يشهد الشارع الإسرائيلي منذ تسلّم حكومة اليمين الديني المتطرّفة والعنصرية بقيادة بنيامين نتنياهو وأحزاب الصهيونية الدينية لدفّة الحكم، مظاهرات واحتجاجات في مراكز المدن الإسرائيلية، تخلّلها قطع وإغلاق للطرق الرئيسية احتجاجاً على ما يُعرف بـ "خطة الإصلاح القضائي"، أو "الثورة القضائية" التي تُشكّل واحدة من الأجندات التي وضعها الائتلاف الحاكم له. وقد لوحظ خلال الاحتجاجات المذكورة، توجّه المحتجّين في أكثر من مرة إلى قطع وإغلاق الطرق المؤدية إلى معهد البحث والتفكير الإسرائيلي اليميني المعروف بـ "فوروم كوهيلت"، على غرار المساعي لقطع الطرق إلى المقرّات والمراكز الحكومية، ما يُثير الشكوك حول دور هذا المعهد في السياسة الإسرائيلية عموماً، والذي طالما وضعته في مصاف الجهات الحكومية المسؤولة عن التغييرات الحاصلة في السياسة الإسرائيلية، لا سيّما تلك المُزمع إحداثها في النظام القضائي بمستوياته ومؤسساته المختلفة. في هذه الورقة؛ نحاول التعريف بمعهد "فوروم كوهيلت"
، والوقوف على محطّات تشكّله، ودوره في السياسة الإسرائيلية عموماً، وفي تشكيل وتركيبة الحكومة الحالية وصياغة بعض أجنداتها والدفع قدماً باتجاه تحقيقها، وأهم الأدوار التي لعبها منذ تشكّله خلال السنوات الأخيرة، والمنجزات التي حقّقها.
بدايةً، يُعرّف "فوروم كوهيلت (بالعبرية)"، "منتدى كوهيلت (بالعربية)"، عن نفسه بأنه منظّمة غير ربحية ومعهد بحثي مستقلّ يحمل توجّهات يمينية مُحافظة ونيو ليبرالية، ويسعى لترسيخ مكانة دولة إسرائيل كـ "دولة قومية للشعب اليهودي"، والحفاظ على ديمقراطيتها، إلى جانب تعزيز مبدأ الحرية الفردية وتعزيز وتعميم مبادئ السوق الحرّة في إسرائيل استناداً إلى توجّهاته ذات الصلة.
تأسس "منتدى كوهيلت" في العام 2012 ومقرّه القدس الغربية، بمبادرة مجموعة من الشخصيات ذات التوجّه اليميني المُحافظ والنيو ليبرالي، كان في مقدّمتهم موشيه كوبل الذي ترأسّ المعهد لسنوات، وبعضوية أكاديميين محسوبين على نفس التوجّه أمثال أبراهام ديسكين، آفي بيل، غيدي سابير، أفيعاد بكشي، ومايكل ساريل الذي كان يُعرف بكبير الاقتصاديين في وزارة المالية الإسرائيلية في تلك الفترة.[1]
بالعودة إلى بدايات "كوهيلت"، يتبيّن من خلال موقعه الرسمي على الشبكة أن الهدف من تأسيسه كان بشكل رئيس الضغط على صانعي القرار، ودوائر صنع القرار في إسرائيل، لتعزيز السياسات اليمينية المحافظة والنيو ليبرالية الاقتصادية التي يتبنّاها المنتدى والشخصيات العاملة فيه، ولتحقيق ذلك، قال إنه سيعمل على تقديم أوراق سياسية واقتصادية واجتماعية، وعقد ندوات ومؤتمرات سنوية وتقديم تصوّرات وأوراق عمل ذات صلة بالموضوع لتحقيق أهدافه.
