المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
من التشييع الحاشد للحاخام حاييم كانييفسكي. (أ.ف.ب)
من التشييع الحاشد للحاخام حاييم كانييفسكي. (أ.ف.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1061
  • وليد حباس

بتاريخ 18 آذار 2022، توفي الحاخام حاييم كانييفسكي. ربما تكون هذه من المرات النادرة إن لم تكن الأولى التي يتعرف فيها الفلسطينيون على هذا الحاخام، الذي اجتمع في جنازته نحو 750 ألف إسرائيلي متدين، أي ما يقارب نحو ثُمن الإسرائيليين اليهود، وهو عدد غير اعتيادي بحيث أن الشرطة الإسرائيلية قدرت أن هذه من أكبر الجنازات في تاريخ دولة إسرائيل بعد جنازة عوفاديا يوسف. هذا قد يعني أن مجتمع الحريديم، الذين كان كانييفسكي يتزعم أحد أهم تياراته (وهو التيار الليتواني)، هو مجتمع ذو وزن اجتماعي مهم داخل إسرائيل لكنه في المقابل يظل مجتمعا غير مكشوف كفاية على الفلسطينيين. السبب ربما يعود إلى أن مجتمعات الحريديم ظلت حتى فترة طويلة تنأى بنفسها عن دهاليز السياسة، ولا تعتبر نفسها تيارات صهيونية بالمعنى القومي الذي يتطلب إزاحة الفلسطينيين لإقامة دولة اليهود السيادية. لكن، منذ ما ينيف عن عقد من الزمن، ثمة انزياح سياسي واضح، وإن كان في بداياته، لدى مجتمعات الحريديم بحيث أنهم يتحولون من مجتمعات خاملة ومنغلقة على دراسة التوراة، إلى مجتمعات فاعلة سياسيا، بل وذات أجندة صهيونية صاعدة لا بد من الانتباه إليها فلسطينيا.

تلقى هذه المقالة الضوء على مجتمعات الحريديم.

يعيش في إسرائيل نحو 1.22 مليون متدين متزمت، أو بالعبرية حريدي. وحسب المؤرخ ميخا غودمان، يمكن فهم الحريديم من خلال أربع صفات تشكل ديدنهم وتميزهم عن دونهم من اليهود الإسرائيليين، وهي:

1. الانغلاق والانعزال عن إسرائيل الحداثية وعن كل العالم الحداثي. ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان التنوير الأوروبي، وروح الحداثة، تجتاح مدن أوروبا وتعد بانتهاء سطوة الثيولوجيا وتبشر بولادة الإنسان المواطن. وبينما رأى مفكرو عصر التنوير في الحداثة "مشروعا خلاصيا" سيحرر الإنسان من ربقة "الظلامية"، فإن حاخامات اليهود الأرثوذكس رأوا في الحداثة كارثة لا بد من مواجهتها وأن الطريقة الوحيدة لإنقاذ اليهودية من الحداثة تكمن في فصل اليهود عن كل السياق التاريخي الأوروبي والحداثي والانغلاق على أنفسهم. وقد تم ذلك من خلال أربعة أمور: الحفاظ على الأسماء اليهودية (معظم الحريديم يستخدمون أسماء يهودية قديمة مثل يحزقيل، حاييم، وتحيا... على سبيل المثال)، والحفاظ على اللغة (وبالتحديد اللغة الييديشية)، والحفاظ على اللباس اليهودي الذي ساد في غيتوهات أوروبا (المعطف الأسود الثقيل، بالإضافة إلى الجرابات البيضاء أو السوداء، والقبعات العريضة التي تنتمي إلى الحياة الاجتماعية والثقافية للقرن السابع عشر). والأمر الأخير هو الانغلاق سكنيا في أحياء خاصة بالحريديم لمنع اختلاطهم اليومي مع باقي المجتمع اليهودي العلماني.

