"من يدفع ثمن الاحتلال وتأثيرات الاحتلال على الاقتصاد والمجتمع في إسرائيل" هو عنوان بحث صدر في تقرير قبل نحو شهر لمركز "أدفا" الناشط لتوفير معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية. أعد التقرير شلومو سبيرسكي ونوغا داغان- بوزغلو. وتشير الصورة التي يضعها هذا التقرير إلى ان أكثر المتضررين من الاحتلال وتكاليفه الباهظة هم أصحاب المداخيل القليلة من العرب ومن اليهود. جزء من الثمن سببه استخدام الاقتصاد الإسرائيلي قوة عمل فلسطينية رخيصة - وهو ما فتح الباب أيضا أمام استيعاب واستخدام عمال أجانب من مختلف أرجاء العالم. فالاحتلال يمس الاستقرار الاقتصادي ولا يحافظ على نمو طبيعي، إذ تتبدل مؤشرات النمو الاقتصادي بموجب الحالة السياسية – الأمنية شديدة التغيّر، والناجمة عن احتلال المناطق الفلسطينية.
يشير التقرير إلى ان إسرائيل تعرّف كواحدة من الدول المتطورة، وتضعها التقارير وسلالم التدريج الصادرة عن الأمم المتحدة في مكانة متقدمة نسبياً في مجالات الصحة والتعليم والمساواة الجندرية. كذلك فجامعاتها تحتل مراكز متقدمة بين الجامعات الجيدة في العالم ولديها صناعات وخدمات تقوم على الهايتك، وكل هذا إضافة إلى الصناعات الدقيقة العسكرية وغيرها. لكن صورة إسرائيل في تقارير مجموعة OECD تتألف من تناقضات إذ أنها تتميز في الوقت نفسه بنسبة الفقر الأعلى بين دول تلك المجموعة. وتسجّل واحدة من اعلى النسب في الأجور المتدنية للعمال.
الجذور تمتد حتى آثار 1948
يقول التقرير إن هذه الازدواجية يفسرها منظور تاريخي يعود إلى الظروف التي نشأت في العام 1948 اذ "تمّ جمع ثلاث مجموعات سكانية أساسية تؤلف المجتمع الإسرائيلي"؛ أولهم اليهود الذين هاجروا مطلع القرن من أوروبا وتحكموا بمواقع الإدارة في الكيان الجديد ولاحقا شكلوا الوسط التجاري والمالي بمعظمه؛ المجموعة الثانية هي الفلسطينيون الذين بقوا في البلاد بعد الحرب (والنكبة والتهجير) وفقدوا معظم أراضيهم وتحولوا من فلاحين ومزارعين إلى عمال في المهن الصعبة وفي المصانع التي يملكها يهود؛ المجموعة الثالثة هي اليهود الشرقيون الذين جاؤوا من الدول العربية والأخرى في آسيا وافريقيا .
ولقد طرأت تغيرات كثيرة على المجتمع الإسرائيلي في الأجيال الثلاثة المتعاقبة، وفقاً للبحث، منذ 1948 وذلك بسبب الاستثمار الحكومي في التطوير الاقتصادي والإسكان والتعليم والصحة. وأدت حرب 1967 إلى زيادة وتضخّم الجيش والصناعات الأمنية. ولكن ظلت مع ذلك الفجوات القائمة منذ بداية سنوات الدولة ملحوظة وملموسة حتى اليوم. ففي سنة 2015 بعد 67 سنة من إقامة الدولة كانت أجور 31 بالمئة من الاشكناز اعلى من الأجر المتوسط و14 بالمئة من اليهود الشرقيين فوق ذلك الأجر، بينما 38 بالمئة من العرب تنخفض أجورهم عن المتوسط.
في العام 1985 قررت حكومة إسرائيل تبني واعتماد السياسة النيوليبرالية التي تقدّس السوق الحرة. وتملصت بذلك من مسؤوليتها عن المبادرة الاقتصادية والاجتماعية، فخصخصت الكثير من القطاعات والخدمات وأودعتها بأيدي الشركات الضخمة والرأسماليين الكبار. كانت النتيجة تعميق انخفاض الأجور المنخفضة أصلا وزيادتها رخصاً وتقليص الميزانيات مما انعكس على الخدمات الاجتماعية التي ساءت أكثر. أي ان هذا التحول عام 1985 قد عمّق الفجوات التي كانت قائمة أصلا عام 1948 .
بعد العام 1967 حين احتلت إسرائيل الأراضي الفلسطينية في القدس الشرقية والضفة وقطاع غزة، تكرّس الانطباع العام السائد لدى لكثير من الإسرائيليين وربما لدى معظمهم بأن هذا الاحتلال والمقاومة الناجمة عنه، هي مسألة سياسية وأمنية فقط، ولا تتعلق بالمسألة الاقتصادية الاجتماعية، وهذا خطأ لان "صيانة هذا الاحتلال هو أمر مكلف جدا" يمس بنقاط النمو الاقتصادي وقدرة الدولة على الاستثمار في تطوير المناطق الطرفية وتحسين الخدمات التعليمية ورفع مستوى الحياة للمواطنين، كما يؤكد البحث.