التمويل والعلاقة مع اليمين المحافظ النيوليبرالي في الولايات المتحدة
يُمكن القول إن غالبية الجمعيات اليمينية في إسرائيل، وتحديداً تلك التي برزت خلال العقود الثلاثة الماضية مع بدء اكتمال التحول الاقتصادي إلى النيو ليبرالية، تتلقّى دعماً مالياً ومعنوياً من "الصندوق المركزي لإسرائيل" و"كيرن تكفا"، الممولان الرئيسان لمنظمات وجمعيات اليمين في إسرائيل، إلى جانب الجمعيات والمنظّمات اليمينية المحافظة والنيو ليبرالية في الولايات المتحدة الأميركية وبعض الشخصيات اليهودية والصهيونية الثرية حول العالم، وقد تناولنا في مساهمات سابقة هذا الموضوع باستفاضة في مُلحق المشهد الإسرائيلي.[2] بالنسبة لـ "منتدى كوهيلت"، فإن العلاقة بينه وبين بعض منظّمات اليمين المحافظ النيو ليبرالي في الولايات المتحدة ليست نظرية أو مفاهيمية فقط؛ بل أيديولوجية ومالية وثيقة حدّ القول بأن الفضل يعود للأخيرة في الدفع باتجاه تأسيس المعهد، على الرغم من أن إمكانية الحصول على أية وثائق رسمية في هذا المجال أمر صعب بسبب سياسة التمويل الخارجي في القوانين الأميركية التي تُتيح هامشا للشركات والجمعيات والمنظمات تقديم "مساعدات خارجية" تحت حُجج ومسوّغات عديدة أبرزها "مساهمات خيرية".
يُجسّد "منتدى كوهيلت" النمط الأميركي لمعاهد الأبحاث المحافظة التي تلعب دوراً كبيراً في التأثير في السياسة الأميركية، وتحديداً في الجانب الاقتصادي منها. تُشير بعض التقارير التي تناولت العلاقة المُعقّدة والمتشابكة بين "منتدى كوهيلت" والمنظمات اليمينية المحافظة والنيوليبرالية في الولايات المتحدة الأميركية إلى أن الأخيرة تقف بالفعل خلف تأسيس المعهد الذي عبّر مؤسّسوه عن الالتزام بتعزيز سياسة اقتصادية محافظة ونيو ليبرالية، وتعزيز هذه المبادئ في أوساط "الصهيونية الدينية" أيضاً. مثلاً، يُشير موشيه كوبل- مؤسّس المنتدى ورئيسه الحالي- في مقابلة أجراها مع الأسبوعية الدينية "بشيفع" إلى أن "منتدى كوهيلت" ولد كفكرة خلال اجتماع عمل بين موشيه كوبل مع ملياردير صهيوني أميركي غير متديّن لم يُفصح عن اسمه، بعد لقاء جمع بينهما بهدف مناقشة تطوير خوارزمية للاستخدام التجاري في الاستثمارات في سوق رأس المال وهو المجال الذي كان يعمل فيه كوبل، ليجد أن الأخير قد أبدى اهتماماً بـ "التنمية الإسرائيلية" في مجالات عمل لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، وأنه وجد خلال الاجتماع أن المال تافه مقارنةً بالهدف المشترك لكليهما وهو "تعزيز يهودية دولة إسرائيل" التي كانت أيضاً تشغل بال هذا الشخص. يقول كوبل ان الملياردير الأميركي الذي وضع شرطاً وحيداً وهو عدم الإفصاح عن اسمه، طلب منه بوضوح أن يُبادر لإنشاء جسم يكون بمثابة لوبي ضاغط ومؤثّر في السياسة الإسرائيلية لتمرير هذه الأجندة، خصوصاً وأن كوبل نفسه كان عضواً في لجنة الدستور والقانون والقضاء في الكنيست قبل ذلك اللقاء، مؤكّداً أنه سيقوم بتغطية كل ما يترتّب على ذلك مالياً، وبالفعل تم تأسيس "منتدى كوهيلت" بعد ذلك بعدّة سنوات.[3]
كوبل أشار إلى أن "كوهيلت" يعمل في ثلاثة اتجاهات؛ الصهيونية- تعزيز يهودية إسرائيل باعتبارها الوطن القومي للشعب اليهودي، الاقتصاد- تعزيز المنافسة واقتصاد السوق الحرّ والحرية الفردية، والحكم- تعزيز سلطة المسؤولين المنتخبين فقط في استخدام سلطة الدولة وتعزيز القيم اليهودية، ولا يجب أن يكون للمحكمة وللمستشارين القانونيين والمراجعات القضائية سلطة على الحكومة والكنيست، أو أن يتم القيام بذلك بحكمة واعتدال.[4] من ناحية أخرى، يؤكّد كوبل أن المنتدى جاء ليلعب دور المرجعية للمسؤولين المنتخبين، علماً بأنه لا يحصل على أي تمويل من أي جهة حكومية على حدّ تعبيره.
