تؤكد عدة أوراق تقدير موقف صدرت في إسرائيل في الفترة الأخيرة، على أعتاب تأليف حكومة إسرائيلية جديدة تشير كل التوقعات إلى أنها ستكون الحكومة السادسة برئاسة بنيامين نتنياهو، أن التحدي الرئيس الذي سيكون ماثلاً أمامها هو آخر الأوضاع في الضفة الغربية في ضوء ما تصفه بأنه "التهديد الأمني المتزايد في شمال الضفة".
وبرزت من بين هذه الأوراق تلك التي أعدها باحثون من "معهد السياسات والاستراتيجيا" في جامعة رايخمان (مركز هرتسليا المتعدد المجالات سابقاً) والتي أكدوا في مستهلها أنه يتعين على الحكومة الجديدة التي ستؤلّف "وضع ردّ على التحديات الاستراتيجية المطروحة في أقرب وقت، سواء على صعيد النظام الإقليمي، أو في الساحة الدولية، انطلاقاً من الفهم أنها ستخضع للاختبار من خلال أعمالها على الأرض". وأضافوا أن المطلوب من هذه الاستراتيجيا أكثر من أي شيء آخر "هو تقديم جواب منظّم بشأن الوضع المتأزم حيال السلطة الفلسطينية، وتصاعُد التهديد من جانب إيران"، وذلك من خلال المحافظة على الدعامات الاستراتيجية، وفي طليعتها الولايات المتحدة، وعلى العلاقات مع من وصفت بأنها "دول السلام والتطبيع".
وجاء في مستهل هذه الورقة:
"إن التحدي المركزي اليوم هو التهديد الأمني المتزايد في شمال الضفة الغربية، والذي يهدّد بالامتداد إلى مناطق أُخرى من الضفة. هذا بالإضافة إلى الإحساس بخيبة الأمل واليأس لدى القيادة والجمهور الفلسطينييْن، وصعوبات الحكم التي تواجهها السلطة، والتي تتجلى في الصعوبة المتزايدة وعدم الرغبة في تحمّل المسؤولية عن بؤر الفوضى الناشئة. ونتيجة ذلك، وإزاء ازدياد العبء، أصبحت إسرائيل مضطرة إلى تحمّل المزيد من المسؤولية، والطلب من الجيش الإسرائيلي تنفيذ عمليات واسعة النطاق، من دون التعاون مع القوى الأمنية الفلسطينية، وبالتالي ازدياد الاحتكاكات بالسكان في الضفة الغربية. وهذا الواقع يؤدي إلى زيادة التوجهات نحو نزع الشرعية عن إسرائيل، ويمكن أن يعرقل جهود بناء الثقة والتعاون بين الحكومة الجديدة وبين الإدارة الأميركية، وأن يُلحق الضرر بشبكة العلاقات مع الدول السّنية في المنطقة".
وأكدت الورقة أنه في ضوء هذه التحديات، فإن المطلوب من الحكومة الجديدة أن تدرك أن مساعيها في التصدي للتهديدات الأمنية المباشرة تشكل رداً موقتاً وجزئياً فقط، وأن احتمال الانفجار سيزداد، وبمرور الوقت، سيكون المطلوب منها إحداث تغيير جوهري في الاستراتيجيا، وفي منظومة العلاقات مع السلطة الفلسطينية. وعملياً ستكون الحكومة مُجبرة، بحسب الورقة، على الاستمرار والمحافظة على كل قنوات التنسيق مع السلطة، وخصوصاً الأمنية منها. في المقابل، ومن أجل ضمان قيام نسيج حياة مدنية، فإن إسرائيل مضطرة إلى الامتناع عن القيام بخطوات عقابية اقتصادية قد تؤدي إلى مفاقمة الضائقة الاقتصادية، وإلى المزيد من التآكل في استعداد الأجهزة الأمنية الفلسطينية للتعاون، وستزيد في حدة مشاعر الاستياء لدى الناس وخصوصاً وسط جيل الشباب. وبموازاة ذلك، يجب على إسرائيل تجنُّب القيام بخطوات أحادية الجانب يمكن أن تغيّر الواقع على الأرض، وخصوصاً بشأن كل ما له علاقة بفرض السيادة على مناطق في الضفة الغربية، والموافقة على بؤر غير قانونية، وتغيير الوضع القائم (الستاتيكو) في الأماكن المقدسة في القدس.
