في تشرين الأول 2021، بادر ألموغ كوهين، وهو منسق حزب "عوتسما يهوديت" في منطقة النقب (جنوب إسرائيل)، إلى إقامة ميليشيا مسلحة بهدف "حماية سكان الجنوب من الجريمة المستفحلة". وفي آذار 2022، تم إطلاق الميليشيا في حفل كبير جرى في بئر السبع حيث أطلق عليها اسم "دورية بارئيل". وبارئيل هو الاسم الأول للجندي الإسرائيلي الذي قتل بعد إصابته في الرأس من مسافة صفر على الحدود مع قطاع غزة، العام السابق. قبل أيام معدودة، قام أعضاء من الحزب نفسه، "عوتسما يهوديت"، بإعلان نيتهم إقامة ميليشيا أخرى في منطقة بات يام المحاذية ليافا. هذه المقالة تستعرض هذا النوع الجديد من الإرهاب المنظم الذي يأخذ شكل "قوة شرطية مدنية"، ولا يدعو المدنيين إلى حمل السلاح واستخدامه وحسب، بل وأيضا، وهذا الأهم والأخطر، يتيح للمدنيين المسلحين إمكانية التنظيم في هيكليات.
هناك تحولان اثنان لا بد من ملاحظتهما في ما يتعلق بالقوات الشرطية المدنية. أولا، أن من يبادر لهذه القوات هم ناشطون وأعضاء تنظيميون تابعون لحزب "عوتسما يهوديت" الذي يترأسه إيتمار بن غفير. هذا الحزب هو الصيغة المحدثة لحزب "كاخ" المحظور إسرائيليا وعالميا. التحول هنا يكمن في انتقال أتباع الحاخام مئير كهانا الإرهابي من كونهم محظورين ومحاربين اجتماعيا ومؤسساتيا داخل إسرائيل (في بداية التسعينيات) إلى كونهم مقبولين وقادرين على تجسيد أفكارهم المتطرفة والعنيفة من خلال مبادرات. التحول الثاني يكمن في أن هذه المبادرات التي يطلقها حزب صهيوني ديني متطرف باتت تلقى قبولا لدى شرائح واسعة في المجتمع الإسرائيلي. فقوة "دورية بارئيل" التي أقيمت في بئر السبع لحماية كل سكان النقب، لاقت استحسانا ودعما من قبل بلدية بئر السبع، ومعظم المجالس المحلية، بالإضافة إلى قيادة الشرطة الإسرائيلية في منطقة الجنوب. إضافة إلى ذلك، بعد الإعلان عن إقامة "دورية بارئيل" بأيام معدودات، وصل عدد المتطوعين فيها إلى نحو 300 شخص.
يدعى القائمون على "دورية بارئيل" بأن السبب الأساس في إقامتها هو انعدام "الأمان" ونقص في تطبيق القانون في منطقة النقب. وبالتحديد، هناك تصاعد في تحصيل الخاوات (أو ما يسمى "بروتكشن")، تجارة المخدرات، الاعتداءات، وعمليات المقاومة. هنا تقوم "دورية بارئيل" بالجمع ما بين الجريمة المنظمة وما بين أعمال المقاومة، على اعتبار أن الأمرين هما عنف منظم من قبل السكان العرب، أو الفلسطينيين، وهو عنف يقض مضجع الإسرائيلي ووجب محاربته. وبينما أن انعدام "الأمان" والنقص في تطبيق القانون في النقب هما أمران صحيحان وواضحان، إلا أن القائمين على تشكيل هذه القوة الشرطية المدنية لم يفضلوا القيام بحملة لحث الشرطة الإسرائيلية على زيادة قواتها في المنطقة، أو رفع ميزانيتها، ولم يتوجهوا إلى نوابهم في الكنيست لإيجاد حل لمشاكل النقب، بل إنهم وجدوا في الأمر فرصة سانحة لإقامة ميليشيا مسلحة من المدنيين، بحيث أن الميليشيا ستكون قوة مستقلة، غير تابعة للشرطة الرسمية.
"دورية بارئيل" تحتوي على ثلاث كتائب هي: 1) كتيبة النخبة والتي ستخضع لتدريبات متقدمة تتعلق بمكافحة "الإرهاب"، 2) كتيبة التجول، وهي التي تتجول بشكل اعتيادي في الشوارع ولديها صلاحيات إطلاق نار، 3) كتيبة التكنولوجيا، وهي كتيبة غير قتالية وظيفتها إدارة كل شيء "من الأعلى". وعلى موقع "دورية بارئيل"، يذكر القائمون عليها أنها تختلف كليا عما يسمى "الحرس المدني". فالحرس المدني هم أشخاص مدنيون يحملون السلاح ويتطوعون لمساندة الشرطة الرسمية، لكنهم لا يستطيعون العمل لوحدهم ويشترط أن يرافقهم عناصر شرطة بزي رسمي ليضفي على عملهم التطوعي شرعية. أما "دورية بارئيل" فهي عبارة عن قوة شرطية مدنية مستقلة لا تتبع لأي مؤسسة رسمية، وقادرة على فرض عنفها على الشارع بدون أخذ الإذن من مؤسسات الدولة. وبينما أن القائمين عليها يصرون على أنهم غير تابعين لأي حزب سياسي، أو توجه أيديولوجي، إلا أنهم في الواقع مدعومون بشكل مباشر وواضح من قبل عناصر متطرفة جدا في تيار الصهيونية الدينية والكهانية الإرهابية.
وكان واضحاً أن إقامة "دورية بارئيل" تأتي لمواجهة الفلسطينيين تحديداً وليس لمواجهة الجريمة وإيجاد حلّ لانعدام الأمان. وقد توجه كوهين، الذي بادر إلى إقامة الميليشيا، إلى المتطوعين في "دورية بارئيل" وقال: "عندما تكون حياتك في خطر، أي عندما تكون أنت فقط في مواجهة الإرهابي، فأنت تصبح الشرطي والقاضي والجلاد... عندما تكون حياتك في خطر، اقتل، الأمر بسيط وسهل". وبينما تحججت الميليشيا بوجود جريمة منظمة في منطقة النقب فإن تدريباتها، وتصريحات القائمين عليها، تدل بشكل واضح على أنها جاءت لتشكيل قوة مسلحة صهيونية لمواجهة الفلسطينيين. وقد دانت لجنة التوجيه العليا في منطقة النقب هذه الميليشيا واعتبرتها "قوة مسلحة يمينية متطرفة وفاشية عنصرية من شأنها أن تشعل النقب بأكمله"!
اليوم، يحاول حزب بن غفير نقل التجربة إلى منطقة بات يام في وسط إسرائيل. واختيار هذه المنطقة لم يكن صدفة. فخلال أيام الحرب مع غزة في العام 2021، وتصاعد المواجهات في مدن الداخل، تم التنكيل بشاب فلسطيني اسمه سعيد موسى، ثم وقعت عدة حوادث عنف بين اليهود والعرب ما في ذلك هجوم عنيف على اثنين من سكان يافا كانا في منطقة بات يام. وبينما تعتبر بات يام معقلاً لليمين المتطرف، فإن سكانها مستاؤون بشدة من تواجد العرب في مناطق الترفيه في أرجاء المدينة. وفي تدوينة على موقع "فيسبوك"، كتب المبادرون إلى إقامة الميليشيا في بات يام بأن "الخطر العربي بات واضحا"، وأنه "يجب القيام بشيء ما لاستعادة الأمن".
من المتوقع أن تنتشر هذا الميليشيات في السنوات القادمة، سيما وأن ممثلي "الصهيونية الدينية" يعتبرون ثاني أكبر حزب في الائتلاف القادم. لكن هذا لا يعني أن الصهيونية الدينية المتطرفة هي فقط من يدعو إلى إقامة ميليشيات مدنية، رغم أن المبادرات تأتي من بين أعضائها حتى الآن، بل إن هناك حالة عامة إسرائيلية تميل إلى تسليح المدنيين. ففي نيسان 2022، وبعد أن قام الشهيد رعد خازم بالفرار من موقع العملية، دخلت مدينة تل أبيب في حالة رعب حيث خرج المئات من سكانها إلى الشوارع يحملون مسدسات في محاولة ارتجالية لتشكيل قوة مسلحة مدنية. فالمجتمع الإسرائيلي بطبعه هو مجتمع عنيف و"متعسكر" باستمرار. وفي حركات الشبيبة (في سن المراهقة) يتدرب الشبان والشابات على حماية أنفسهم، ثم يخدم الجميع (في سن 18) في الجيش الإسرائيلي، ثم يظل معظمهم في قوات الاحتياط ويمكن استدعاؤهم في أية لحظة.