شهدت العلاقات بين مصر وإسرائيل نوعاً من التوتر مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وقد أدّت التصريحات الصادرة في إسرائيل حول نية الأخيرة تنفيذ عمليات تهجير للفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء بالتزامن مع تسريبات ومخططات صدرت عن جهات إسرائيلية عديدة إلى زيادة هذا التوتر، وكذلك كل التصريحات والخطط الإسرائيلية الساعية إلى "خلق واقع بديل" في قطاع غزة بعد الحرب وتبعات ذلك أمنياً وسياسياً، وهو الأمر الذي دفع بعدّة جهات في إسرائيل- وخصوصاً معاهد البحث والتفكير- إلى التخوف من أن يؤدي هذا التوتر إلى ضعضعة العلاقة الإسرائيلية- المصرية والمسّ استقرارها بعد الحرب، والإشارة إلى ضرورة أن تتعاون إسرائيل مع مصر في الترتيبات المستقبلية والابتعاد عن أي خطوات من شأنها المساس باتفاقية السلام الموقعة.
في هذا السياق، أصدر "معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي" في جامعة تل أبيب تقريراً مفصّلاً بعنوان "إسرائيل ومصر في اليوم التالي للحرب: كيف يمكن سدّ الفجوات؟" يتناول العلاقات بين الجانبين خلال الحرب وتوصيات بشأن تعزيز هذه العلاقة في "اليوم التالي للحرب"، أعدّه كل من أوفير فينتر، مور لينك وآدم شارون. في هذه المساهمة، نستعرض أبرز ما ورد في هذا التقرير، مع الإشارة إلى أن المصطلحات والأفكار الواردة أدناه مصدرها التقرير نفسه ولا تعبّر عن أفكار كاتب المساهمة أو توجهات مركز "مدار".
في البداية، يؤكد التقرير أن تحليل مواقف مصر خلال الحرب الدائرة على قطاع غزة يشير إلى أنها لا توافق على معظم الأفكار المطروحة في إسرائيل في ما يتعلّق بشكل الحكم الإداري والأمني المستقبلي في قطاع غزة، وهذا ليس على مستوى القيادة المصرية فحسب؛ وإنما أيضاً على مستوى المؤسسات الإعلامية والمعاهد البحثية، خاصة الأفكار والتصورات التي لا تضمن تسوية شاملة للقضية الفلسطينية، بما في ذلك طروحات حكم برعاية قوات دولية كالناتو أو الأمم المتحدة؛ حكم برعاية القوى العربية؛ تشكيل حكومة تكنوقراط؛ أو عودة السلطة الفلسطينية لحكم قطاع غزة بدون موافقة الفصائل الفلسطينية وفي مقدّمتها حركة حماس. كما أن مصر غير راغبة وليست مستعدة- في ظل الظروف الحالية- لتولي مهمة حفظ الأمن في القطاع بعد الحرب، أو المراقبة الأمنية أو الانضمام لقوات دولية متعددة الجنسيات تقوم بهذه المهمة. وتذهب مصر أبعد من ذلك؛ إذ أنها لا تؤيد بقاء إسرائيل في نهاية الحرب في القطاع وكذلك تصور هزيمة حماس ونقل مسؤولية قطاع غزة لقوى إقليمية ودولية لمدة غير محددة، بالإضافة إلى أنها لا توافق على تواجد إسرائيلي في المنطقة بعد الحرب بأي شكل يتراوح بين الاحتلال الكامل إلى إنشاء حزام أمني أو منطقة عازلة داخل حدود القطاع رغم رفضها لاستخدام القطاع كقاعدة "إرهابية" من قبل حماس.
يشير التقرير إلى أن جملة من العوامل تقف خلف الموقف المصري المعارض تتمثّل في التالي؛ من ناحية هناك الشكوك المصرية في رغبة، وقدرة إسرائيل أيضاً، على إلحاق هزيمة ساحقة بحماس لا تستطيع أن تتعافى منها بشكل يخلق واقعاً مستقراً وآمناً في قطاع غزة وعلى طول الحدود المصرية؛ من ناحية ثانية التخوف من أن يتحول أي وجود إسرائيلي أو أجنبي مؤقت ولفترة غير محددة زمنياً إلى وجود دائم؛ من ناحية ثالثة هناك اعتقاد لدى مصر بأن إخراج قطاع غزة من القضية الفلسطينية والفصل بين حل الأزمة فيه وحل القضية الفلسطينية بشكل شامل لن يكون عادلاً بعين الفلسطينيين وبالتالي لن يحظى بأي دعم فلسطيني واسع ويخلق استقراراً طويل الأمد؛ من ناحية رابعة ثمة التخوّف المصري من أن تعمل حماس على تقويض شرعية أي حكومة أو إدارة فلسطينية بديلة يتم استبعادها منها.
