المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 4311
  • غاليا بونيه

قبل مدة سمعت قصة شخصية من ممثل فلسطيني كان أحد نجوم مسلسل تلفزيوني إسرائيلي رائج قبل سنوات كثيرة. قال هذا الممثل إنه في أحد الأيام أوقفه رجل في الشارع وعانقه بانفعال وتقدير، ومن ثم سأله: "قل لي، كيف تستطيع التحدث بالعربية بهذه الصورة؟". فأجابه الممثل: "ماذا تقصد، أنا عربي!". عندها خفض الرجل عينيه وقال: "أوه خسارة..!". في هذه اللحظة قرر الممثل ألا يعمل في إسرائيل بعد ذلك.

تعالوا نتصور عالما مثاليا يحقق فيه الخطاب العام والبرامج التربوية والاجتماعية التي تحارب العنصرية النجاح. هل كان بمقدور هذا منع الموقف المذكور؟ عندما نتحدث ونربي ضد العنصرية، ماذا نقصد؟ ما هو هذا الشيء السيء الذي يسمى عنصرية ونريد تغييره؟

في موقع وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية كتب بخصوص اليوم العالمي لمحاربة العنصرية (الذي يصادف كل عام في يوم 21 آذار): "في السنوات الأخيرة نشهد ظاهرة متسعة من العنصرية في المجتمع الإسرائيلي، من سماتها علاقات من الكراهية، التمييز، النبذ، والتشهير بمجموعة ما بسبب لون البشرة، الطائفة أو الأصول. إن ظاهرة العنصرية تتناقض مع قيم ديمقراطية كالكرامة والمساواة. كما أنها تتجلى في أحيان كثيرة بمظاهر عنف صعبة". هذا التصريح يعكس التوجه السائد في المجتمع حول "ظاهرة العنصرية" التي يتم تصويرها كما لو أنها ظاهرة خارج حدود المسموح والمقبول والمتبع وتتناقض مع القيم التي يرتكز عليها المجتمع.

ولكن هل تتناقض العنصرية مع قيمنا حقاً؟
إن العنصرية هي تنشئة اجتماعية تموضع الأبيض، وفي إسرائيل اليهودي أيضاً، في رأس الهرم، مثلما يموضع النظام الأبوي الرجل، ومثلما تموضع الغيرية المغاير جنسياً في أسفل الهرم. وإذا ما فحصنا قيم المجتمع بحسب الأدلة، وليس بحسب التصريحات، لوجدنا أنه يحافظ على نظام اجتماعي عنصري واضح بدرجة كبيرة. والثقافة المهيمنة تعزز وتستنسخ هذا النظام بشكل يومي. بالإمكان الوقوف على ذلك من خلال التمعن في معايير الجمال والجودة: من يحصل على تمثيل في الحيز العام، بأية طريقة، ومن يغيب عنه؟ من تُدرّس قصته وتُحكى ومن لا؟ من يحتل مكانا أكبر ومن يتم اقصاءه وإسكاته؟ من لديه الحق بأن يكون فرداً ومن يعتبر دائماً وأبداً ممثلاُ لمجموعة ما؟.

إضافةً إلى ذلك، هناك لدى المجتمع آليات تضمن الحفاظ على النظام الاجتماعي- بواسطة القوانين، الأنظمة، الاجراءات وغيرها- وبالإمكان رؤية نتائج هذه في كل الأجهزة: في التربية (من يحصل على شهادة "بجروت" كاملة ومن لا؟ من ينتسب لمساق التعليم النظري ومن للمهني؟ من يتواجد في الجامعات ومن لا؟)؛ في الصحة (من يعيش أكثر من الآخر؟ من معافى أكثر ومن مريض أكثر؟ من لديه متناولية للخدمات ومن لا؟)؛ في القضاء (من يعاقب بشكل مشدد ومن يحصل على تسهيلات وعلى عفو؟ من يجلس في السجن ومن لا؟)؛ في الشرطة (من يعتقلون بشكل يومي ومن لا يعتقلون؟)؛ في الاسكان (من يسكن أين وبأية ظروف؟)؛ في الاقتصاد (من فقير ومن غني؟)؛ في السياسة (من يسيطر ويقرر في السياسة ومن لا؟) وما إلى ذلك. وإذا ما افترضنا أنه لا توجد من الناحية الجينية ميول طبيعية لدى أية مجموعة للإجرام، المرض وعدم النجاح، بإمكاننا أن نستنتج أن المجتمع خلق هرمية معينة، وأن كل الآليات تعمل بصورة مدمجة لكي تستبقي هذه الهرمية كما هي منعكسة في المعطيات.

جميعنا- سواء كنا نربح أم نخسر من هذه الطريقة- نذوت هذه التنشئة ونستمر في استنساخها واستبقائها غالباً من دون وعي أو قصد بأن هذا ما نقوم به. وعملية التذويت هذه عميقة لدرجة أنها تخلق أحكاما مسبقة تبدو طبيعية للغاية. كما أن المجتمع يوفر لنا مجموعة من التبريرات لوجود هذا النظام الاجتماعي. إن عبارة "هذا متبع في ثقافتكم" هي أكثر تبرير شائع، ولكن هناك تكتيكات أخرى للإنكار واتهام الضحية، ولا تكفي قصص النجاح القليلة لإثبات إنصاف النظام القائم.

بهذه الطرق يكرس المجتمع نظاما اجتماعيا وحدودا تقرر من في الداخل ومن يبقى في الخارج، من في الأعلى ومن في الأسفل. من يشعر بالأمان في مكانه، يستطيع أن يتحدث عن قيم عليا دون أن يخاطر بمكانته ووضعه. أما من يتواجد على الحد بين الداخل والخارج، عليه أحياناً أن يحارب على مكانته، وأن يمسك الحدود بقوة كي يكون في الداخل. هذا الإمساك بالحد ممكن أيضاً أن يكون عنيفاً وفظاً وبشعاً. ولكن إذا ما انشغلنا فقط في شجبه، ولم ننظر إلى من وما يحميه، لن ندحر العنصرية بل سنقوم فقط بتغطيتها.

إن معاينة المشكلة بهذه الطريقة تستدعي تعاملاً مختلفاً للغاية. فهي لا تنشغل في وسم من هو عنصري وما هو التصرف العنصري، ولا بالشجب وبترسيم حدود الخطاب. عوضاً عن ذلك، هي تستدعي استقراء عميقاً وتغييراً عميقاً للنظام الاجتماعي القائم، وتشجع التفكير النقدي الذي يكشف ويتحدى هذا النظام، مكاننا في داخله ومكانه في داخلنا، وتحثنا على أن نتصور كيف يبدو المجتمع غير العنصري، وماذا علينا وباستطاعتنا أن نفعل كي نخلق مجتمعاً من هذا النوع.

الموقف الذي وصفته في مستهل المقال لم ينطو على عمل عنيف أو متطرف، ولا على تمييز فظ. كانت هناك كلمتان فقط وعناق. بحسب التوجه الذي ينظر إلى العنصرية كظاهرة من مظاهر الكراهية، ليس هناك الكثير مما نفعله بهذا الموقف، في حين أن التوجه الذي يرى في العنصرية تنشئة اجتماعية يكشف الكثير وبإمكانه أن يكون نقطة انطلاق خصبة للتعلم والتغيير.
________________
(*) أستاذة جامعية إسرائيلية وزميلة في "مدرسة مندل للقيادة التربوية". المقال عن موقع "هعوكتس" (اللسعة) الإلكتروني.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات