المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
"سيندروم غزة".
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 281
  • سماح بصول

في شباط الأخير، بثّت القناة الإسرائيليّة الرسميّة "كان 11" سلسلة وثائقيّة جديدة من ثلاث حلقاتٍ تحت عنوان "سيندروم (متلازمة) غزة" (إخراج دوبي كرويتورو وهيلا يتسحاكي) والتي تعود بنا إلى ماضي التاريخ لتروي حكايّة الصراع الأبديّ بين المشروع الصهيونيّ وقطاع غزّة؛ من الحكاية التوراتيّة لشمشون الجبّار مروراً بالنكبة والنكسة والانتفاضتيّن وصولاً إلى يومنا هذا. وإذا أمعنّا النظر سنرى كيف تحاصر القيادات الأمنيّة والعسكريّة والسياسيّة ونخبة من الصحافيين والباحثين الإسرائيليين والأجانب قطاع غزّة على مدار ثلاث ساعات ثم تخلص السلسلة إلى القول: "نعود إلى نقطة البداية حيث الوهم لدى كل واحدٍ من الطرفين بأن الآخر سيختفي، ولكن في الواقع لن يذهب أي الطرفين إلى أي مكان"!

فور بث حلقتها الأولى، كتب عدد من الصحافيين مقالات تحليليّة مثيرة حول محتوى السلسلة، فقد وصفتها مايا جداش عبر موقع صحيفة "معاريف" بأنها تكشف عن سر غزّة المظلم الذي لا تريد الحكومة للجمهور الإسرائيليّ أن يعرفه، وكتب جاي لافي في موقع صحيفة "هآرتس" بأن السلسلة تعكس كابوس إسرائيل الأكبر.

فما الذي يأتي به العمل التلفزيونيّ "متلازمة غزّة"، وكيف يمكننا أن نراه ونفسره بعيون فلسطينيّة؟

عَمى أم إعماء؟

تحمل الحلقة الأولى عنوان "حالة العَمى"[1] وتعود إلى جذور الصراع في العام 1948 وكيفية تشكّل القطاع كمكان ذي مواصفات جيواجتماعيّة اقتصاديّة نزعته عن تمام الأرض الفلسطينيّة، حاولت عزله وحوّلته إلى خندقٍ للمقاومة.

توصف كراهيّة الغزيين لإسرائيل بأنها مُزمنة، ويُعزى ذلك إلى انتصار إسرائيل في حربها واستحواذها على الأرض وإيمان سلطاتها منذ عهد بن غوريون بأنه يجب الانتصار وإخضاع واحتلال وهدم هذه البقعة بالكامل، ولكن الإسرائيليين سرعان ما اكتشفوا بأن سكان القطاع يتربصون بكل حالة هدوء ولن يتركوهم يهنؤون بتنفيذ أّي مخطط وأن لديهم القدرة على تولي زمام المعركة وتكرارها من جديد حتى أصبح لدى القيادة الإسرائيليّة قناعة بأن "مصير الطرفين مرتبطٌ ببعضهما البعض على الرغم من الخطر الذي يشكله القطاع على المشروع الصهيونيّ".

تستعيد الحلقة الأولى سلسلة أشكال الحكم التي حاولت إسرائيل فرضها على القطاع، وكيف فشلت في كل مرّة في التعلّم من أخطائها، وتكرارها للعقوبات الجماعية، والتجويع، وهدم البيوت، وتجريف الأراضي الزراعية، وضرب النساء والأطفال والمسنين، ووصل بها الحد إلى تعريّة النساء في العلن خلال حملات التفتيش عن الأسلحة، و20 ألف حالة اعتقال إداريّ. وإلى جانب تسليط العنف حاولت السلطات استغلال البطالة وإغراء الناس بالسفر مجاناً إلى القدس للصلاة والتنزه في مدن الضفة الغربيّة أملاً في أن يطيب لهم المكان وتكون هذه بداية لهجرة طوعيّة شرقاً، لكن الغزيّين لم يبلعوا الطُعم، وعلى عكس التوقعات، ازدادت أعداد المنضمين للمقاومة بين حركة حماس وحركة الجهاد الإسلاميّ.