في تحقيق أعدّه نتانئيل شلوموفيتش لصحيفة هآرتس، يُشير إلى أن موشيه كوبل لم يُفصح يوماً عن مصدر تمويل الجمعية التي أبقاها سرية، واكتفى بالإجابة على الدوام بأن المنتدى يحصل على دعم من ممولين من القطاع الخاص ورجال أعمال أميركيين الذين وصفهم بـ "يهود جدّاً". شلوموفيتش يُشير إلى أن تتبّع التبرّعات السنوية لـ "منتدى كوهيلت" يقود إلى أنها تمرّ عبر عدّة جمعيات في الولايات المتحدة الأميركية، لكنّها تقود في النهاية إلى كلّ من جيفري ياس وآرثر دانتشيك وشركتهما المعروفة باسم "سسكوانا" وهما من أكبر المانحين للحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأميركية، لا سيّما التيار الأشدّ مُحافظة منه، وهما من بين المساهمين الرئيسيين في منظّمات الأبحاث المحافظة والنيوليبرالية التي تُشبه "منتدى كوهيلت" في الولايات المتحدة الأميركية.[5] ورغم ذلك، يُشير شلوموفيتش إلى أنه لا يُمكن العثور على أي إثبات على الورق بالعلاقة بين "سسكوانا" وبين "كوهيلت"؛ إذ تُساعد القوانين الأميركية التي تحافظ على خصوصية المانحين في الحفاظ على سرية ذلك، لكنه يُشير في الوقت ذاته إلى أنه في السنوات الأخيرة، وصلت الأموال إلى "كوهيلت" من خلال "الصندوق المركزي لإسرائيل" الذي يُقدّم الدعم المالي لجمعيات ومنظّمات اليمين في إسرائيل، والذي تم استبداله في العام 2016 بجمعية تُعرف باسم "أصدقاء منتدى كوهيلت في الولايات المتحدة الأميركية" في إحدى مدن ولاية بنسيلفينيا حيث تعمل شركة "سسكوانا" المُشار إليها أعلاه، يُديرها ثلاثة أشخاص؛ اثنان منهم صهرا كوبل، والثالث إسرائيلي اسمه أمير غولدمان الذي كان يعمل في إحدى شركات نير بركات في الماضي، وذهب لتأسيس صندوق استثماري جديد لياس ودانتشيك،[6] ويختتم شلوموفتيش التقرير بأن مصادر التمويل المُتعدّدة الهدف منها على ما يبدو كان الحفاظ على سريّة الجهة الرسمية التي تقف خلفه وهي ياس ودانتشيك، المٌشار إليهما بأصابع الاتهام بتمويل "كوهيلت". تأكيداً على المعلومات التي أوردها شلوموفيتش، نشرت صحيفة هآرتس تقريراً حول مصادر تمويل "منتدى كوهيلت" مطلع العام الجاري، أشارت فيه إلى الملياردير اليهودي ياس الذي يُعد ثالث أكبر مانح للحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأميركية وكشفت سلسلة من التقارير أنه كان المانح الرئيسي لبعض السياسيين الأميركيين الذين شاركوا في مؤامرة إلغاء نتائج الانتخابات والتشكيك في فوز المرشّح الديمقراطي جو بايدن خلال حادثة الكابيتول في كانون الثاني 2021 إلى جانب شريكه دانتشيك، بالتوازي مع ذلك يخوض الاثنان معركة دعم أحد الجمهوريين في الانتخابات التمهيدية على عكس ما كان يتم العمل به في السابق، حيث لم يكن المانحون يُفضّلون الدخول في حلبة المنافسة في الانتخابات التمهيدية، بل دعم المرشّح الفائز فيها لاحقاً.[7]
من مساعي الضغط إلى الجمعية
اليمينية الأكثر نجاحاً في إسرائيل
إن من يتتبُّع نشاط "منتدى كوهيلت" خلال السنوات الماضية يستطيع معرفة التأثير الكبير للمنتدى في السياسة الإسرائيلية عموماً، وعلى أعضاء الكنيست اليمينيين. كما أن نشاط المعهد تجاوز إصدار أوراق العمل وتحليل السياسات والتوصيات حدّ المشاركة في وضع الدعاية الانتخابية لبعض أحزاب اليمين، وإصدار توصيات حول أفضل صيغة لتركيبة الائتلافات الحكومية وتوزيع الحقائب الوزارية فيها كما حصل في الانتخابات الأخيرة. في العام 2021 مثلاً، شارك "منتدى كوهيلت" في وضع البرنامج الاقتصادي لحزب "أمل جديد" بقيادة جدعون ساعر، كما قام بتقديم استشارات قانونية وفنية هامّة لحزب "يمينا" وبعض أحزاب اليمين. أما بالنسبة لدور "منتدى كوهيلت" في ظلّ الحكومة الإسرائيلية اليمينية الجديدة، فيُمكن فيه القول بأن المنتدى هو الجهة الأكثر تأثيراً على حكومة نتنياهو اليمينية الحالية، وتكشف التحقيقات أن "كوهيلت" هو الذي أوصى نتنياهو ومعسكر الليكود والائتلاف الحكومي الحالي بتشكيل الحكومة الحالية بهذه الطريقة، كما أوصى بإشراك بتسلئيل سموتريتش عن حزب "الصهيونية الدينية" في وزارة الدفاع إلى جانب حقيبة وزارة المالية التي تسلّمها ومنحه قيادة "الإدارة المدنية" في الضفة الغربية،[8] كما أوصى وزير العدل ياريف ليفين بالقيام بسلسلة من الخطوات والإجراءات لإحداث تغيير على النظام القضائي والمحكمة العليا، لتقويض استقلالية القضاء والمحكمة العليا لصالح السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست) والتي باتت تُعرف إسرائيلياً بخطة "الإصلاح القضائي" وما زالت آثارها تتفاعل في الشارع الإسرائيلي على شكل احتجاجات ما زلنا نشهدها خلال هذه الأيام.[9]
إن الأدوار التي يلعبها المنتدى جعلت منه الجمعية اليمينية الأكثر تأثيراً في السياسة الإسرائيلية خلال العقد المنصرم بدون مبالغة، من إعداد "قانون أساس إسرائيل الوطن القومي للشعب اليهودي- قانون القومية" 2018 بصيغته النهائية كما وضعها كوبل بنفسه العام 2003 خلال مناقشات إقرار الدستور في لجنة الدستور والقانون والقضاء التي كان عضواً فيها، وإعداد كرّاس "أن نكون مواطنين في دولة إسرائيل" المُعتمد في التعليم الرسمي في إسرائيل، وإحباط تشريع قانون "ضبط ومراقبة أجور السكن"، ومحاولات إحباط سنّ قانون "الرقابة على دور الحضانة"، والتدخل في إصلاح قانون "السينما"- خصخصة السينما، وتقديم التماسات ضد "الرقابة على البضائع والسلع الأولية مثل الحليب" وغيرها- (ضد دولة الرفاه) وأيضاً يقف المعهد خلف إعلان مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي الأسبق حول الاعتراف بـ "شرعية المستوطنات" الإسرائيلية وغيرها.
لم يسبق أن حظيت جمعية/ منظمة غير حكومية حديثة التأسيس نسبياً بهذا القدر من التأثير خلال هذه المدّة، فعلى الرغم من أن هيمنة اليمين ومنظومته الخطابية- الفكرية- الاقتصادية، نسبياً، على المشهد السياسي الإسرائيلي منذ تسلّم حكومة نتنياهو 2009 ساعدت في خلق بيئة حاضنة ورافعة لتمرير المنتدى لأجنداته السياسية والاقتصادية والقضائية؛ إلا أن ذلك لا يُمكن أن ينفي قدرات المنتدى وميزانيته الكبيرة ونجاحه في تمرير أجنداته المذكورة.
بين "قانون القومية" وخطة "الإصلاحات القضائية"
تُشير تصريحات بعض أعضاء الكنيست السابقين والحاليين إلى أن أعضاء "منتدى كوهيلت" يتصرّفون كسياسيين في اجتماعات لجان الكنيست، أو كنوّاب عنهم في حال تغيّب أحدهم لا كأعضاء أو باحثين في معهد أبحاث،[10] حيث يُشارك أعضاء المنتدى في اجتماعات اللجان في الكنيست بحسب تخصّصاتهم، ويعملون مع كل الأحزاب الإسرائيلية اليمينية ولا يحصرون أنفسهم في حزب دون غيره، وقد برز دورهم بشكل كبير كممثّلين للمنتدى في مناقشات تشريع "قانون القومية" العام 2018، وفي المسؤولية عن "الإصلاحات القضائية" التي تُسبّب أزمة في النظام السياسي الإسرائيلي في الوقت الراهن.
