تقدير موقف

تقرأ وتحلل قضايا مستجدة وتستشرف آثارها وتداعياتها سواء على المشهد الإسرائيلي او على القضية الفلسطينية.
  • تقدير موقف
  • 5519
  • انطوان شلحت

تعالج هذه الورقة مسألة قانون تجنيد الشبان اليهود المتزمتين دينياً (الحريديم)، والذي من المتوقع أن يُعرض للنقاش في دورة الكنيست الحالية، حيث تعتبر الأحزاب المتدينة الحريدية هذا القانون هاماً لها في سلسلة إنجازاتها السياسية في الحكومة من جهة، وبالنسبة إلى مستقبل وجودها في الائتلاف الحكومي من جهة ثانية. وتعتبر الأحزاب الحريدية قانون

التجنيد في صيغته الحالية، التي ستطرح في الفترة القادمة للتصويت عليها في الكنيست، قانونا لا يتجاوب مع مطالبها ولا يختلف عن القانون السابق المسمى "قانون المساواة في تقاسم العبء". وفي نفس الوقت فإن أحزاب الحكومة الحالية، لا سيما الأحزاب المعارضة لمطالب الأحزاب الحريدية، تؤكد أن سن قانون يتجاوب مع مطالب الأحزاب الحريدية سوق يضعفها أمام جمهور ناخبيها، ويظهرها بأنها قابلة للابتزاز من طرف الأحزاب الدينية، مما سوف يؤدي إلى تراجع شعبيتها لصالح أحزاب أخرى في المعارضة، مثل حزب "يوجد مستقبل" الذي يتبنى أجندة علمانية، أو أحزاب ناشئة جديدة.

خلفية

شكلت مسألة تجنيد الشبان المتدينين الحريديم للجيش الإسرائيلي إحدى المسائل التي تلعب دوراً بارزاً في الصراع بين هذه المجموعة ومجموعة الأغلبية اليهودية غير المتدينة، وكذلك في الصراع بينها وبين الصهيونية الدينية، التي يتجند شبانها في صفوف الجيش. وقد كانت في الماضي عدة محاولات تشريعية وتسويات سياسية عديدة للوصول إلى صيغة للتعامل مع هذه المسألة. وبعيد إقامة دولة إسرائيل توصل رئيس الحكومة حينها دافيد بن غوريون إلى تسوية مع المتدينين الحريديم، في تشرين الأول عام 1948، تقضي بإعفائهم من التجنيد، ليستمروا في دراستهم في المدارس الدينية (ييشيفوت)، وكان عدد الطلاب المتدينين الحريديم في ذلك الوقت يصل إلى حوالي 400 طالب. في هذا السياق يمكن القول إن بن غوريون اتخذ قرار إعفاء المتدينين من الخدمة في الجيش لأربعة أهداف مركزية:

الأول، تخفيف حدّة التوتر الذي كان يمكن أن يتصاعد في الدولة الجديدة، بينما هي في أمسّ الحاجة إلى تأسيس مرحلة بناء الأمة بهدوء.

الثاني، لم يكن أعداد طلاب المدارس الدينية كبيرا، وعدم تجنيدهم كان يُعدّ ثمناً يمكن دفعه بالنسبة لبين غوريون من أجل الحفاظ على حالة الهدوء المجتمعي القائم.
ثالثا، كان بن غوريون يعتقد بأن إسرائيل والمجتمع اليهودي سيتطوران في اتجاه تحييد الدين عن المجال العمومي ومن ثمّ اختفاء تأثيره، حيث أن أعداد الحريديم سيظل قليلاً، ويتضاءل بمرور الوقت.