أرض واحدة أم دولة واحدة؟

تحمل الحلقة الثانية عنوان "أرض واحدة"[2] وتدور حول محاولات الحكومات الإسرائيليّة ضم القطاع والاستيطان فيه ومن ثم الانفصال عنه، وعلو شأن ونشاط الحركات الإسلاميّة التي غذّتها إسرائيل طمعاً في القضاء على منظمة التحرير الفلسطينيّة.

في هذا الجزء من السلسلة يبرز الحديث عن المحاولات شديدة التطرّف في اختلافها بين القيادات الإسرائيليّة، وحتى لدى نفس القيادات في فترات زمنية مختلفة. ففيما سارع موشيه ديّان إلى تطبيق فكرة "الأرض الواحدة" وفتح باب سوق العمل أمام الغزيين ووسّع آفاق التجارة، بل وجلب مخططين ومهندسين لإعادة هيكلة مخيمات اللجوء وتحويلها إلى قرى ومدن وتوطين اللاجئين فيها لقمع فكرة حق العودة والتحوّل إلى جزء من القطاع، نفّذ أريئيل شارون مخططاً هجّر 38 ألف فلسطينيّ، وطوّر المستوطنات داخل القطاع، وشق الشوارع لوصل القطاع بباقي البلاد وتحويله إلى جزء منها، وفكّر أن قطع الامتداد السكانيّ الفلسطينيّ لا يمكن إلا بزرع المستوطنات، وأفقر السكان لإشغالهم عن الحلم الوطنيّ والدولة المستقلّة بلقمة العيش.

إن العداء تجاه الإسلام السياسيّ والحركات الإسلاميّة شديد الوضوح، وباتت الشعبيّة الكبيرة للحركات الإسلاميّة في القطاع سبباً لتوجيه أصابع الاتهام للعديد من الشخصيات القياديّة البارزة منذ إعلان إسرائيل استقلالها وحتى اليوم. كلٌ في فترة حكمه، حاول رؤساء الحكومات التخلّص من القطاع، بعضهم رأى في الإبادة والتهجير حلاً، وبعضهم رأى في الضم والتحكّم بمستوى المعيشة وجودة الحياة حلاً أفضل، ثم "جاء من يعتقد أنه من الممكن تنصيب (الرئيس) ياسر عرفات حارساً على القطاع آملاً في أن يتسبب الرجل باشتباك فتح وحماس ونشوب حرب أهليّة فلسطينيّة تجعل الإسرائيليين يحققون مرادهم من دون أن يطلقوا رصاصة واحدة! لكن على أرض الواقع أفضت الانتخابات البرلمانية إلى فوز حماس، الأمر الذي قلب كل الموازين".

تُظهر هذه الحلقة كيفية تنصل الإسرائيليين أجمعين من الفكرة بأن الاحتلال هو المشكلة، وهو المحفز الرئيس لإشعال شرارة المقاومة، واستعاضوا عن هذه الحقيقة بحالة من السطحيّة التحليليّة واختاروا تحميل المسؤوليّة لأشخاص بعينهم مثل موشيه ديّان، وأريئيل شارون، وجولدا مئير، والحاكم العسكري وكأن القرار فرديّ آنيّ لا ينبع من سياسات متواصلة ومدروسة ومخططة مسبقاً.

نتنياهو والتمويل القطريّ

تحمل الحلقة الثالثة عنوان "ثلاث دول لشعبين"[3] وتنصب حول محاولات إسرائيل التخلّص من القطاع عن طريق اتفاق أوسلو ومن ثم التسليم بالأمر الواقع وحكم حماس حتى وقوع أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

تعلو وتخبو أصوات ووجوه لا تبايُن في مدى عداء إسرائيل لها، ويبقى مؤسس حماس أحمد ياسين الشخصية المحوريّة في كل سرد تاريخي للعلاقة مع القطاع. حماس تسيطر وهنا تبدأ المشكلة.

بالنسبة للإسرائيليين كانت اتفاقية أوسلو في العام 1993 مسلكاً محتملاً للهروب من "العلقة" الغزيّة، هذا المكان الذي يوصف بالمنحوس والعبء على مواطني إسرائيل وقياداتهم.  عندما أعلن عن "غزة أولاً" كان الهدف إيجاد من يمكنه أن يحمل عبء هذا المكان. حاولت إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة تجربة كل ما يمكن لقمع الحركات الإسلاميّة، لكن مخططاتها كانت تنقلب ضدها في كل مرّة وتحوّلت هذه الحركات إلى أكبر مشغّل للجمهور في القطاع.