 2. إقامة مجتمع طلبة التوراة: وقد تطور هذه المجتمع بالأساس لدى الجناح الليتواني الذي كان كانييفسكي من كبار حاخاماته. ومجتمع الطلبة الحريدي يختلف عن مدارس تعليم التوراة التي طالما كانت منتشرة لدى اليهود ما قبل عصر التنوير. يكمن الانقلاب الذي أحدثه الحاخامات الأرثوذكس مع بداية عصر التنوير في تحويلهم مدارس التوراة إلى تكتيك لعزل الحريديم عن العالم، وليس لدراسة العالم وفهمه، كما هي الحال لدى العلمانيين. اليوم، هناك نحو 360 ألف طالب حريدي ويشكلون نحو ربع الطلاب اليهود في إسرائيل. ولا بد من الإشارة إلى أن مجتمع الطلبة الحريديم كان يقف، خلال العقود الأولى لتأسيس دولة إسرائيل، على النقيض تماما من المجتمع اليهودي العبري الجديد الذي أسسته الحركة الاستيطانية والذي عمد إلى "خلق" اليهودي الفاعل، المزارع، المشتبك مع الحياة، والذي يحمل البندقية بيد والفأس بيده الثانية. في مقابل هذا اليهودي الجديد، كان مجتمع الحريديم مجتمعا منغلقا، متصومعا في مدارسه لينأى بنفسه عن الاختلاط بتعقيدات الحياة الدنيوية التي قد تهدد طهارة التوراة، وتذيب الشريعة اليهودية في محلول الحداثة. اليوم، لا يمكن أن ننظر إلى إسرائيل باعتبارها منقسمة، وبشكل حاد وواضح، إلى هذين التيارين: الحريدي الذي يتعلم لينعزل عن الحياة، والعلماني الذي يتعلم ليشتبك مع الحياة. بل هناك تيارات ما-بينية استطاعت أن تجمع ما بين التيارين معا، مثل الصهيونية الدينية، خصوصا تياراتها المتزمتة (أو ما يعرف بالحردلية) والتي تنغلق لفترة محددة لدراسة التوراة، قبل أن تنخرط بشكل متشدد في الحياة السياسية والعسكرية الإسرائيلية كمهمة مدفوعة بتعاليم التوراة.

3. الحريديم هم مجتمع لا صهيوني بالأساس. ليس المقصود بذلك أن الحريديم لا ينظرون إلى فلسطين كأرض إسرائيل الموعودة، وإنما المقصود أنهم لا يعتقدون بوجوب العمل البشري الإرادوي لإعادة اليهود إليها. فالخلاص الذي من خلاله يتجمع اليهود في أرض إسرائيل هو فعل رباني، على أن الله هو الذي يختار التوقيت لذلك بعد إرسال المسيح المخلص. إن أحد أهم التصدعات التي ما تزال تعتمل داخل إسرائيل تكمن في هذا الخلاف ما بين الصهيونيين العلمانيين من جهة والمجتمع اليهودي الأرثوذكسي المتزمت أو الحريدي من جهة أخرى، ويتمثل الخلاف في عزوف الأخيرين عن التجنيد في الجيش، أو الانخراط في سوق العمل، أو المساهمة الفاعلة في إدارة شؤون الدولة والعمل في مؤسساتها. وعليه، منذ بداية دولة إسرائيل، يعيش الحريديم بداخلها باعتبارها "أمرا واقعا" ولا يعترفون بشرعيتها من الناحية الدينية. ومع ذلك، فإن حاجة الحريديم إلى مخصصات مالية عالية لإدارة شؤون حياتهم الانعزالية دفعت قادتهم إلى تشكيل أحزاب سياسية والدخول في ائتلافات حكومية لغايات منفعية تتعلق بخصوصية المجتمع الحريدي. وحاليا، ثمة حزبان أساسيان للحريديم يشاركان في الكنيست وهما: شاس للحريديم الشرقيين، ويهدوت هتوراه للحريديم الأشكناز. والأخير هو قائمة انتخابية تضم حزبين متحالفين هما رابطة إسرائيل الحسيدية بزعامة يعقوب ليتسمان، بالإضافة إلى حزب ديغل هتوراة التابع للجناح الليتواني بزعامة موشيه غفني.