رابعا، كسب شرعية إسرائيل كمركز لليهودية الأرثوذكسية بعد تدمير المراكز اليهودية التقليدية في أعقاب الهولوكوست.
غير أن توقعات بن غوريون الأربعة ذهبت أدراج الرياح، ولعلّ أهمها التوقع بشأن عدد طلاب المدارس اليهودية المتزمتة، الذي أخذ بالازدياد، وباتوا يستغلون هذه التسوية لإعفائهم من الخدمة العسكرية. كما أن النفوذ السياسي للأحزاب المتدينة والحريديّة زاد في الحكومات وبات ينظر لأفرادها بأنهم يحصلون على حقوق وامتيازات بسبب نفوذهم السياسي من دون أن يشاركوا في الخدمة العسكرية. وأمسى موضوع تجنيد الطلاب اليهود المتدينين مطلبا من مطالب عدة أحزاب غير دينية، لدوافع سياسية انتخابية ولدوافع أيديولوجية. على أي حال، استمر الوضع القائم الذي أوجده بن غوريون حتى عام 1998، حيث أصدرت المحكمة العليا قراراً يقضي بأن ازدياد عدد المتدينين الذين يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية بناء على التسوية السابقة يستلزم آلية عمل جديدة من خلال تشريع قانوني جديد ينظم هذه المسألة.

وفعلا في العام 2002 سنّ الكنيست قانونا، اشتهر باسم "قانون طال"، على اسم رئيس لجنة خاصة أقيمت بهذا الصدد برئاسة قاضي المحكمة العليا المتقاعد حينذاك، تسفي طال. وقد تم تحديد مدة القانون لخمس سنوات، وبحسب هذا القانون فإن وزير الدفاع مُخوّل بتأجيل الخدمة العسكرية لطلاب المدارس الدينية لمدة أربع سنوات، وبعدها في السنة الخامسة فإن الوزير مخوّل بتحديد حاجة الجيش إلى عدد معين منهم للجيش أو للخدمة المدنية، أو بالاستمرار في إعفائهم من الخدمة. وقد اشترط التأجيل بشروط حددها القانون. وفي العام 2007 مدّد الكنيست القانون لمدة خمس سنوات إضافية. وفي العام 2012 وقبل نفاد مدة القانون وبعد توجهات مؤسسات حقوقية إلى المحكمة العليا، أقرت هذه المحكمة للحكومة بعدم جواز تجديد القانون لخمس سنوات إضافية. وظل هذا الموضوع محل مد وجزر ونقاش في حكومة نتنياهو الثانية، وفي حكومته الثالثة (2013-2015)، التي شارك فيها حزب "يوجد مستقبل" برئاسة عضو الكنيست يائير لبيد واستبعدت الأحزاب المتدينة الحريدية من الائتلاف الحكومي، قامت الحكومة عام 2014 بسن قانون "المساواة في تقاسم العبء" وهو فعليا تعديل لقانون الأمن عام 1986. وكان هدفه الأساس زيادة عدد الطلاب المتدينين الذين يتجندون للجيش، وبعدها دمجهم في سوق العمل الإسرائيلية. وقد أشار التعديل إلى أنه في حالة رفض الجمهور الحريدي توفير عدد من المتجندين للجيش في العام 2017 يصل إلى 5200 طالب، فإن الحكومة سوف تتعامل مع الجمهور الحريدي بنفس أدوات التعامل مع رافضي الخدمة العسكرية لدى المجموعات الأخرى وتفرض عليهم عقوبات مالية وإدانات جنائية، بينما إذا وفرّ الجمهور الحريدي هذا العدد الكافي فإن الحكومة سوف تقوم بإعفاء الباقين من الخدمة العسكرية بعد تأجيل خدمتهم إلى سنّ 26 عاماً.

ومع تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، حكومة نتنياهو الرابعة، في أعقاب الانتخابات الإسرائيلية العامة التي جرت عام 2015، ودخول الأحزاب المتدينة إلى الحكومة وخروج حزب "يوجد مستقبل"، وبسبب تبعية الحكومة للأحزاب الحريدية، تم إلغاء التعديل الذي قامت به الحكومة السابقة، وجرى سن قانون جديد يتيح تأجيل تجنيد المتدينين حتى العام 2023، إلا إنّ المحكمة العليا قامت بإلغاء هذا القانون تحت ادعاء أنه لا يحقق المساواة بين المفروض عليهم التجنيد. 