في العام 2018، وقع اختيار ذي ماركر الملحق الاقتصادي لصحيفة هآرتس على مائير روبين- المدير العام التنفيذي لـ "منتدى كوهيلت"- كسابع أكثر شخصية مؤثّرة في العام، واستعرضت في تقريرها دور روبين المؤثر في اجتماعات لجان الكنيست؛ إذ يتصرّف كسياسي أو نائب عن أييلت شاكيد ونفتالي بينيت وسموتريتش في اجتماعات اللجان (في حينها). تقول المجلة عن روبين الذي وصفته بـ "روح المنتدى الحيّ" أنه عبّر عن فخره بكون "منتدى كوهيلت" هو من يُدير الكنيست بالفعل في إشارة إلى مدى تأثيره فيه وعلى أعضائه، على الرغم من أنه يُصنّف نفسه كـ "معهد أبحاث مستقلّ"، وكان روبين نفسه قد عمل سابقاً مستشاراً برلمانياً لعضو الكنيست زئيف إلكين ومنسق التشريعات في حزب الليكود.[11]
بالنسبة لـ "قانون القومية"، فعلى الرغم من أن كُثراً يُشيرون بأصابع الاتهام بالمبادرة لتشريعه لـ "معهد الاستراتيجية الصهيونية" قبل تأسيس "كوهيلت"، وهذا صحيح بالفعل؛ إلّا أن مُتابعة مراحل تشريع القانون التي أخذ فيها "كوهيلت" دوراً كبيراً، تكشف تأثيره الحاسم في صياغته النهائية وبنوده الرئيسة. مثلاً يقول أحد المشاركين في مراحل تشريعه في الكنيست حول دور "كوهيلت" وتأثيره: "قبل أن ينخرط معهد كوهيلت في مراحل التشريع، كان هناك استعداد لتسويات عدّة في صيغة القانون التي لم تكن تحظى بإجماع تام، حيث كان بالإمكان أن يتم التوصل لتسويات وتنازلات من قبيل اعتبار وثيقة إعلان دولة إسرائيل بمثابة القانون نفسه، لكن مجيء كوهيلت وتدخّلها في التشريع قاده لمكان أكثر تطرّفاً وراديكالية، وتحديداً تلك الأجزاء التي تؤكّد على التفوّق اليهودي".[12] وقد شارك سكرتير الحكومة السابق المحامي تسفي هاوزر في كل جلسات التشريع الخاصة بالقانون، كما كان لموشيه كوبل الفضل في صياغة القانون الأولى والتي كان قد وضعها في العام 2003 كما أشرنا لذلك أعلاه.
وبالمثل، في العام 2015، نشر "كوهيلت" ورقة بعنوان "التعيينات والحكم" بتوقيع كل من أفيتال بن شلومو وإسحاق كلاين وكلاهما باحثان في المعهد، تضمّنت توصيات للمستويات التشريعية بضرورة إجراء تعديلات قضائية تُفضي إلى أن يتم تعيين المستشارين القانونيين لكل وزير من قبل الوزير نفسه، وكذلك اثنين من المديرين العامين لكل وزارة لضمان مطابقة سياساتهم للإجراءات التشريعية والقضائية في إسرائيل،[13] ما يُكسب "الأعضاء المنتخبين" سلطة وصلاحيات حقيقية تساوي تلك التي حصلوا عليها في الانتخابات أسوةً بالنموذج الأميركي. واستمرّ "كوهيلت" في الترويج إلى ضرورة إصلاح النظام القضائي الإسرائيلي بشكل يُقلّص من صلاحيات المحكمة العليا والبنى القضائية المختلفة ويُعطي صلاحيات أكبر للمشرّعين المنتخبين.
مع تسلّم حكومة نتنياهو اليمينية، برزت قضية "الإصلاحات القضائية" كقضية إشكالية تسبّبت في خلق أزمة للنظام السياسي الإسرائيلي واحتجاجات مستمرّة ما يزال يشهدها الشارع الإسرائيلي حتى وقت إعداد هذه المساهمة، وخلال ذلك برز دور "منتدى كوهيلت" بوصفه الجهة التي تقف خلف هذا المشروع أو تدفع باتجاه تشريعه؛ وهذا نابع من كون مشروع "الإصلاحات القضائية" واحداً من أهم أجنداته التي أراد تحقيقها منذ تأسيسه.