 4. الانصياع التام والخضوع لكبار الحاخامات. تمتاز مجتمعات الحريديم بانصياعها التام إلى "كبار التوراة"، أو الحاخام الأعلى الذي يمثل كل تيار أو جناح داخل المجتمع الحريدي. وبشكل عام، هناك تياران للحريديم الأشكناز الأوروبيين داخل إسرائيل. من جهة، هناك التيار الحسيدي، والذي يخضع إلى سلالة عائلية حاكمة تورث الزعامة الحاخامية لحاخامات من داخل العائلة نفسها. من جهة ثانية هناك الحريديم الليتوانيون (نسبة إلى ليتوانيا) والذين يخضعون إلى "كبير توراة" ذي باع طويل في دراسة التوراة ويعتبر المشرع الأعلى فيما يخص شؤون الدين اليهودي. ولا بد من التوضيح أن الحريديم يعيشون في ما يشبه "الحكم الذاتي" الذي يحتوي على هيكلية من الزعامات وتوزيع دقيق للأدوار. في أعلى الهرم، هناك مجلس الحاخامات أو القيادة الروحية التي تمسك السلطة الدينية في يديها وتقرر بكل مناحي الحياة الحريدية. في المرتبة الثانية، هناك السياسيون الذين يتمتعون بمكانة مرموقة بين الحاخامات وبين الجمهور، ولهم الحق في "تفسير" رأي الحاخام في قضايا ليست واضحة بما فيه الكفاية. وتحت السياسيين هناك هرم كبير من الحاخامات الناشطين مجتمعيا والذين يشكلون حلقات وصل بين المجتمع الحريدي وبين مجلس الحاخامات. لكن، وهذا الأهم، للحريديم يوجد أيضا "مجتمع مدني" عريض وشبه منعزل عن باقي مؤسسات المجتمع الاسرائيلي.

 ويشكل التيار الليتواني أحد أبرز تيارات الحريديم في إسرائيل والعالم. والليتوانيون يضمون اليهود المتزمتين الذين سكنوا فيما بات يعرف لاحقا بدولة ليتوانيا، بالإضافة إلى العديد من اليهود الذين كان يعيشون داخل فلسطين (الييشوف القديم) قبل بدء المشروع الاستعماري الإسرائيلي. وعلى الرغم من أن اليهود الليتوانيين، في الوقت الحالي، معروفون بكونهم أحد تيارات الحريدية في إسرائيل، إلا أن هناك العديد من الإسرائيليين العلمانيين الذي يتفاخرون بكونهم ينحدرون من نسل اليهود الليتوانيين، مثل إيهود باراك (رئيس حكومة إسرائيلية سابق) أبا إيبان (وزير خارجية إسرائيلي سابق)، بار رافائيلي (عارضة أزياء شهيرة) وأهارون باراك (رئيس محكمة عليا سابق). ويعتبر الحاخام حاييم كانييفسكي (1928-2022) من أبرز الحاخامات ويحظى بتقدير وسلطة ليس فقط بين أوساط الحريديم الليتوانيين وإنما بين كل المجتمعات الحريدية في إسرائيل. وعلى الرغم من أن كانييفسكي لم يشغل منصبا رسميا في قيادة الليتوانيين، إلا أنه كان يحظى بمكانة رمزية ويعتبر الأب الروحي الأعلى لليتوانيين، وصاحب لقب "أمير التوراة". ولقد أصبح مرجعاً رئيساً في جميع مسائل الشريعة اليهودية حيث قام بتأليف العديد من الكتب حول الكتابات القانونية اليهودية. ومنذ وفاة الحاخام أهارون يهودا شتاينمان (الزعيم الروحي الأسبق لليتوانيين) في 2017، اعتُبر كانييفسكي الزعيم الديني الذي لا يتنازعه أحد على هذا اللقب داخل المجتمع الإسرائيلي الحريدي. وكان من المعروف أن كانييفسكي يدرس التوراة 17 ساعة كل يوم، بحيث أن مجتمع الحريديم لا يتخيل حياته الدينية بدون وجود كانييفسكي كمرجع أعلى.

في ذروة انتشار فيروس كورونا في العام 2020، أمر كانييفسكي بعدم إغلاق المدارس الدينية، وادعى أن إغلاق محافل تعليم التوراة في إسرائيل سيكون له تبعات أكثر خطورة من الفيروس المعدي. ومع أن هذه التصريحات تسببت في تأجيج الخلافات ما بين الإسرائيليين العلمانيين وما بين الإسرائيليين المتزمتين، إلا أن معظم قادة إسرائيل العلمانيين كانوا قد رثوه بعد وفاته معتبرين أنه، كما قال نتنياهو زعيم المعارضة في إسرائيل، أحد أبرز المفكرين المثقفين للمجتمعات المتزمتة في إسرائيل.

ولا بد من التشديد على أن هناك انزياحات بعيدة الأثر هامة تحدث في أساسات المجتمع الحريدي، وهي انزياحات من شأنها ان تحافظ على الطابع المتزمت للحريديم باعتبارهم "مجتمع طلبة توراة"، لكنها في المقابل قد تخرجهم رويدا رويدا من عزلتهم وتقربهم إلى الحياة المدنية التي تتطلب انخراطاً في سوق العمل، والجيش، ومؤسسات الدولة. حاليا، نحو 52% من الرجال الحريديم مصنفون كعاطلين عن العمل. وبحسب أفيغدور ليبرمان، الذي تولى وزارة المالية في حزيران 2021، فإن معدلات البطالة هذه تعتبر أحد أسباب غلاء المعيشة. والهدف الذي يقترح العلمانيون (وعلى رأسهم ليبرمان) الوصول اليه حتى 2030 هو 30% نسبة بطالة بين الرجال الحريديم. بيد أن هذه الهدف يتطلب تفكيك البنية التحتية التي تعيد إنتاج عزلة المتزمتين. في فترة حكم نتنياهو، استطاع الأخير إعادة إنتاج خصوصية الحريديم من خلال توفير مخصصات عالية لهم مقابل ضمهم بشكل استراتيجي كمجتمعات تدور سياسيا في فلك الليكود وتشكل داعماً للحيلولة دون سقوط نتنياهو عن الحكم. هذا يعني أن اليمين الشعبوي الذي قاده نتنياهو كان يستفيد من حالة "العبء" التي يشكلها الحريديم على المجتمع الإسرائيلي من خلال تحويلهم إلى مجرد كتلة وظيفية قادرة على المساهمة في دعم استمرار حكم نتنياهو لقاء مبالغ مالية. أما بعد أن تمت تنحية نتنياهو، فإن الأجندات الإسرائيلية العلمانية تنزع إلى إجراء تغييرات على طبيعة المجتمع الحريدي، وهي تغيرات من غير المتوقع أن تمر بهدوء ودون معارضة واضحة من قبل حاخامات الحريديم. في كل الأحوال، فإن انتقال الحريديم من مجتمع منغلق اجتماعيا وخامل سياسيا إلى مجتمع "مشارك" سيكون من خلال إعادة موضعة الحريديم على يمين الخارطة السياسية في إسرائيل، ليس فقط كجماعات نفعية متحالفة مع اليمين الشعبوي، وانما كتيار يميني فاعل بكل ما يحمل الأمر من تبعات على المشروع الصهيوني والمسألة الفلسطينية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات