مع دخول الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها السابع، وفي أعقاب إعادة انتشار الجيش والإعلان غير الواضح عن انتهاء العملية العسكرية الكبيرة في خانيونس، تزايدت الأصوات الإسرائيلية المتأثرة بأجواء الإحباط من تعثّر الجيش في تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى: القضاء على حركة حماس، استعادة الأسرى والمحتجزين من قطاع غزة. إن حالة الإحباط هذه تتأتّى في أعقاب التوقّعات العالية بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي التي أنتجها خطاب المؤسستين الأمنية والعسكرية حول قيمة العملية في خانيونس وادّعاء تمركز قوة وقيادة حركة حماس وجناحها العسكري، الأمر الذي جعل العملية بمثابة "محطّة حسم" على طريق تحقيق "النصر المطلق" الذي يتحدّث عنه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو والنخبتان الأمنية والعسكرية.
وأمام حقيقة أن الأهداف الإسرائيلية المُعلنة لم تُنجز لا في العملية العسكرية في غزة وشمالها، وكذلك في خانيونس، ومع الأخذ بعين الاعتبار المدّة الزمنية للحرب، والأعباء المترتبة عليها: بشرية؛ عسكرية؛ سياسية؛ اقتصادية؛ اجتماعية ودولية، ذهبت القيادة الإسرائيلية السياسية والعسكرية باتجاه إعادة إنتاج "محطّة حاسمة" جديدة (العملية العسكرية في رفح)، لتكون بذلك إسرائيل أمام مفترق طرق يؤدّي إلى مسارين؛ الأول: أن تُفضي المفاوضات الدائرة التي وصفت إسرائيلياً بـ "مفاوضات الفرصة الأخيرة" إلى اتفاق (وإن كان بشكل جزئي) تترتب عليه تهدئة مؤقتة مقابل إعادة بعض الأسرى. الثاني: فشل التوصل إلى اتفاق وهو ما سيدفع باتجاه شنّ عملية عسكرية واسعة النطاق في رفح على غرار تلك التي نفّذتها في خانيونس وشمال قطاع غزة.
على المستوى الإسرائيلي الداخلي، تُلقي تفاعلات المشهد الإسرائيلي، وتحديداً مسألتي حركة الاحتجاج الداخلية المطالبة بتغيير الحكومة واستعادة الأسرى الإسرائيليين، وملف النازحين والأعباء الاقتصادية والاجتماعية والنفسية المترتّبة عليه، في ظل إصرار إسرائيل على عودتهم قبيل العام الدراسي الجديد (أيلول المقبل) بظلالها على المشهد الإسرائيلي والخيارات في المديين المنظور والمتوسّط، وتُثير تساؤلاً حول وجهة إسرائيل على الجبهة الشمالية في مواجهة حزب الله: من جهة، هناك خشية من أن تؤدّي عملية رفح الوشيكة إلى مواجهة مفتوحة مع حزب الله، وفي ذلك، تدرك إسرائيل أن المواجهة مع الحزب ستكبّدها خسائر باهظة وربما غير مسبوقة على الرغم من تفوقها في الإمكانيات والقدرات العسكرية، وكذلك استمرار تعثّر الجيش في تحقيق أهداف الحرب في القطاع مقابل حركتي حماس والجهاد طيلة هذه المدة يثير شكوكاً حول قدرته على تحقيق "إنجازات" مقابل حزب الله، وسط تصاعد الحديث عن أن الجيش مُنهك جسدياً ونفسياً ويحتاج فترة إعادة تأهيل وربّما تغييراً في قيادته. من جهة ثانية، لم تنجح حتى الآن كل المحاولات الإسرائيلية في خلق شرعية دولية وإقليمية لشنّ حرب على لبنان (بذريعة إبعاد قوات حزب الله عن الحدود). من جهة ثالثة، لم تنجح الجهود الإسرائيلية ولا الدولية (الأميركية والفرنسية على وجه التحديد) في فصل الجبهة الشمالية عن حرب الإبادة في قطاع غزة، وهو ما يعني قبول إسرائيل بالمعادلة الجديدة وحرب الاستنزاف التي فرضها الحزب، وما يترتّب على ذلك المزيد من الخسائر والأعباء العسكرية، السياسية، المادية والاجتماعية الداخلية، وكذلك في حسابات معادلة الاشتباك والردع.