ويُشار إلى "كوهيلت" بأصابع الاتهام بالوقوف خلف هذه "الإصلاحات"، حيث قدّم توصيات إلى وزير العدل الحالي ياريف ليفين للقيام بسلسلة من الإجراءات التي من شأنها إحداث تغيير على النظام القضائي والمحكمة العليا في إسرائيل، تقود بالمحصلة إلى تقويض استقلالية القضاء والمحكمة العليا لصالح الحكومة والكنيست. وعلى الرغم من توسّع رقعة هذه الاحتجاجات؛ لم يُبدِ الائتلاف الحكومي حتى الآن مرونة في الاستجابة لمطالب المحتجّين والمعارضة تُفضي في المحصّلة لتجاوز "الأزمة الحالية" على الرغم من تقديم رئيس الدولة إسحاق هرتسوغ لمقترحات هدفها التوفيق بينهما، ووقف الاحتجاجات التي يشهدها الشارع بالتزامن مع تصاعد الخطاب المُحذّر من خشية اندلاع "حرب أهلية" في أعقاب هذه الاحتجاجات التي لا يبدو أنها ستنتهي في الأيام القادمة في ظل إصرار الائتلاف على تمرير خطته.
من المُثير أنه ومع ازدياد أعداد المحتجّين وتوسّع رقعة الاحتجاجات التي ترى في خطة "الإصلاح القضائي" تعدّياً على المحكمة العليا الإسرائيلية وعلى النظام القضائي برمّته، ومساساً بـ "الديمقراطية الإسرائيلية"، ومع تصاعد الآثار الاقتصادية الناجمة عن ذلك، عبّر كبير الاقتصاديين في "كوهيلت" ميخائيل ساريل عن أن "الإصلاحات" في النظام الإسرائيلي قد تتسبّب في أضرار اقتصادية لإسرائيل، وهي الإصلاحات التي يقف خلفها "كوهيلت" بشكل رئيس، لكن في الوقت نفسه، اعتبر ساريل أنه بذلك يُعبّر عن موقف شخصي، كما اعتبر أن هذه الإصلاحات من شأنها أيضاً المساس بمبدأ الفصل بين السلطات وبإمكانية إجراء انتخابات نزيهة في المستقبل، وأن هذا الإضرار بالديمقراطية الليبرالية من شأنه أيضاً المساس بالاقتصاد الإسرائيلي بشكل كبير.[14] لكن في المقابل، لا يزال يرى أعضاء "كوهيلت" في هذه "الإصلاحات" ضرورة لا بدّ من إحداثها لتغيير المبنى القضائي في إسرائيل بدون إمكانية مناقشة تسويات مُتعلّقة بالخصوص. في المقابل، ما انفك "كوهيلت" يروّج لهذه الإصلاحات عبر موقعه الرسمي وعلى لسان أعضائه والباحثين فيه باعتبارها ضرورة "قومية" إسرائيلية كان لا بدّ من الإقدام عليها منذ سنوات، وأن ما يحدث في الشارع هو محاولات من المعارضة للاستفادة من هذا الأمر عبر تضخيمه والترهيب منه ومن نتائجه، على الرغم من أن ذلك قائم بالفعل في أغلب الديمقراطيات حول العالم التي تمنح صلاحيات للمشرّعين والأعضاء المنتخبين غير المحاصرين بسلطات قضائية مُفرطة تُقيّدهم وتصادر صلاحياتهم وقدرتهم على التشريع.[15]
إجمالاً، يُعد "منتدى كوهيلت" من أهم الجمعيات اليمينية في إسرائيل التي استطاعت تمرير أجنداتها والتأثير في السياسة الإسرائيلية من خلال العمل في الظل، وفي أروقة الكنيست، وعبر الضغط والتأثير على أعضاء الكنيست والوزراء من الأحزاب اليمينية المختلفة. كما أن النموذج الذي يُقدّمه "كوهيلت" شبيه إلى حدٍّ كبير بمعاهد الأبحاث المحافظة في الولايات المتحدة الأميركية كما أشرنا أعلاه، حيث يوظّف قرابة 150 باحثاً وباحثة في المجالات السياسية والاقتصادية والقانونية بشكلٍ رئيس، وبموازنة تقريبية تُقدّر بعشرات الملايين مصدرها جمعيات ومنظّمات أميركية وأثرياء يهود وصهاينة محافظين (مثلاً يتقاضى ساريل رئيس القسم الاقتصادي راتباً مقداره 23.6 ألف شيكل شهرياً، ويبلغ راتب روبين 26 ألف شيكل شهرياً، وراتب أفيعاد بكشي، رئيس القسم القانوني، 31 ألف شيكل شهرياً، بالإضافة إلى أن المعهد يصرف عشرات الآلاف من الشواكل على الأوراق التي يتم نشرها بشكل دوري بحسب العديد من التقارير المنشورة). في الوقت نفسه، يُشكّل منتدى كوهيلت نموذجاً للجمعيات والمنظّمات اليمينية الإسرائيلية التي تسارع ظهورها وانتشارها في مجال "المجتمع المدني" المقابل للمجتمع السياسي خلال العقود الثلاثة الماضية، والتي أصبحت ذات تأثير كبير في السياسة الإسرائيلية على كافة المستويات والصُعد، حيث ساهمت، إلى حدٍّ كبير، في إحداث التحولات التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي وبناه المختلفة خلال العقدين الماضين تحديداً، ومن ضمنها الانزياح نحو اليمين الجديد الذي ظهر في أوضح صوره في تشكيلة الائتلاف الحكومي الحالي.
صورة من الاحتجاجات الأخيرة التي يشهدها الشارع الإسرائيلي
أمام مكتب "منتدى كوهيلت"
[1] أنظر/ي:
الموقع الرئيسي لمنتدى كوهيلت على الشبكة، https://kohelet.org.il/.
[2] أنظر/ي:
عبد القادر بدوي، "عن "الصندوق المركزي لإسرائيل" ودوره في تقديم الدعم المالي للمستوطنات وجمعيات اليمين؟"، ملحق المشهد الإسرائيلي- مدار، 30.05.2023، https://bit.ly/42oQKK8.
[3] يوني روتنبيرغ، "عن حرّاس الكنيست"، موقع القناة السابعة العبرية، 30.05.2019، https://www.inn.co.il/news/403293.
[4] المرجع نفسه.
[5] نتانئيل شلوموفيتش، "كيف ولد فوروم كوهيلت، الجمعية الأكثر نجاحاً لليمين في العقد الأخير، ومن يموله"، هآرتس، 11.03.2021، https://bit.ly/3JOenER.
[6] المرجع نفسه.
[7] نتانئيل شلوموفيتش، "الملياردير الذي يمول فوروم كوهيلت من المفترض أن يتحول لملك ملوك الجمهوريين"، هآرتس، 02.03.2023، https://bit.ly/3lpos1A.
[8] تحقيق يكشف الجهة الأكثر تأثيراً على حكومة نتنياهو أعدّته القناة 12 العبرية، 21.01.2023، https://bit.ly/3Xdn5jc.
[9] إيتان أفريئيل، "المليارات الأميركية التي تقف خلف محاولات اغتيال إسرائيل الليبرالية"، ذي ماركر- المُلحق الاقتصادي لصحيفة هآرتس، 15.01.2023، https://bit.ly/3YagiZ5.
[10] مائير روبين، المدير التنفيذي لفوروم كوهيلت، ذي ماركر- الملحق الاقتصادي لصحيفة هآرتس، 2018، https://bit.ly/3ZW8A5P.
[11] المرجع نفسه.
[12] المرجع نفسه.
[13] المرجع نفسه.
[14] شلومو تيتلباوم، "الاقتصادي الرئيسي في فوروم كوهيلت: الإصلاحات القضائية ستسبب إضراراً كبيراً بالاقتصاد"، كالكاليست- الملحق الاقتصادي لصحيفة يديعوت أحرونوت، 08.03.2023، https://www.calcalist.co.il/local_news/article/bycpdcrjh.
[15] أهارون غربر، "لماذا التغيير في النظام القضائي ضرورة؟"، ورقة بحثية صادرة عن منتدى كوهيلت، 19.02.2023، https://bit.ly/3mYe2GC.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, بتسلئيل, يديعوت أحرونوت, هآرتس, القناة السابعة, لجنة الدستور والقانون والقضاء, الإدارة المدنية, دورا, الليكود, الكنيست