الاحتلال أبقى القضايا الاجتماعية الاقتصادية في المرتبة الثانية
يشير البحث إلى عمق المشكلة بالقول: إن "صيانة السيطرة السياسة والعسكرية والاقتصادية" في المناطق المحتلة تحوّل إلى المشروع الأكبر والاهم لدى المؤسسة الحاكمة في إسرائيل. ويبرز أثر تخصيص الجهد لهذه المسألة في القضايا التي تحتل عناوين الجدل الجماهيري وعناوين الصحف، مثل الانسحاب من المناطق المحتلة او ضمّها، حل الدولة أو الدولتين، وهكذا. نتيجة لذلك، ظلّت القضايا الاجتماعية الاقتصادية بجميع قطاعاتها وتفرعاتها في المرتبة الثانية على الدوام.
إن إسرائيل، أشبه بالولايات المتحدة، تسيطر على اقتصادها المالي نخبة الـ 1 بالمئة الأعلى من بين نحو 5ر8 مليون مواطن. ويزيد حجم أرباح تلك النخبة وممتلكاتها بأحجام مطردة هائلة جداً تفوق سائر ملايين المواطنين. ولكن، يلاحظ الباحثان، خلافا للولايات المتحدة توجد في إسرائيل نخبة عليا أخرى، هي النخبة السياسية وهؤلاء هم المستوطنون المنعوتون بـ "الأيديولوجيين" والذين يقطنون ويحتلون جبال الضفة الغربية. هذه مجموعة ضخمة النفوذ لديها سطوة وقوة وضع الفيتو على كل قرار أو خطوة أو طرف لا يخدم مصالحها. وهي تعرقل أي تحرك نحو تسوية تشمل إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وهكذا فان النخبتين المذكورتين تعملان معاً، وبشكل يغذي كل منهما الأخرى، على تعميق الفجوات الاقتصادية في المحصلة. فالنخبة السياسية الاستيطانية تمنع التوجه الاستراتيجي نحو تسوية سياسية، بينما تضع النخبة الثانية فيتو على فكرة زيادة الضرائب على الأغنياء وتوسيع نطاق سياسة الرفاه، مما يؤدي في خاتمة المطاف إلى تعميق اللامساواة. وهاتان النخبتان تسيطر الأولى منهما على عقارات كثيرة في إسرائيل وخارجها وتنقل مقرات إقامتها كلما استدعت الحاجة والضائقة، أما النخبة الثانية فتسيطر على تلال الضفة الغربية المحتلة بذريعة كوشان إلهي- سماوي تزعم حيازته.
أوجه عديدة لانعدام المساواة في قطاعات كثيرة
يعدد التقرير أوجه عديدة لانعدام المساواة في قطاعات كثيرة، منها: تفتيت شبكة الأمان الاجتماعي، وضرب حقوق عمال قطاعات مثل البناء، وتدهور مكانة ومستوى بلدات التطوير، وغياب مناطق صناعية في البلدات العربية، واتساع الفجوات في ميزانيات السلطات المحلية، وبالطبع التكلفة العسكرية الهائلة.
وإن الأثر الأساسي للاحتلال، يشدد البحث، هو نشوء الأزمات القاسية المتتالية التي تضرب الاقتصاد الإسرائيلي كله، نتيجة لحالة الاحتلال وما تنتجه بالضرورة من مقاومة فلسطينية. وينوه الباحثان: بالطبع فإن الاقتصادي الفلسطيني يدفع ثمنا اكبر بكثير ولكن هذا لا يعني ان إسرائيل لا تدفع ثمنا، ولكن من جيوب فقرائها. ويقدر التقرير ان الثمن الاقتصادي الذي تدفعه إسرائيل برز خصوصا بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 إذ يقدر اقتصاديون ان إسرائيل دفعت ثمنا هائلا يقدر بـ2 بالمئة من قيمة الانتاج للفرد في السنة الواحدة. وهذا معناه تراجع جدّي جداً ينعكس على مختلف المجالات.
وينطبق الأمر نفسه على الانتفاضة الثانية عام 2000 إذ اقر بنك إسرائيل أن "الاقتصاد يعيش في ادنى أوضاعه بشكل متواصل، ومن النوع الذي واجهه ثلاث مرات في تاريخه: في الاعوام 1952- 1953، 1966- 1967 ، و 1988- 1989. وما يميز هذه الأزمات أنها أزمات مستمرة وممتدة على سنوات".
وبالأرقام، قدر بنك إسرائيل في وثيقة له ان "الضرر المباشر لاستمرار الانتفاضة الثانية عام 2002 تراوح ما بين 6ر14 و9ر17 مليار شيكل، وبما معناه ان الناتج للفرد في إسرائيل عام 2003 كان يمكن ان يرتفع بنسبة 10 بالمئة وحتى 15 بالمئة عما كان عليه لو لم تكن الانتفاضة" – الناجمة عن الاحتلال والتعنّت عليه بالطبع. التقرير يتوقف عند السياحة على سبيل المثال. فقد كان عدد السياح في سنوات الثمانينيات يتراوح بين مليون ونصف المليون وتراجع بأكثر من الثلث في فترة الانتفاضة الثانية.
أما القضية الأهم من حيث اثر الاحتلال فهو المساس القاسي بمستوى الحياة، ويقول البحث إن جميع دول العالم التي تدرَج إسرائيل بينها قد تميزت بارتفاع الناتج القومي للفرد. ولكن في سنوات الانتفاضة الثانية تجمد هذا الناتج لعدد من السنوات في إسرائيل، مما أدى إلى نشوء فجوة ملحوظة قياساً بدول كانت إسرائيل تتفوق عليها في سنوات سابقة.
أحد الأمثلة التي يوردها التقرير من ناحية شلّ التطور الاقتصادي، هو ذلك المتعلق بالمناطق الصناعية في البلدات العربية. ففي العديد منها لا توجد أراض لإقامة مناطق كهذه، ولا يوجد أيضا احتياطي أراض لأي من المباني العامة. وهذا يضاف إلى مصاعب لدى السلطات المحلية في هذه البلدات من حيث محدودية مداخيلها المستقلة، ما يمنعها من تطوير بنى تحتية مثمرة ومنتجة. ووفقا لمعطيات تضمنتها قرارات حكومية فان دخل السلطات اليهودية من ضريبة "الارنونا" (المفروضة على العقارات) من المناطق الصناعية يصل إلى 359 شيكل للمواطن الفرد، اما لدى المواطنين العرب فان المدخول أقل بثماني مرات ويقدر وفقا لمعطيات 2014 بـ 45 شيكل فقط.
من الحماقة التفكير بأنه يمكن السيطرة بالقوة على الفلسطينيين من دون آثار!
إن الاحتلال المستمر منذ عام 1967 له إسقاطات سلبية كبيرة جداً على المجتمع والاقتصاد، بحسب ما يشدد البحث. فهو مسؤول عن انعدام الاستقرار الاقتصادي والحاجة الماسة لوضع سياسة ميزانيات متشددة بغية إنشاء صورة وهمية أمام العالم لاقتصاد "مسؤول وثابت" وللتستر على الأثر الكبير للرضات والصدمات الناجمة عن آثار الاحتلال، أي مقاومته ومواجهته من قبل الفلسطينيين. إن الاحتلال يساهم في تجذير وتعميق انعدام المساواة سواء من خلال الاعتماد المتواصل على قوة عاملة رخيصة او بسبب الاستثمارات المنخفضة في الخدمات الاجتماعية وتقليص شبكة الامان الاجتماعي. أما من يدفع الثمن فهو الطبقة الوسطى وما تحت. فأفرادها لا يحظون كغيرهم من الأثرياء في الطبقة المهيمنة بخصم في الضرائب، بل يقع على عاتقهم بذل مصاريف كبيرة لنيل خدمات اجتماعية تم تقليص ميزانياتها، ودفع ثمن تقليص شبكة الأمان الاجتماعي.
وعودة إلى ما سبق ذكره فان النخبتين، المالية والسياسية، أي كبار الأثرياء وزعامات المستوطنين، تفرضان وتبلوران الأجندة الجماهيرية، بما يصعب على ظروف حياة مجمل المواطنين. إنها عبارة عن دائرة مفرغة: فالنخبة السياسية الاستيطانية تعمل على منع تحقيق تسوية سياسية وتساهم بالتالي في تأبيد الاحتلال والصراع وفي خاتمة المطاف تكريس عدم الاستقرار الاقتصادي، أما النخبة المالية الاقتصادية العليا والتي تعمل بشكل دؤوب على تعزيز مكانتها الامتيازية حتى حين يصعّب هذا على حياة وتطور المواطنين الآخرين، فهي تعمل داخل هذا الظرف الذي أنشأته النخبة السياسية المستفيدة من الاحتلال. وهكذا تتمتع النخبة المالية من اتجاه السلطات والمؤسسة الحاكمة إلى اعتماد وصفات النيوليبرالية المتوحشة (لاستقدام قوات عمل رخيصة، ضرب الخدمات الاجتماعية، خفض الضرائب عن الأثرياء وما شابه) لأنها وسيلتها الوحيدة ازاء تعنتها على رفض التسويات السياسية.
ختاماً، يجزم التقرير أنه من الحماقة التفكير بأنه يمكن السيطرة بالقوة على ملايين من الفلسطينيين من دون ان يكون هناك آثار على ما يجري في إسرائيل. ويضيف لاسعاً: سيأتي يوم يقول فيه الإسرائيليون بتساؤل وندم: كيف فعلنا هذا لأنفسنا!