على الصعيد الدولي، ليس من المبالغة القول أن هناك تآكل غير مسبوق في شرعية إسرائيل وحربها الإبادية على القطاع، وقد يكون الضرر الذي أصاب إسرائيل منذ بداية هذه الحرب غير قابل للإصلاح، أو سيحتاج لوقتٍ طويل. من جهة، تزداد المخاوف الإسرائيلية من سيناريو إصدار مذكّرات قضائية بحقّ القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيليتين من قِبَل محكمة العدل الدولية، وتعمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة لتجنّب مثل هذا السيناريو. من جهة أخرى، تزداد الاحتجاجات الدولية المناهضة لإسرائيل والمطالبة بوقف حرب الإبادة في قطاع غزة، وبدأت تأخذ طابعاً أكثر تأثيراً وتنظيماً وتحديداً في صفوف الطلبة والأكاديميين في الجامعات الأميركية والأوروبية ومرشّحة لمزيد من التصعيد على الرغم من كل عمليات القمع التي يتعرّضون لها، وهو الأمر الذي ولّد ردّة فعل إسرائيلية رسمية غاضبة وقلقة دعت إلى قمع هذه الحراكات واتهمتها بـ "معاداة السامية".
وأمام المشهد المعقّد إسرائيلياً على المستويات والصعد المُشار إليها، وفي ضوء التهديدات والتحرّكات الإسرائيلية الجادّة باتجاه تنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق في رفح التي يقطنها أكثر من مليون نازح من المدنيين، وفي ضوء المخاطر المترتّبة على مثل هذه العملية على المدنيين والمجازر التي ستضاف إلى السجل الطويل من المجازر وعمليات الإبادة والتدمير منذ السابع من أكتوبر، تبرز العديد من المعيقات التي تربك الحسابات الإسرائيلية وتقلّص من هامش المناورة في هذا الملف يُمكن تلخيصها على النحو التالي:
- العلاقة مع الإدارة الأميركية: ما يزال الموقف الأميركي رافضاً (في العلن على الأقل) لمثل هذه العملية. في حال أقدمت إسرائيل على شنّ الهجوم بدون تنسيق معها فقد يؤدّي ذلك إلى زيادة توتير العلاقات مع حليفتها إلى الحدّ الذي قد تعيد فيه الأخيرة النظر في الدعم العسكري السخي.
- المعضلة المصرية: تبدو الحسابات الإسرائيلية غير منطقية في هذه الجزئية، ومتناقضة نوعاً ما. من جهة، تؤكّد إسرائيل أنها ستعمل بالتنسيق مع مصر خلال شنّ الهجوم، في ظل مخاوف الأخيرة من تأثير هذه العملية أو تبعاتها على الأمن القومي المصري. من جهة أخرى، ليس من الواضح أن هناك ضمانات حقيقية على الأرض بأن لا تؤدّي العملية إلى نزوج جماعي باتجاه الأراضي المصرية، أو ألّا يقود المخطط الإسرائيلي بالسيطرة على محور فيلادلفي الحدودي إلى زعزعة العلاقة مع مصر والمسّ باتفاقية كامب ديفيد المصرية (1978).
- النتائج المتحقّقة: في مقابل الرهانات والتوقعات الإسرائيلية المرتفعة- عسكرياً وسياسياً- من عملية رفح الوشيكة، بمعنى أن تُفضي إلى تحقيق "صورة نصر" كبديل لـ "النصر المطلق" الذي يُشكّك فيه كثيرون حتى داخل إسرائيل، تحضر الخشية من ألا تُفضِي العملية إلى "صورة نصر" بالحدّ الأدنى كما حدث في خانيونس، لأن ذلك يعني أن "الساعة الرملية" للقيادتين السياسية والعسكرية على المستوى الإسرائيلي الداخلي، وعلى المستوى الدولي أيضاً، قد شارفت على الانتهاء. يزيد هذا السيناريو تعقيداً غياب التصور الإسرائيلي لـ "اليوم التالي"، وفشل كل محاولات استبدال حكم حماس، حتى الآن.