وأثار إلغاء القانون غضب الأحزاب الحريدية على المحكمة العليا، وأعاد النقاش من جديد إلى سؤال تجنيد المتدينين، حيث تطالب الأحزاب المتدينة مرة أخرى بسن قانون جديد مُعدل يتلاءم مع طلباتها، بينما تطالب الأحزاب الأخرى لا سيما حزب "إسرائيل بيتنا" برئاسة أفيغدور ليبرمان، الذي يشغل منصب وزير الدفاع، بسن قانون لا يتجاوب مع ما تطلبه الأحزاب المتدينة، الأمر الذي من شأنه أن يهدد بقاء واستمرار الحكومة الحالية.

النقاش الراهن على القانون

بعد الفراغ الذي وُجد في أعقاب إلغاء القانون القديم، يدور نقاش داخل الائتلاف الحكومي وخارجه حول سن قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية. وفي خضم هذا النقاش تطالب الأحزاب الحريدية بسن قانون يتجاوب مع توجهاتها من الموضوع، بينما تطالب أحزاب أخرى بسن قانون يتلاءم مع احتياجات الجيش، حيث أعلن ليبرمان أن القانون الجديد يجب أن يتم بناء على توصية الجيش وليس بموجب توصية الأحزاب الدينية. في البداية، وتحديدا في آذار 2018، هددت الأحزاب الحريدية بأنها لن تصوت على ميزانية الدولة إذا لم يتم سن قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية، وكانت الحكومة على شفا السقوط من جراء هذا القرار، حيث بعث حزب الليكود برسالة إلى الأحزاب الحريدية بأن اصرارها على سن القانون في ذلك الوقت قبل اكتمال النقاش حوله سيؤدي إلى تقديم الانتخابات. وبالرغم من أن هنالك ادعاء مفاده أن تهديد الأحزاب المتدينة لم يكن جديا، فقد تم التوصل إلى تسوية بتأجيل سن القانون حتى اكتمال النقاش حوله، وهذا ما حدث، الأمر الذي بيّن هشاشة تهديد الأحزاب الحريدية، والتي عادت هذه الأيام للتلويح بتهديد أكثر وضوحا بأنه في حالة عدم سن قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية فإنها سوف تنسحب من الحكومة مما يعني إسقاطها. على أي حال، قامت الحكومة وتحديدا وزير الدفاع ليبرمان بصياغة اقتراح قانون بناء على توصية لجنة عينها ليبرمان داخل الجيش، وشكلت توصيات اللجنة أساس القانون الذي سوف يتم طرحه في الكنيست قريباً.

يتضمن القانون الجديد الذي تنوي الحكومة طرحه للتصويت عليه بالقراءة الأولى، وثمة توقعات بأن يكون ذلك في بداية الأسبوع القادم، زيادة عدد المتجندين المتدينين للجيش بشكل تدريجي، بحيث يشمل إعطاء امتيازات لهم، بينما سيتم فرض غرامات اقتصادية على الذين يتخلفون عن التجنيد، وإلغاء العقوبات الجنائية التي كانت موجودة في القانون السابق. وقد صرح رئيس الحكومة نتنياهو بأنه بعد إقرار القانون في القراءة التمهيدية سوف يعقد اجتماعاً لكل مركبات الائتلاف الحكومي لنقاش القانون والوصول إلى تسوية بصدده. ومن المتوقع أن تصوت الأحزاب الحريدية (المنضوية ضمن تحالف يهدوت هتوراه وضمن شاس) ضد القانون، بينما يتوقع أن يصوت حزب "يوجد مستقبل" من المعارضة مع القانون، لا سيما وأن الحزب أعلن أن صيغة القانون الجديدة لا تختلف كثيراً عن صيغة قانون "المساواة في تقاسم العبء" السابق الذي سنته الحكومة السابقة عندما كان الحزب عضواً في الائتلاف الحكومي، وكان رئيسه لبيد يتولى منصب وزير المالية. وبغية إقرار القانون في الأسبوع القادم طلب نتنياهو من جميع الوزراء إلغاء رحلاتهم إلى خارج البلاد للتصويت على القانون.

وقد ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن الأحزاب الحريدية ستحاول إسقاط القانون بصيغته الحالية، وأنها من أجل ذلك توصلت إلى تسوية مع القائمة المشتركة، بحيث تصوت هذه الأخيرة ضد القانون، بينما تصوت الأحزاب الحريدية ضد قانون منع رفع الآذان. 

خاتمة والسيناريوهات الممكنة للأزمة

يشكل النقاش حول قانون التجنيد أو الإعفاء من الخدمة العسكرية فرصة تاريخية لدى الأحزاب الحريدية لسن قانون يتجاوب مع توجهاتها ومطالبها، لا سيما وأن الحكومة الحالية متعلقة في بقائها باستمرار وجود تلك الأحزاب في الائتلاف الحكومي. وعلى ما يبدو فإن الأحزاب الحريدية، وبعد فشل تهديدها السابق فيما يتعلق بهذا القانون عشية إقرار ميزانية الدولة، لن تستطيع التراجع عن تهديدها بالانسحاب من الحكومة إذا لم يسن قانون يتجاوب مع مطالبها، بينما يرى حزب وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، "إسرائيل بيتنا"، والأحزاب الأخرى ومنها الليكود أن التجاوب مع مطالب الأحزاب المتدينة بشكل كامل سوف يضعفها أمام جمهورها، لا سيما جمهور حزب "إسرائيل بيتنا" الروسي، الذي يبغض الجمهور الحريدي المتدين.

وهناك عامل مهم في هذه الأزمة حول قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية هو مصلحة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ففي الأزمة السابقة عشية إقرار الميزانية كانت هناك على ما يبدو رغبة لدى نتنياهو في تصعيد الأزمة والذهاب إلى انتخابات مبكرة، لكن تراجع وزير المالية موشيه كحلون في حينه عن ربط إقرار الميزانية العامة للدولة بسن القانون، والتسوية مع الأحزاب الحريدية، أفشلا هذا التوجه، خاصة وأن نتنياهو في تلك الفترة كان يواجه توصية الشرطة بتقديم لائحة اتهام ضده. ويبقى السؤال هو: ماذا يريد نتنياهو الآن بعد تعزيز شعبيته في الأشهر الأخيرة في أعقاب نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وحربه على إيران في سورية؟.

في تصورنا أن نتنياهو لن يخسر في الحالتين، أي في حالة تفكيك الحكومة والذهاب إلى انتخابات مبكرة، أو في حالة بقاء الحكومة حتى انتهاء مدتها القانونية، حيث أن الخيارين مناسبان له.

بناء على ذلك هناك عدة سيناريوهات للأزمة الحالية حول قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية، أبرزها السيناريوان التاليان:
السيناريو الأول: التوصل إلى تسوية مقبولة بشأن القانون تتجاوب مع مطالب جميع الأحزاب في الائتلاف الحكومي، خاصة وأن غالبيتها ولا سيما حزب "إسرائيل بيتنا" برئاسة ليبرمان غير معنية بالانتخابات، ويريد ليبرمان الاحتفاظ بمنصب وزير الدفاع لأطول مدة ممكنة.

السيناريو الثاني: سنّ قانون يتجاوب مع مطالب الأحزاب المعارضة لمطالب الأحزاب الدينية، وقد يؤدي ذلك إلى انسحاب الأحزاب الحريدية من الائتلاف الحكومي وتقديم موعد الانتخابات، حيث أن هذه الأحزاب وخاصة يهدوت هتوراه، هددت بشكل واضح بأنها سوف تنسحب من الحكومة إذا لم يتم سن قانون يتماشى مع مطالبها.