات، ويتراوح الراتب غير الصافي لكل واحد منهم من 5 آلاف وحتى 9 آلاف دولار، وحسب تقارير عديدة تظهر تباعا، فإن هؤلاء يحصلون على مداخيل غير مصرّح بها من الجمهور الذي يتلقى خدماتهم، مثل حاخام يجري طقس الزواج، إذ يحصل على مبلغ مباشر من أهل العرس، وهذا المبلغ يرتفع بحسب رتبة ومكانة الحاخام. ونذكر هنا على سبيل المثال، الحاخام الأكبر الأسبق لليهود الأشكناز يونا ميتسغر، الذي وجهت له تهم فساد مالي بملايين الدولارات، من رشاوى واخفاء مبالغ طائلة عن سلطات الضرائب.
الصرف على الطعام الحلال
وفي ما يتعلق بالصرف على الحلال، يشير التقرير إلى البحث الذي صدر قبل نحو ثلاثة أشهر، واستعرضناه موسعا في عدد سابق من "المشهد الإسرائيلي"، ومما جاء فيه أن مداخيل الحاخامية العليا، وحدها، من اصدار شهادات الحلال بالمعدل السنوي، للسنوات الأخيرة 8ر2 مليار شيكل، وهو ما يعادل 730 ملايين دولار، بمعنى أن هذا لا يشمل مداخيل مؤسسة "الحريديم"، كما سنرى أن هذا ليس الصرف الاجمالي على ضمان "الحلال اليهودي".
ويظهر من البحث، أن 2ر1 مليار شيكل من أصل هذا المبلغ (310 ملايين دولار) هي كلفة مسالخ الطيور، و439 مليون شيكل (115 ملايين دولار) من مسالخ المواشي، و322 مليون شيكل (85 مليون دولار) من استيراد الأبقار، و209 ملايين شيكل (55 مليون دولار) من قطاع الفنادق، و116 مليون شيكل من المطاعم، وقرابة 90 مليون شيكل من مرافق متعددة.
وكانت سلسلة من الأبحاث على مر السنين قد أكدت أن شروط إصدار شهادات الحلال، وما يتبعها من صرف المرافق الاقتصادية على مختلف مستوياتها بعد إصدار هذه الشهادات، يرفع أسعار المواد الغذائية بما بين 22% إلى 30% وأعلاها اللحوم، فحتى اللحوم غير الخاضعة للحلال اليهودي يتأثر سعرها من سعر اللحوم العام. كما أن تكاليف الحلال لا تقتصر بطبيعة الحال على الأغذية المستوردة، فإن كانت الكلفة ترفع أسعار اللحوم المجمّدة المستوردة بنسبة تصل إلى 30%، فإنها ترفع أسعار اللحوم الطازجة في إسرائيل بما بين 15% إلى 20%.
ويقول مستوردون للحوم إن استيراد اللحوم من أميركا اللاتينية، يستوجب إرسال ما بين 10 إلى 14 رجل دين يهوديا إلى كل مسلخ سيتم الاستيراد منه، وكلفة كل رجل دين كهذا، تتراوح ما بين 6 آلاف إلى 7 آلاف دولار شهريا، إضافة إلى تكاليف أخرى، ما يعني كلفة شهرية تصل إلى 100 ألف دولار، من أجل استيراد 500 طن من اللحوم المجمّدة.
تسهيلات ضريبية
ويقول التقرير إن سلطة الضرائب لا تفرض أنظمتها ولا تجبي ضرائب من العاملين في الديانة اليهودية. وحسب تقرير سابق لمراقب الدولة، فإن الكثير من الحاخامين والرابانيم والكوهانيم (تسميات لمراتب متعددة في الحاخامية اليهودية)، لا يقدمون تقارير حول مداخيلهم الحقيقية من الخدمات التي يقدمونها لليهود. وأكثر من هذا، فمراقب الدولة كان كشف في تقريره السنوي للعام 2014، أن سلطة الضرائب قبلت بـ 20 مليون شيكل فقط (26ر5 مليون دولار) عن مدخول بـ 666 مليون شيكل (175 مليون دولار) لأحد الحاخامين على مر سنوا، تهّرب فيها من دفع الضرائب، وأبرمت معه سلطة الضرائب صفقة.
كذلك يقول التقرير إن السلطات لا تفرض ضرائب على العاملين في قطاع تطبيق الحلال وفق الشريعة اليهودية، إضافة إلى أن كل الجمعيات التي تعمل في قطاع الخدمات الدينية لا تجبي ضرائب، وحسب التقدير فإن هذا خسارة لخزينة الضرائب بنحو 410 ملايين شيكل، وهو ما يعادل 108 ملايين دولار سنويا.
جميع الوزارات والمؤسسات
ويعدد التقرير مجالات صرف مختلفة على قطاع الدين اليهودي من خلال جميع الوزارات، عدا عن بنود إضافية دخلت إلى الموازنة العامة في هذا العام، مثل تخصيص 8 ملايين دولار لإقامة مؤسسات دينية، عدا ما هو مقرر من قبل، وتخصيص 5 ملايين دولار لإقامة ضريح لأحد الحاخامين وتمويل زيارة سنوية له، إضافة إلى 250 ألف دولار لإحياء ذكرى حاخامين سابقين.
ومن البنود اللافتة تخصيص ميزانية 670 ألف دولار سنويا للاستشارة في مجال زيادة الخصوبة (النسل) بحسب الشريعة، من خلال معهد "الخصوبة والطب بموجب الشريعة اليهودية".
ومن أبرز الجمعيات الدينية التي تتلقى ميزانية حكومية، جمعية متخصصة بتعميق الهوية الدينية اليهودية بين طلاب الجامعات، وتقاضت الجمعية في كل عام 5ر1 مليون دولار. كما أن جمعية أخرى تهتم بنقل كتب توراة قديمة من العالم إلى إسرائيل تلقت هذا العام حوالي 130 ألف دولار.
وتتلقى الوكالة اليهودية (الصهيونية) سنويا ملايين الدولارات، من أجل تحويلها إلى أطر دينية مختلفة، مثل 85ر6 مليون دولار سنويا من أجل تحويلها لمعهد تأهيل حاخامين ورابانيم مؤهلين للتهويد، و300 ألف دولار من أجل تعميق الهوية الدينية اليهودية لدى الجنود المسّرحين، أي الذين أنهوا خدمتهم الإلزامية.