المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
مقاتلو حماس يسلمون الأسرى الإسرائيليين للصليب الأحمر في دير البلح، وسط غزة، في 8 شباط 2025. (أ.ف.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 133
  • ماهر داوود

خرجت الدفعة الخامسة من صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس إلى حيّز التنفيذ السبت الماضي، وجرى ذلك في إطار المرحلة الأولى من هذه الصفقة، وبحسب معطيات هيئة شؤون الأسرى والمحررين فقد أفرجت حركة حماس عن ثلاثة أسرى محتجزين لديها مقابل مئة وثلاثة وثمانين من الأسرى الفلسطينيين.

يمكن النظر إلى هذه الدفعة من الصفقة كما لو أنها معركة لكسر الإرادة، وحرباً إعلامية لا تقل ضراوة عن تلك التي دارت في الدفعات الأربع السابقة، ولعلها حرب على الوعي أدواتها الصور الثابتة، والمقاطع المصورة التي تحبس الأنفاس، والتي يراد لها أن تُخلّد في ذاكرة الجمهور من الطرفين، من دلالات الترتيب والتنظيم الآخذة في الدقة والحرفية دفعةً بعد دفعة، وصولاً إلى المنصة والشعارات وأدوات الحكم والسلطة من وثائق وأسلحة وتغطية إعلامية وعمليات تسليم وتواقيع، تعيد إلى الأذهان ذلك السؤال الذي تكرر عن اليوم التالي لوقف إطلاق النار.

تعمل هذه المقالة على الإجابة عن عدد من التساؤلات، ومنها: ما المكانة الدينية لحياة الإنسان في الثقافة اليهودية؟ لماذا تبلورت صفقة التبادل بالتدريج ولم تتم دفعةً واحدة؟ أين تلتقي صفقة تبادل الأسرى مع صورة الانتصار التي تحرص إسرائيل على تكريسها؟ وكيف يسوّق الإعلام الإسرائيلي هذه الصفقة بعد شهور من تأخير إنجازها؟

"ومن أحيا نفسًا يهودية فكأنما أحيا الناس جميعاً..."

تنظر العقيدة اليهودية باهتمام كبير إلى حياة الإنسان اليهودي، واستناداً إلى مضمون هذه العقيدة الدينية (الجزء الرابع في المِشناه – سنهدرين) من أحكام النفس البشرية: من يقتل نفساً يهودية واحدة فكأنما قتل عالماً كاملاً، ومن أحياها وأنقذها جسدياً أو نفسياً أو روحانياً فكأنما أنقذ العالم بأسره. ومن هنا، كانت عائلات الرهائن – الأسرى، في غزة، تتوجه إلى أعضاء الجناح المتدين – المحافظ في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي؛ وذلك في محاولة لإيقاظ الدوافع الدينية التي تنص على تبادل الأسرى وفداء أرواحهم، و"إعادة الأبناء" إلى أحضان عائلاتهم، مهما يكلّف الأمر. لكن بات واضحاً أن سلامة الائتلاف لا تقل أهمية عن حياة الرهائن – الأسرى. وبحسب البند السادس في قانون القومية الأساس الإسرائيلي (بند 6أ) تعمل دولة إسرائيل على إنقاذ مواطنيها من الخطر ومن الأسر الذي قد يحصل بسبب كونهم يهوداً أو إسرائيليين، وبحسب المعهد الإسرائيلي للديمقراطية يشدد القانون على أن فداء الأسرى هو قيمة عليا في الوعي الإسرائيلي، وأن البند السابق يبين التزام الدولة الأخلاقي تجاه سلامة مواطنيها.

روح الائتلاف الحاكم أم أرواح الرهائن؟

ينطوي الائتلاف الحاكم في إسرائيل على تناقضات بعضها حادّ في ما يخص خطابه الديني - النظري وتوجهاته الفكرية واستعداد أعضاء الائتلاف لترجمة ذاك الخطاب، وتلك التوجهات الدينية، إلى سياسات عملية على الأرض وقت الضرورة، ولنأخذ صفقة التبادل نموذجاً. تتألف الحكومة الحالية من عدد من الأحزاب الدينية هي شاس ويهدوت هتوراة وحزب نوعام، إضافة إلى حزبيّ اليمين الاستيطاني القومي من ذوي الجذور الدينية الصهيونية مثل حزب "قوة يهودية" برئاسة إيتمار بن غفير، و"الصهيونية الدينية" بزعامة بتسلئيل سموتريتش، وإن جمهور هذه الأحزاب، في مجمله، لا يتبنى الخدمة العسكرية الإلزامية؛ لا سيما يهدوت هتوراة وشاس، وذلك لأسباب دينية تتمثل في التفرغ لتعلم التوراة، إذ يصرح اليهود المدعوون إلى الخدمة الإلزامية رجالاً كانوا أم نساءً بأنهم ملتزمون دينياً ويقيمون الشعائر اليهودية ويتعلمون في المعاهد الدينية، وبذلك التصريح يُعفى المتدين (الحريدي) من الخدمة العسكرية، إذا أثبت التزامه الديني.

تحصل هذه الأحزاب المشاركة في الائتلاف على موازنات ضخمة للمعاهد الدينية والتعليم الديني المنفصل عن برنامج التعليم الرسمي المطبّق على بقية مواطني الدولة، إضافة إلى وظائف ترضية جاءت بناء على اتفاقات ائتلافية أدت إلى تشكيل الحكومة، مثل استحداث وزارتي التراث والهوية اليهودية. وبالتالي، هناك احتمال كبير بأن تسقط الحكومة إذا ما فُرض التجنيد الإجباري أو إذا أُبرمت صفقة تبادل والنتيجة، هناك أرواح يجب إنقاذها... ولكن هناك أيضاً ائتلاف حكومي معرض للتفكك، فلا غرابة أن تتم إزاحة التعاليم الدينية التي تقدس أرواح الرهائن جانباً؛ لصالح تماسك الحكومة، وقد تشترك في هذه المغامرة أقطاب متدينة حريدية وقومية - استيطانية من الائتلاف الحاكم على حدٍ سواء.

وقد عبّرت القاعدة الانتخابية الحريدية عن موقفها بتظاهرات في الشارع شدّدت على أن تجنيد الحريديم المتدينين يؤدي بالضرورة إلى تفكيك الائتلاف (نموت ولا نتجند)، ووقف الحرب على غزة بشكل نهائي يهدد أيضاً بانسحاب الصهيونية الدينية من الحكومة بعد انسحاب بن غفير، وهذا يقود إلى تفكيك الحكومة وفتح الطريق إلى المحكمة التي تلاحق نتنياهو في قضايا فساد، علاوة على محكمة الجنايات الدولية التي أصدرت مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه الأسبق يوآف غالانت. وبحسب هذه الرواية أحبطت حكومة نتنياهو المؤلفة من أحزاب دينية توراتية وقومية صفقة التبادل في السابق؛ لأن حياة الحكومة في اختبار الواقع والنتيجة تفوقت في الأهمية على حياة الرهائن المحتجزين في غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

صفقة تدريجية أطول تعني ائتلافاً أطول عُمراً

 

لقد أُبرِم الاتفاق لكي ينفذ على مراحل، وتم ربط تبادل الأسرى بقضية اليوم التالي لانتهاء الحرب، وربط هذين العنصرين بوقف اطلاق النار وإدخال المساعدات وإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي خارج غزة وفي بعض أرجاء محور فيلادلفيا ونتساريم ومعبر رفح، وللمزيد من الفجوات والمخاطر تم ربط ذلك بسؤال من يحكم غزة ومن يسيطر على المعابر؟ فعملت حماس على الإجابة عن السؤالين الأخيرين بتظاهرة حضور وقوة مسلحة في ميدان فلسطين صبيحة تنفيذ عملية التبادل، وكأنها تقول: هكذا يبدو اليوم التالي للحرب! تماماً كما كان قبلها. ولعل الاتفاق مليء بالفجوات، وإمكانيات الإخلال به كبيرة، وهذه ليست صدفة، ولا هي خطأ فني ناجم عن قلة خبرة؛ إن أية عملية اطلاق نار، أو تأخر في تسليم القوائم، أو الاختلاف على اسم رهينة بشكل فجائي، أو مظاهر احتفالية مسلحة – وإعلامية لكتائب القسام حين تسليم الرهائن قد تؤدي إلى تفجير الاتفاق أو تأخير مراحله اللاحقة. وهذه تعني إطالة أمد الحرب، والمكوث فترة أطول بين مرحلة وأُخرى، بمعنى آخر، كسب الوقت والمحافظة على الائتلاف الحاكم، وإزاحة كل الخلافات الإسرائيلية الداخلية جانباً (الإصلاحات القضائية، وملفات فساد نتنياهو، ومشاركة المتدينين بالعبء العسكري، وتسييس الشرطة وتقييد الإعلام والتدخل في عمل القضاء)، إزاحة هذه القضايا جانباً وذلك (استجابةً) للخطر الأمني الخارجي الذي يواجه الأمة!

رضوخ في أوج "الانتصار"

استغل نتنياهو كل المنصات الممكنة من أجل تحديد أهداف الحرب، وهي تدمير حماس، ومنع تشكل الظروف التي تؤدي إلى تكرار السابع من أكتوبر مرة أخرى انطلاقاً من غزة، وإعادة الرهائن من غزة، وأهمها وليس أقلها الانتصار المطلق الحاسم، الذي من شأنه أن يفتح الباب أمام تعدد التفسيرات وفوضى المعايير: هل هو انتصار على حماس؟ انتصار على المعارضة؟ انتصار على الإعلام (اليساري) والمستشارة القانونية؟ ويسلط تصريح الوزير عميحاي إلياهو، وزير التراث السابق من حزب "قوة يهودية"، الضوء على أولويات الائتلاف بقوله لا يوجد ما هو أهم الآن للائتلاف ولرئيس الحكومة نتنياهو من عزل المستشارة القانونية، لأن المشكلة القضائية تضر بأمن إسرائيل.

استجاب نتنياهو للضغوط التي مارستها عائلات الأسرى الرهائن لدى حماس في غزة، وتلقى رسالة حاسمة من مبعوث الرئيس ترامب بضرورة عقد صفقة تبادل، والبدء بتنفيذها قبل مراسم دخول ترامب للبيت الأبيض لفترته الرئاسية، وهكذا كان، وعليه فقد بدأت على أرض الواقع بشائر انفراجة في ملف الحرب، شملت بداية المرحلة الأولى من صفقة التبادل، ووقف إطلاق النار، والبدء بإدخال المساعدات إلى مناطق متفرقة من قطاع غزة، وعودة الفلسطينيين إلى بيوتهم في شمال قطاع غزة وجنوبه وكافة أرجائه تقريباً.

لقد حصل كل ذلك بدون تحقيق واضح وحاسم لأي هدف من أهداف الحرب التي حددها وكررها نتنياهو من على كل منصة ممكنة، لم يعد كل الرهائن بالقوة العسكرية، وظهر عناصر حماس بكامل سلاحهم وحضورهم في الساعة التي تلت وقف إطلاق النار في ضربة واضحة لسيناريو اليوم التالي للحرب، أو ما يسمى "ما بعد حماس"، ولم تتوقف القذائف والصواريخ من الانطلاق من مناطق شمال قطاع غزة في ظل وجود الجيش الإسرائيلي فيه حتى ساعات من قبيل وقف إطلاق النار.

احتفلت وسائل الإعلام الإسرائيلية المكتوبة والمسموعة والمرئية، بعودة المزيد من المخطوفين الإسرائيليين إلى أحضان عائلاتهم، وذلك في مقابل الإفراج عن مئات الأسرى والأسيرات الفلسطينيين والفلسطينيات. وأبدى المراسلون والمتحدثون والمعلقون في وسائل الإعلام الإسرائيلية مشاعر الفخر والكبرياء تجاه جهود الجيش الإسرائيلي، الذي ضحى جنوده بحياتهم من أجل إبرام الصفقة. وهنا يلاحظ المراقب ارتباك الرواية وتناقض المشهد. كيف ذلك؟ لقد عرض المتحدث باسم كتائب القسام أبو عبيدة في الأسابيع الأولى للحرب إمكانية عقد صفقة تبادل واسعة لمرة واحدة، وإنهاء الحرب، مبيناً أن المماطلة ستكون لها تبعات، ورفضت إسرائيل ذلك وذهبت في اتجاه تدمير حماس وإعادة الرهائن بالقوة ومنع تكرار سيناريو السابع من أكتوبر.

وماذا حصل على أرض الواقع؟ أرسلت حكومة إسرائيل المزيد من الفرق العسكرية إلى قطاع غزة، وسقط الآلاف من الشهداء والقتلى والجرحى في الجانبين، ووقعت صفقة التبادل باتفاق مفصل وضمانات دولية وعلى مراحل، بمعنى آخر لم تتم الصفقة بفضل الضغط العسكري، وإنما بفضل المفاوضات والوسطاء، وهو ما كان يجب أن يحصل منذ مطلع الحرب.

لقد ربح نتنياهو المزيد من الوقت، وأبعد عن نفسه شبح التفرغ للمحكمة الدولية والمحكمة الإسرائيلية، واستراح مؤقتاً من قضايا الفساد التي تنتظره، ثم حافظ على الائتلاف الحكومي لأطول فترة ممكنة، واستثمر في سبيل ذلك الكثير من الأرواح والدماء والموارد، والقيم الوطنية والدينية التي تنص على ضرورة إنقاذ حياة النفس اليهودية بأي ثمن ممكن. والخلاصة: رضوخ مرّ على الفم ونكهة انتصار متخيّل اعترفت به قوى اليمين واليسار على حدٍ سواء، وعيون شاخصة لقاء دفعة التبادل القادمة نهار السبت، وكأن مفاهيم الردع والحسم والانتصار أُفرغت (إسرائيلياً) من معناها لتعاد عملية إنتاج دلالتها من جديد.

مصادر:

  • هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 8-2-2025.
  • البند الرابع من (المشناة) (د) "سنهدرين".
  • الأبعاد القانونية لصفقة تحرير الرهائن مقابل إطلاق سراح الأسرى. المعهد الإسرائيلي للديمقراطية. 14-1-2025.
  • اليهود الحريديم يتظاهرون ويرددون: نموت ولا نتجند. موقع قناة الجزيرة، 25-12-2024.
  • لا يوجد ما هو أكثر أهمية للائتلاف ولنتنياهو من عزل المستشارة القانونية، موقع واينت 26-12-2024.
المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, بتسلئيل

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات