في التاسع عشر من آذار الحالي، استهدف الحرس الثوري الإيراني بالصواريخ "منشأة عسكرية سرية" في قلب أربيل، عاصمة كردستان العراق. وقال الحرس إن الهدف الذي تم قصفه هو عبارة عن "منشأة استخباراتية إسرائيلية" تابعة للموساد الإسرائيلي، وهو ما أكده مسؤول أميركي كبير تم اقتباس أقواله في تغريدة على موقع صحيفة "نيويورك تايمز"، إذ اعترف أن المبنى الذي تم استهدافه هو "مركز تدريب تابع لإسرائيل".
لم يكتف الحرس الثوري الإيراني بالقصف، بل إن التلفزيون الرسمي الإيراني أذاع بيانا تبنى فيه عملية القصف، وأعقبها بتحذير موجه صراحة إلى إسرائيل "بأن الرد في المرة القادمة سيكون مدمرا أكثر"، وفق ما نشر موقع "واينت" في 23 آذار 2022.
جاء استهداف "المنشأة السرية" ردا على مقتل ضابطين من الحرس الثوري الإيراني في غارة نسبت إلى سلاح الجو الإسرائيلي، واستهدفت "برنامجا لتطوير الصواريخ" تشرف عليه إيران في الأراضي السورية، وفقما جاء في بيان الحرس الثوري الإيراني، وهو ما يتقاطع مع تقديرات أمنية إسرائيلية نسبت فيه القصف لما حدث في سورية قبل أسبوع من الرد الإيراني في أربيل وفق موقع "واينت" أو كما نشرت وسائل إعلام إسرائيلية أخرى "بعد أن أطلقت إيران صواريخ بالستية على القاعدة نهاية الأسبوع الماضي، رداً على هجوم إسرائيلي على مخزن إيراني للطائرات المسيرة في كرمانشاه" ما أدى إلى تدمير مئات الطائرات المسيرة، والتي أصبحت تشكل تهديدا جديا لإسرائيل في الآونة الأخيرة.
أما قناة الميادين اللبنانية والمعروفة بقربها من إيران وحزب الله، فاعتبرت أن أسباب القصف الإيراني ضد المنشأة السرية الإسرائيلية في أربيل، تتجاوز الرد على مقتل الضابطين الإيرانيين في سورية، وأن هذا القصف جاء "بعد تحذيرات متكررة من إيران لكردستان من مغبة التعاون مع إسرائيل، كما أنه رسالة للدول التي طبعت علاقاتها مؤخرا وعقدت اتفاقيات مع إسرائيل".
لم يأت التحذير الذي نسبته قناة الميادين اللبنانية لكردستان العراق من فراغ، وهو يؤشر إلى عمق وقدم التعاون والعلاقات السرية بين أجهزة الأمن الإسرائيلية مع كردستان العراق وأثرها استراتيجيا على الصراع الإيراني الإسرائيلي.
تاريخ العلاقات بين كردستان وإسرائيل
يرى الكاتب ريتشارد سيلفرشتاين، المدون المتابع للشأن الإسرائيلي، والذي كشف الكثير من الخفايا والأسرار الأمنية والاستراتيجية، في مقالة له نشرها في "ميدل إيست أي" أن "علاقة إسرائيل الدائمة مع أكراد العراق منحتها ميزة استراتيجية في صراعها مع إيران" وأن هذا منح إسرائيل "نقطة انطلاق لمهاجمة إيران" معتبرا أنه "لا ينبغي أن يفاجأ أحد بما تم الكشف عنه مؤخراً عن وجود قاعدة سرية لإسرائيل في أربيل، عاصمة المنطقة الكردية في العراق" مشددا على أنها تأتي نتيجة "علاقة طويلة الأمد بين إسرائيل وأكراد العراق".
رغم عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية بين إسرائيل وكردستان العراق، إلا أن هذه العلاقة مزدهرة وقائمة منذ منتصف الستينيات، عندما أرسلت إسرائيل العميد تسوري ساغي لإيران الشاه للمساهمة في تعزيز وبناء وتدريب الجيش الكردي (الذي بقي يتمتع بدعم عسكري ولوجيستي إسرائيل حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي)، والدفع باتجاه استقلال كردستان عن العراق.
تؤكد البروفسور والباحثة في مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط، عوفرا بينجو، في دراسة لها نشرها موقع "ميدا" في11/2/2015 أن جذور العلاقة الإسرائيلية الكردية في شمال العراق قامت منذ الخمسينيات من القرن الماضي وبلغت ذروتها في الأعوام 1965-1975 على قاعدة نظرية دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء في دولة إسرائيل، والتي أطلق عليها اسم " نظرية الأطراف" والتي سعت لإقامة علاقات مع أطراف غير عربية في الشرق الأوسط لكسر العزلة عن إسرائيل، وأن الأساس الذي قامت عليه تلك العلاقات، بالإضافة إلى الاعتبارات الإنسانية والتاريخية والأخلاقية، هي قاعدة النظر التي ترى أن "عدو عدوي صديقي"، ذلك أن مصلحة إسرائيل في ذلك الوقت تطلبت إضعاف العراق لضمان عدم قدرته على مهاجمة إسرائيل، بالإضافة إلى كسر العزلة الإقليمية وفتح علاقات مع كيانات ودول غير عربية في المنطقة وخدمة المساعي التي كانت تبذلها إسرائيل في إخراج اليهود العرب من العراق وتلقي معلومات استخباراتية حيوية.
تلقت هذه العلاقة التي لم تقتصر على تدريب الجيش الكردي- "البشمرجة"- وتزويده بالسلاح، بل طالت جوانب اجتماعية وثقافية على غرار فتح مشفى ميداني والمساهمة في طباعة كتب ومناهج دراسية باللغة الكردية، ضربة أدت إلى تراجعها في منتصف السبعينيات من القرن الماضي بعد توقيع اتفاق الجزائر بين العراق وإيران في 6 آذار 1975 بين نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي وبإشراف رئيس الجزائر آنذاك هواري بومدين والذي أدى إلى وقف الدعم الإيراني للأكراد، وتزامن ذلك مع اندلاع حرب اكتوبر بين مصر وسورية من جهة وإسرائيل من جهة أخرى وهو ما أدى إلى خيبة أمل إسرائيلية من عدم تدخل الأكراد لصالحهم ضد الجيش العراقي.
أدت خيبة الأمل الإسرائيلية والتوافق الإيراني العراقي إلى تراجع العلاقة الكردية الإسرائيلية التي لم تتطور لأسباب تتعلق بثلاثة عوامل، وفق البروفسور بينجو، وهي العلاقة التركية الإسرائيلية وحساسية القضية الكردية بالنسبة لتركيا، والموقف الأميركي الذي ارتبط بعلاقات مع أطراف معادية لتطلعات الأكراد، وأخيرا الأكراد أنفسهم.
لم يستمر تراجع العلاقات بين كردستان العراق وإسرائيل طويلا إذ عادت هذه العلاقة وطفت على السطح مجددا بعد اندلاع ثورات الربيع العربي وظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
تجدد العلاقات
الامتحان الأكبر الذي تعرضت له العلاقات الكردية الإسرائيلية كان في العام 1999 عندما ألقت القوات التركية القبض على عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستانيpkk واتهام الأكراد لإسرائيل في التورط في تقديم معلومات للأتراك أدت إلى اعتقاله، وهو ما قاد إلى اندلاع مظاهرات احتجاجية عنيفة أمام السفارة الإسرائيلية في برلين أدت إلى مقتل ثلاثة متظاهرين أكراد.
رغم هذه الهزة إلا أنه من المفيد العودة إلى المدون الشهير ريتشارد سيلفرشتاين، والذي يرى أن "الأهمية الاستراتيجية للأكراد زادت بالنسبة لإسرائيل بعد الثورة الإيرانية العام 1979" ولذا فقد حافظ الموساد الإسرائيلي "على شبكة من الجواسيس في المنطقة الكردية في العراق" وفي العام 2005 ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن القوات الخاصة الإسرائيلية السابقة كانت تدرب القوات الكردية على تقنيات "مكافحة الإرهاب" كما أنه يستشهد بتقرير سيمور هيرش في صحيفة "نيويوركر" في العام 2004 حيث قال: "يعمل عملاء المخابرات والجيش الإسرائيليين الآن بهدوء في كردستان، ويقدمون بتدريب وحدات الكوماندوز الكردية، ويديرون عمليات سرية داخل المناطق الكردية في إيران وسورية" وهو ما يغذي الادعاءات الإيرانية أن "هجمات على أهداف إيرانية قد تم التخطيط لها وتنفيذها من قواعد إسرائيلية، موجودة في أربيل".
في تلك الفترة، لفت الأنظار تصريح لرئيس كردستان العراق، مسعود برزاني، في أثناء زيارة له للكويت في العام 2006 قال فيه ردا على سؤال صحافي "إن اقامة علاقات مع إسرائيل ليست جريمة" وكان قد سبق ذلك حديث متواتر لأكثر من مسؤول إسرائيلي من بينهم أريئيل شارون وشمعون بيريس لمحوا فيه إلى العلاقات الكردية الإسرائيلية.
عادت العلاقات الكردية الإسرائيلية لتتصدر العناوين في أعقاب إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو تأييده لقيام دولة كردستان العراق، وذلك بالتزامن مع إجراء استفتاء للرأي العام في العام 2017 حول استقلال إقليم كردستان عن العراق.
نشر مركز بيغن السادات بحثا حول جدوى تصريحات نتنياهو ودعمه الصريح لاستقلال كردستان في الوقت الذي كانت فيه معظم دول العالم تقف ضد هذا القرار، حيث اعتبر البحث المنشور على موقع المركز في 25/9/2017 أن تصريحات نتنياهو والتي تبعتها تصريحات مؤيدة من وزيرة العدل أييليت شاكيد ومسؤولين آخرين مثل ليبرمان، إلى جانب رفع أعلام إسرائيل مع أعلام كردستان العراق أثناء الاستفتاء، علامة على عمق العلاقة بين البلدين، لكنها "صدرت انطباعا قويا بأن الأكراد خونة" وهو ما أضر بهم في محيطهم العربي والإسلامي، وعزز المخاوف من "ولادة إسرائيل جديدة" شمالي العراق، يقودها "دمية تابعة لإسرائيل"، وهذا ما دفع إلى توحيد مواقف إيران وتركيا والعراق، حيث هدد نائب الرئيس العراقي نوري المالكي بأن بلاده "لن تسمح بإقامة إسرائيل ثانية في العراق" وهو ما تماهى معه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عندما قال "إن الموساد الإسرائيلي هو من يقف خلف الاستفتاء" بينما كررت إيران اتهامها لإسرائيل في محاولات اختراق المنطقة.
سبق ذلك الإعلان، وربما يفسره، ما نشر قبل ذلك بعامين عبر كشف صحافي نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" الاقتصادية في 2015، جاء فيه أن "معظم النفط الإسرائيلي مصدره كردستان العراق، وأن شركات إسرائيلية استوردت تسعة عشر مليون برميل نفط في ثلاثة شهور بقيمة مليار دولار، وهو ما يجعل 75% من النفط الإسرائيلي يعتمد على كردستان العراق، وأن هذا النفط القادم من شمال العراق بيع لإسرائيل بأسعار زهيدة بهدف الاستهلاك والتخزين".
ذكر موقع رويترز وبالاستناد إلى التقرير نفسه، أنه في شهر شباط من العام ذاته أفرغت سفينة مليون برميل نفط في عسقلان.
زمن كردستان
ترى البروفسور عوفرا بينجو أن العوامل الرئيسة الثلاثة التي منعت تطور العلاقات في السابق قد زالت وأن مياها كثيرة جرت في النهر وهو ما يلزم إسرائيل في استغلال هذه اللحظة التاريخية واستكمال بناء علاقتها مع كردستان العراق.
تراجع العامل المتعلق بتركيا وفق بينجو بعد أن دخلت تركيا بنفسها في عملية سلام مع أكراد العراق وتنظيم PKK، وبدل ذلك حولت إسرائيل إلى عدوها اللدود.
يكمن العامل الآخر في انهيار النظامين القوميين في كل من سورية والعراق وملء الفراغ في هاتين الدولتين أو في أجزاء منهما من قبل الإسلاميين والأكراد.
العامل الأخير هو تبدل موقف الولايات المتحدة من العلاقة مع الأكراد، التي لم تعترف بحقهم في تقرير المصير، إلا أنها اضطرت إلى دعمهم لكونهم تحولوا إلى رأس الحربة في مواجهة داعش، وهو ما دفع دول الغرب التي تناهض الحركات الإسلامية المتطرفة إلى دعم الأكراد وخطب ودهم.
ازاء هذه المتغيرات، تخلص بينجو إلى أنه ورغم المعضلات التي قد تنشأ جراء الانحياز العلني للأكراد، إلا أن من مصلحة إسرائيل أن ينتصر الأكراد على داعش وعلى الحركات الإسلامية كونهم موالين للغرب، وعلمانيين، ومعتدلين، ولديهم استقرار وحالة انتعاش أفضل من دول كثيرة قائمة في المنطقة، وهو ما يخلق عاملا معادلا لحالة التطرف والخراب التي تعم المنطقة.
أظهر الأكراد ودا كبيرا لإسرائيل وفق بينجو، وهذا نابع من الشعور بوحدة المصير و"تقاطعات التاريخ" بين الكيانين وكونهما "شعبين صغيرين" لا يحظيان باعتراف بحقهما بالوجود.
على الجانب العملي ترى بينجو أن هناك مكانا للتعاون الاستراتيجي في المجالات الأمنية والتجارية واستيراد النفط.
وبالرغم من كل العوامل التي ذكرت أعلاه توصي الباحثة بالحفاظ على العلاقات في إطارها شبه السري في هذه المرحلة بسبب التعقيدات القانونية والجيوسياسية التي تلف هذه العلاقة كون كردستان ورغم أنها شبه دولة لا زالت تتبع للعراق، وتحيطها إيران وتركيا وأي دعم علني لحقها في تقرير المصير سينعكس على مطالبة دول أخرى بسحب المبدأ نفسه على الفلسطينيين.