وحول العلاقات الإسرائيلية- المصرية، يؤكّد التقرير أنه منذ بداية الحرب كان هناك انقطاع بين قادة إسرائيل ومصر بالإضافة إلى التوتر والاستياء المصري الناجم عن اعتماد إسرائيل على الوساطة القطرية بشكل متزايد وحصري في بعض الأوقات، كما أن التصريحات الإسرائيلية الصادرة عن جهات رسمية وغير رسمية حول نية إسرائيل تهجير الفلسطينيين من القطاع أجّجت المخاوف المصرية من هذا الخطر، حيث أن هذا المخطط الذي لم ينفه رئيس وزراء إسرائيل لغاية اللحظة يُنظر إليه في مصر، على المستويين الرسمي والشعبي، كمؤامرة تهدف إلى تصدير الأزمة إلى الأراضي المصرية وتنفيذ نكبة ثانية بحق الفلسطينيين والقضاء على القضية الفلسطينية وكل ذلك على حساب مصر التي يقوّض هذا المخطط أمنها القومي وسيادتها، وهو ما دفع رئيس الوزراء المصري للقول بأن هذا الأمر سيواجه بردّ مصري "حاسم" وألمح بأن القاهرة تعتبر ذلك خرقاً لاتفاقية السلام الموقعة مع مصر.
الرؤية المصرية لمستقبل غزة
يُشير التقرير إلى أنه في مقابل الرؤى والتصورات الإسرائيلية لمستقبل القطاع، تعمل مصر على صياغة خطة فلسطينية- عربية- إقليمية مضادّة، من شأنها إحباط مساعي إسرائيل لفصل "قضية غزة" عن الحل الجذري للقضية الفلسطينية.
تتضمن الخطّة المصرية لليوم التالي للحرب خطوطاً عامة وهي على النحو التالي بحسب التقرير:
- تشكيل حكومة فلسطينية موحدة ومتفق عليها بشكل فوري في الضفة الغربية وقطاع غزة تكون تابعة للسلطة الفلسطينية، هذا الأمر لن يقضي على حماس بشكل كامل، كما أنه سيحظى بدعم الدول العربية.
- تقديم مساعدات مادية خارجية للسلطة الفلسطينية من أجل إعادة إعمار غزة وتحقيق الإجماع الفلسطيني حولها، بما يسمح لها بتولي الحكم في قطاع غزة والحفاظ عليه بشكل فعّال.
- استئناف عملية السلام، مع خلق أفق سياسي ملموس ومحدد زمنياً لتسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وفقاً لقرارات الأمم المتحدة ومبدأ حل الدولتين.
- السعي لإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح بضمان قوى خارجية مثل قوات حلف شمال الأطلسي أو الأمم المتحدة أو قوات عربية أو قوات أميركية.
- تقوية المعسكر الإقليمي- يشمل إسرائيل أيضاً- الذي يضع نصب عينيه تحقيق السلام والاستقرار والتنمية والتعاون العابر للحدود.
علاوةً على ذلك، يؤكّد التقرير أن مصر ما زالت مهتمة في هذه المرحلة بلعب دور مماثل لدورها السابق للحرب: الوساطة بين إسرائيل والفلسطينيين؛ الوساطة بين حماس وفتح؛ المشاركة في عملية إعادة الإعمار؛ والإشراف على المعابر على الحدود بين غزة وسيناء في أبعادها الإنسانية والاقتصادية والأمنية.
المصالح المشتركة بين إسرائيل ومصر
بحسب التقرير، فإن هناك العديد من المصالح المشتركة بين إسرائيل ومصر على الرغم من الخلافات والتباينات حول "اليوم التالي للحرب"، وهي على النحو التالي: إضعاف حماس وتجريد القطاع من قدراته العسكرية؛ إقامة حكومة مستقرة في قطاع غزة ومنع الفوضى التي قد تحوله لقاعدة تصدير "الإرهاب" ضد إسرائيل ومصر؛ تثبيت مصر كوسيط أساس ولاعب مركزي في استقرار الواقع المستقبلي في القطاع؛ كبح قوة محور المقاومة "الراديكالي" في الشرق الأوسط؛ وتقوية التوجه الإقليمي الداعم للسلام والاستقرار والأمن.
علاوةً على ذلك، يؤكّد التقرير أن هناك مصلحة مشتركة بين مصر وإسرائيل في الاستفادة من الظروف التي خلقتها الحرب الحالية لتحسين الوضع الاقتصادي في مصر وتعزيز الاستقرار، وهذا الأمر لا بدّ من التركيز عليه نظراً للظروف الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها مصر (فقدان الجنيه نصف قيمته أمام الدولار؛ معدل التضخم حطم الأرقام القياسية؛ حجم الديون غير المسبوق؛ وأكثر من نصف سكان مصر باتوا قريبين من خط الفقر أو تحت خط الفقر)، بالإضافة إلى أزمة الديون التي تعد مركزية في أزمة الاقتصاد المصري.
يتطرّق التقرير بشيء من التفصيل للأزمة الاقتصادية في مصر وأسبابها، الداخلية والخارجية، في أعقاب أزمة كورونا والأزمة الروسية الأوكرانية، وهو الأمر الذي تسبب بأضرار لقطاعي الطاقة والسياحة، ويتفاقم مع الحرب الإسرائيلية على القطاع، إذ شهدت الأسابيع الأولى للحرب انخفاضاً ملحوظاً في تصدير الغاز الطبيعي من إسرائيل لمصر الذي تحتاجه للاستهلاك المحلي والتصدير، قبل أن يتم استئناف التصدير ليصل إلى معدلاته قبل الحرب. أما في ما يتعلّق بالسياحة؛ فقد تعرّض هذا القطاع لضرر كبير خاصة في شبه جزيرة سيناء وتراجعاً بنسب عالية جداً في موسم الذروة. بناءً على ذلك؛ يوصي التقرير بأن يتم تعزيز التعاون بين إسرائيل ومصر في تشكيل واقع قطاع غزة في "اليوم التالي للحرب"، وصياغة خطة استراتيجية منسّقة لسدّ الفجوات بينهما بما يعزّز من سيادة كل منهما بمساعدة الحلفاء.
ومن أجل تحقيق ذلك لا بدّ لإسرائيل من أن تتحرّك في اتجاهات مختلفة:
أولاً: إقناع مصر بأن إسرائيل مصمّمة على "القضاء على حركة حماس" والحيلولة دون أن تكون معيقاً لأي استقرار في "الواقع البديل" مستقبلاً في القطاع، وأن إسرائيل تمتلك القدرة لتحقيق ذلك؛
ثانياً: من الأفضل لإسرائيل أن تأخذ بعين الاعتبار الموقف المصري بأن تصبح السلطة الفلسطينية هي الهيئة الحاكمة في قطاع غزة بعد الحرب، وحتى وإن لم يكن دخولها إلى القطاع فورياً وغير مشروط فلا بد من وضع إطار عام يشمل جدولاً زمنياً لضمان عودتها بشكل مسبق مع تقديم ضمانات بأن الترتيبات المؤقتة لن تتحول إلى دائمة؛
ثالثاً: يتعين على إسرائيل أن تسعى جاهدة لخلق أفق سياسي لاستئناف عملية السلام الإسرائيلية- الفلسطينية عندما تسمح الظروف بذلك؛
رابعاً: يتعين على رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يخرج بصوته وينفي "المؤامرة المنسوبة لإسرائيل" بأنها تنوي تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، وإزالة هذه الفكرة من جدول الأعمال.
في المقابل، يُؤكّد التقرير على أن المطلوب من مصر أن تأخذ "مصالح إسرائيل" بعين الاعتبار خلال استئناف عملية تسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على النحو التالي:
أولاً: تشجيع السلطة الفلسطينية على الموافقة على تجريد القطاع من السلاح واتخاذ خطوات تجاه إسرائيل من أجل تعزيز الثقة، مثل "وقف التحريض على وسائل الإعلام"، "إصلاح المناهج الدراسية"، و"وقف دفع الأموال لعائلات الأسرى والشهداء"، وهذه الخطوات ستكون متسّقة مع رؤية إدارة جو بايدن لخلق "سلطة فلسطينية متجدّدة"؛
ثانياً: إذا كانت مصر تعارض حرية عمل عسكري لإسرائيل في قطاع غزة، فعليها أن تقدّم حلولاً بديلة تراعي "المخاوف الأمنية الإسرائيلية"، وأن تُساهم في تنفيذ هذه الحلول، بما في ذلك موافقة مصر على قيادة قوات عربية مؤقتة في غزة؛ تعزيز الجهود لوقف عمليات التهريب عبر الحدود مع غزة وضمان تنفيذ الملحق العسكري لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية. ويؤكّد التقرير أن مصر يُمكنها القيام بذلك بالتعاون مع القوى العربية والدولية الفاعلة من أجل ضمان حصولها على دور بنّاء في "اليوم التالي للحرب" بما يضمن حصولها على حوافز اقتصادية وتعزيز الاستثمارات الأجنبية وتسهيلات حول الديون وغيرها، والهدف من ذلك ليس إبعادها عن مواقفها بقدر ما هو تعزيز لتوسيع تدخلها الأمني والاقتصادي في القطاع بما يضمن احتياجات إسرائيل الاستراتيجية، بدعم دول الخليج والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي تسعى إلى الحدّ من ارتفاع لهيب الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وتحقيق الأمن والاستقرار وتعزيز التنمية والأمن في الشرق الأوسط. ويؤكّد التقرير أن خطة التحفيز لمصر قد تستلهم من الأفكار الواردة في "صفقة القرن" التي طرحتها إدارة ترامب في العام 2020، ولا بد من أن تشمل هذه الخطة بند الإعفاء من الديون الخارجية كما حصل في أعقاب حرب الخليج تقديراً لدعمها للتحالف الذي قادته الولايات المتحدة.