وتطرقت الورقة إلى حركة حماس فقالت إن ما يجب على الحكومة الجديدة القيام به هو كبح تعاظُم قوتها مع المحافظة على التهدئة. وجاء فيها: تستغل حماس الهدوء النسبي في قطاع غزة والتسهيلات المدنية الواسعة النطاق من أجل ترسيخ قوة حُكمها العسكري وتحسين استعداداتها قبيل سيطرتها على المنظومة الفلسطينية كلها بعد ترك الرئيس محمود عباس مهمات منصبه. هذا بالإضافة إلى الدفع قدماً بـ"الإرهاب" والتحريض من داخل القطاع، إلى جانب إقامة وتشغيل بنية تحتية عسكرية في الضفة الغربية. وفي مواجهة هذا كله، تؤكد الورقة أنه يتعين على إسرائيل انتهاج سياسة تحافظ على التهدئة من جهة، ومن جهة ثانية، تزيد الردع ضد قيادة حماس، وذلك من خلال وضع شروط واضحة لاستمرار تقديم التسهيلات الاقتصادية في مقابل لجم مساعي "الإرهاب" والتحريض.
وتحت عنوان "المحافظة على العلاقات مع دول السلام والتطبيع"، جاء في الورقة: إن منظومة العلاقات مع العالم العربي هي من المكونات الحيوية في قوة إسرائيل السياسية والأمنية. والحكومة الجديدة مضطرة إلى أن تفهم أن الدفع قدماً بالعلاقات مع هذه الدول مرتبط بصورة مباشرة بالقضية الفلسطينية. بناءً على ذلك، ما دام لم يحدث أيّ تقدّم سياسي إزاء السلطة، وبالتأكيد إذا حدث تصعيد على الأرض، فإن إسرائيل ستصطدم بسقف زجاجي فيما يتعلق بتعميق التعاون، وخصوصاً في المجالات المدنية العلنية. وهناك أهمية خاصة للعلاقات مع الأردن الذي يشكل دعامة مهمة للغاية، وأيّ ضرر يلحق بهذه العلاقات سيؤدي إلى تقويض المجال الأمني الاستراتيجي لدولة إسرائيل. لدى الأردن حساسية كبيرة حيال كل ما له علاقة بالتطورات في الضفة الغربية والخطوات الإسرائيلية في القدس، والتي يمكن أن تقود إلى تصعيد وتؤدي إلى المسّ بالمكانة الخاصة للأردن في الأماكن المقدسة، وفي سيناريو أقصى، يمكن أن تشكل تهديداً للاستقرار الداخلي في المملكة. بناءً على ذلك، يجب على الحكومة الجديدة الامتناع عن خطوات أحادية الجانب حيال الفلسطينيين تفاجئ الملك وتشكل تحدياً له، وخصوصاً في القدس، والعمل على بناء علاقات تقوم على الثقة بين قيادتيْ البلدين وتخطّي رواسب الماضي.
وتطرق الباحثون إلى "التهديد الإيراني"، فكتبوا: "إن التهديد الإيراني لإسرائيل يزداد ويتعاظم على مختلف الصعد كما يتمثل في الدفع قدماً بالبرنامج النووي؛ مواصلة مراكمة مواد مخصبة على درجة 60%؛ تحسين القدرة الهجومية في مجال المسيّرات والصواريخ؛ تعميق العلاقات الأمنية مع روسيا؛ تقديم مساعدة كثيفة لحزب الله؛ الجرأة المتزايدة في مهاجمة مدنيين وأهداف إسرائيلية في أنحاء العالم. ونافذة الفرص لكبح إيران تنغلق. في ضوء ذلك، على الحكومة الجديدة العمل منذ بداية الطريق على بناء قدرة عسكرية لمواجهة الخطر المتزايد، إلى جانب تعميق التنسيق والتعاون الأمني مع الولايات المتحدة، المهم والحيوي، من أجل التوصل إلى ردّ شامل على التحدي. وإلى جانب ذلك، يتعين على إسرائيل الاستمرار في تعميق تعاونها الأمني مع دول الخليج، والدفع قدماً بخطط لزيادة الضغوط على النظام الإيراني من الداخل والخارج".
وتحت عنوان "الحساسية حيال الإدارة الأميركية"، جاء في الورقة: أثار شكل وتركيبة الحكومة الجديدة مخاوف كثيرة لدى الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة وإزاء السياسة التي ستنتهجها حيال مسائل تتعلق بحقوق الإنسان والأقليات، والمنظومة القضائية والفلسطينيين. وإن نجاح الديمقراطيين في الانتخابات النصفية يمكن أن يشجع الإدارة الأميركية على الدفع قدماً بأجندة ليبرالية – ديمقراطية بقوة أكبر، وبصورة يمكن أن تنعكس على العلاقة مع إسرائيل. لا بديل عن العلاقات الاستراتيجية الخاصة مع الولايات المتحدة، ولا تستطيع إسرائيل أن تسمح لنفسها بالمس، ولو بصورة ضئيلة، بالعلاقات معها، والتي تعتمد إلى حد بعيد على قيم مشتركة بين الدولتين. في ضوء ذلك، على الحكومة أن تُظهر حساسية أكبر لدى صوغ خطوط سياستها، وفي سلوكها، وتقليص عناصر الاحتكاك، وأن تكون حذرة، وألا تنجرّ إلى مواجهات علنية مع الإدارة الأميركية يمكن أن يستغلها الجمهوريون من أجل النيل من الديمقراطيين. وضمن هذا الإطار، نوصي الحكومة باستخلاص الدروس من الماضي، والعمل على الدفع قدماً بالعلاقات مع كل مكونات الطيف السياسي في الولايات المتحدة. ويجب أن تتجنب الحكومة اتخاذ قرارات يمكن أن تُفسّر لدى أوساط يهودية واسعة في الولايات المتحدة بأنها قرارات تمييزية وتمس بحقوقهم، وهو ما قد يؤدي إلى المزيد من التآكل في دعم الحزب الديمقراطي لإسرائيل والذي شهد في الأعوام الأخيرة تراجعاً تدريجياً، وخصوصاً وسط جيل الشباب".
كما دعا الباحثون إلى المحافظة على السياسة الحذرة في مواجهة روسيا، وكتبوا في هذا الشأن: من بين القضايا المشحونة في السياسة الخارجية الإسرائيلية مسألة تأييد أوكرانيا، وبالأساس تزويدها بمنظومات دفاعية (دفاع جوي). وفي ضوء تعقيد العلاقات مع روسيا، وخصوصاً في مواجهة قدرة روسيا على إلحاق الأذى بمجموعة مصالح إسرائيلية في المنطقة، وفي طليعتها الحفاظ على حرية العمل في الساحة السورية والخوف على أمن يهود روسيا، وتحديداً على خلفية تعزيز التعاون الأمني بين روسيا وإيران، يجب على إسرائيل أن تكون حذرة أكثر، وألاّ تقوم بخطوات يمكن أن تثير معارضة في موسكو وتساعد إيران. في ضوء هذا كله، نوصي الحكومة الجديدة بالامتناع عن تزويد أوكرانيا بمنظومات دفاع جوي، أو منظومات سلاح أُخرى. في المقابل، يتعين على إسرائيل مواصلة تأييدها العلني لأوكرانيا، وإدانة جرائم الحرب التي ارتكبتها روسيا، والدفع قدماً بالتعاون مع كييف بصورة مباشرة، أو من خلال طرف ثالث".
وتطرّق الباحثون إلى الساحة الإسرائيلية الداخلية وأشاروا إلى أنه سيكون على الحكومة الجديدة العمل من أجل رأب التصدعات والبحث في العمق في التحديات التي يواجهها المجتمع والاقتصاد في الدولة، وخصوصاً بشأن كل ما له علاقة بغلاء المعيشة وأسعار الشقق ومنظومتيْ التعليم والصحة. من دون معالجة جذور هذه المشكلات، سيكون من الصعب على الحكومة مواجهة التحديات الاستراتيجية التي تُزَج بها بنجاح. كما يجب إيلاء اهتمام خاص للمحافظة على استقلالية القضاء الذي يؤدي دوراً جوهرياً في قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها في مواجهة مساعي نزع الشرعية عنها والتحديات القانونية المتزايدة في الساحة الدولية وفي طليعتها محكمة لاهاي ولجان التحقيق المختلفة.
وخلصت ورقة الباحثين في "معهد السياسات والاستراتيجيا" في جامعة رايخمان إلى أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة ستتولى مهمات منصبها في فترة يمكن نعتها بأن "كل شيء مرتبط بكل شيء"، وبعكس الأعوام الأخيرة، فإن زعزعة منظومة العلاقات مع الفلسطينيين يمكن أن تنعكس على العلاقات الحميمة مع الولايات المتحدة، وعلى التعاون الخاص مع دول الخليج. ومثل هذا التطور، سيؤثر في نوعية الرد على مجموعة واسعة من قضايا الأمن القومي، وفي طليعتها المواجهة مع إيران.
وفي مواجهة العاصفة الاستراتيجية التي تقترب بقوة، شدّدت الورقة على أنه يجب على الحكومة الإسرائيلية الجديدة إظهار حكمة سياسية وأمنية، والامتناع عن القيام بخطوات أحادية الجانب تُعتبر أنها تزعزع الاستقرار (بما في ذلك في الضفة الغربية) وتُلحق الأذى بحقوق الإنسان، كما أن عليها المحافظة، بأيّ ثمن، على الحلف الاستراتيجي العميق مع الولايات المتحدة، وعلى العلاقات مع العالم العربي.
النشاط الفلسطيني في الساحة الدولية
في سياق متصل أكدت ورقة تقدير موقف أخرى صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، لدى تطرقها إلى مستقبل العلاقة بين الحكومة الإسرائيلية الجديدة المتوقعة والفلسطينيين، أنه في هذه اللحظة من الممكن للبعد الشعبي أن يعود ويجري التعبير عنه بصورة ملموسة، وهو ما سيؤدي إلى انشغال إعلامي ودولي مستمر.
وأشير في الورقة نفسها إلى أن السلطة الفلسطينية بدأت فعلاً بالعمل في هذا المسار. وثمة خطوات شبيهة مخططة منذ وقت من طرف السلطة، ومن الممكن أن يسرّعها تأليف الحكومة الجديدة في إسرائيل. كما أشير إلى أن الساحة الدولية ستكون مركز النضال الفلسطيني المقبل ضد إسرائيل، وفي هذه المرة ستزداد احتمالات النجاح في الحصول على دعم دولي واسع، حتى من طرف الولايات المتحدة إذا ما قامت قيادات "الصهيونية الدينية" بتطبيق نياتها. أو سيكون النضال في الضفة الغربية ذا طابع احتجاجي أكثر وجماهيري أكثر، كما أن إمكانية المصالحة الداخلية الفلسطينية ستكون واقعية أكثر مما هي عليه حتى الآن.
وخلصت الورقة إلى القول: سيكون من الجيد أن تقوم الحكومة الإسرائيلية الجديدة بتعريف أهداف علاقتها مع الفلسطينيين، وأن تبحث في القضايا التي تثير المخاوف في الجانب الفلسطيني، وتفحص ما يمكن لأعضائها الدفع به قدماً من بين الأمور التي صرّحوا بها خلال الانتخابات، وما يجب تأجيله، وثمن كل خطوة. كما سيكون من الجيد أيضاً اتخاذ خطوات تهدئة وحوار، حيث ستكون لهذه الخطوات فائدة. كذلك فإن التطوير في مجاليْ البنى التحتية والاقتصاد يمكن أن يساعد أيضاً، إذا ما امتنعت الحكومة عن التصريحات التي يمكن تفسيرها بأنها تغلق الطريق أمام الحل السياسي.