- ملف الأسرى والمحتجزين: لم يختلف السلوك الإسرائيلي في التعاطي مع هذه القضية كثيراً عن بداية الحرب، لكن العديد من التفاعلات الإسرائيلية الداخلية زادت من إلحاح هذا الملف الذي تحول حراكه في الشارع لملف ضاغط على الحكومة في اتخاذ القرارات، ولا سيّما قرار المضي قدماً في الحرب وتنفيذ عملية عسكرية في رفح. من جهة، إن السيطرة العسكرية على رفح والمنطقة الحدودية (كما تطمح إسرائيل) قد تؤدي في حسابات إسرائيل إلى تخليص بعض الأسرى، أو بالحدّ الأدنى تحسين موقفها التفاوضي لاستعادتهم لاحقاً، وهذا في حال تحقّق، فسيمنحها هامشاً للمناورة لوقت إضافي واستكمال الحرب في غزة. لكن من جهة أخرى، قد تحمل هذه العملية مخاطر حقيقية على حياة هؤلاء، بالتالي، قد يؤدي مقتلهم جميعهم أو بعضهم إلى عواقب وانفجارات داخلية في المستقبل القريب والبعيد خاصة أنه بات من الواضح أن حسابات بعض المسؤولين ومن بينهم نتنياهو حالت دون التوصل لصفقة لاستعادتهم حتى الآن. من جهة ثالثة، إن المحطات التي تنقّل بينها خطاب حراك عائلات الأسرى وصولاً إلى تقبّل وقف الحرب (أو الامتناع عن تنفيذ عملية في رفح تحت شعار صفقة أو حرب) مقابل إعادة الأسرى يُشكّل ضاغطاً إضافياً على إسرائيل في حساباتها في المدى المنظور على الرغم من أنه لم يتحول إلى عامل حاسم حتى الآن.
ختاماً، على الرغم من حالة الإجماع الإسرائيلية، رسمياً ومجتمعياً، على الحرب ومجازر الإبادة، فإن التباينات في أولويات الحرب بين أقطاب الحكومة والمجتمع آخذة في التوسّع والتعمّق، وهو ما يُلقي بظلاله ليس فقط على زيادة حدّة التصدّعات والانقسامات الداخلية، وإنما أيضاً على المزاج العام في إسرائيل، وعلى الثقة بالمؤسستين الأمنية والعسكرية وقدرتها على تحقيق "الانتصار" التي شهدت تراجعاً ملموساً منذ أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي. وبموازاة ذلك، تبرز أصوات العديد من المختصين الذين يحاججون بأن الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو تبيع الوهم للإسرائيليين بالحديث عن "النصر"، وأن كل الوعودات التي يتم إطلاقها من قبل وزير الأمن يوآف غالانت ليست جديدة وقد قيلت في محطات سابقة بالفعل، وهذا ما يدفع بعضهم للقول إن على إسرائيل تفضيل المسار السياسي (التطبيع مع السعودية) على الانتقام (اجتياح رفح) للتعويض بمكاسب سياسية عديدة في المنطقة يكون من ضمنها تطبيع العلاقة مع السعودية، وهندسة مظلة دفاعية إقليمية ضدّ إيران التي يجب أن تكون وجهة إسرائيل الحالية- بحسب العديد من المختصين الإسرائيليين في المجال الأمني- العسكري- بعد أن استنفد الخيار العسكري أقصى ما يمكن فعله من تدمير وردع لحماس والجهاد اللتين يُمكن تغيير استراتيجية القتال ضدّهما لأن المعركة طويلة واستراتيجية وتحتاج إلى برامج وموارد عديدة ومتنوعة بسبب المعيقات العديدة التي تعتري طريق هزيمتهما الآن (الأسرى والمحتجزون، الجبهة الشمالية ومشكلة النازحين، اليوم التالي، وشرعية إسرائيل الدولية التي تآكلت).