أجمعت القيادات الإسرائيليّة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر على أن التحكم بمصير الغزيين يرتبط ارتباطاً وثيقاً بوضعهم الاقتصاديّ، فإذا اختارت التضييق وخلق حالة من الجوع كان ذلك يهدف إلى إلهاء الناس وإنهاكهم لتغييب الفعل السياسيّ والتحرر من الاحتلال. وإذا مدّتهم بالمال والبضائع والزوار، فكان ذلك يهدف إلى تجميل المُحتل أو إيهام الناس بإمكانيّة تغيير الواقع من خلال العلاقة الطيبة والهدوء الأمني.

ومع "تنازل" الطرف الإسرائيليّ - وفق روايتهم- وبروز شخصيات على الساحة الفلسطينيّة كانوا جميعاً أسرى محررين، وأعداء، وعسكريين ومطلوبين، عادت إسرائيل إلى فكرة التضييق والحصار التي طاولت الرئيس الفلسطيني نفسه، لأنها كلما حاولت ترويض القطاع أذهلها وأوجعها فصبت غضبها على الضفة.

في العام 2012 اتخذ نتنياهو قراراً بالسماح لقطر بمدّ القطاع بالمال لإعادة الإعمار، وهنا يتهمه القياديون بأنه المسؤول الأول والمباشر عن استحضار الوحش وتغذيته، وإن أحداث السابع من أكتوبر ما هي إلا قمة الفشل الإسرائيليّ المتراكم. "لقد رأينا شاحنات تنقل الاسمنت إلى القطاع، رأينا ذلك بأعيننا ولم نستوعب أنهم يبنون الأنفاق"، تقول إحدى المختطفات من سكان بلدات غلاف غزة. هذه المختطفة التي أعيدت ضمن صفقة بعد 53 يوماً في أسر حماس، حاولت إنعاش الفكرة الراسخة لدى معظم الإسرائيليين بأن كل تواجد مع الغزيين هو خطر على الحياة، ولم تصف تجربة الأسر، بل اكتفت بدغدغة الجمهور من خلال وصف عشرات الآلاف من الغزيين يتحلقون حول سيارة الصليب الأحمر ويهتفون "اذبح اليهود"!

أمّا بعد...

بالنظر إلى المحتوى كله، نلحظ أن رؤساء الحكومة المتعاقبين وإلى جانبهم قيادات عسكريّة وأمنيّة، تبادلوا أدوار في لعبة "الشرطيّ الجيّد والشرطيّ السيء"، ففيما يقوم أحدهم بفرض الحكم العسكري والتحكم بساعات الدخول للعمل في إسرائيل، يأتي آخر ليبدي التعاطف، فيتيح للنساء والأطفال الدخول للعمل رحمة ورأفة تُبعد عنهم شر الموت جوعاً.

تعكس السلسلة بشكلٍ واضحٍ مدى القلق من مخيمات اللجوء، ومحاولات التخلّص منها وتوطين أهلها في القطاع، وتحسينها من خلال المباني الحديثة وشق الشوارع.

يتضح لنا بشكلٍ جليّ كيف رأت الحكومات الإسرائيليّة والقيادات الأمنيّة والعسكريّة بأن "الإسلاميين هم المشكلة"، ولتقويّة موقفها قبيل شن حربها على الحركات الإسلاميّة، وجدت في عدوّها جمال عبد الناصر دليلاً على أنه يجب وأد هذه الحركات، فإذا قام عبد الناصر نفسه بقمع أفرادها وسجنهم ونفيهم فلماذا لا نفعل نحن ذلك؟ ولاحقاً تشدد السلسلة على أن الاسلاميين احتالوا على جميع الأطراف عندما لم يُبدوا موقفاً مناهضاً من اتفاقيّة كامب ديفيد فيما رفضته منظمة التحرير جهاراً، بدا الأمر وكأنهم أصدقاء مؤيدون للاتفاق أو مشغولون بالحياة اليوميّة ولا تهمهم الخطوة السياسيّة لكن تلك كانت خدعة، إذ إنه بعد سنواتٍ من توقيع الاتفاقيّة عاد سفير مصر لدى إسرائيل محمد بسيوني وحذّرهم من تطوّر هذه الحركات داخل القطاع، سيّما وأنها كانت تعرف عقليّة ونفسيّة الجمهور الغزيّ وتعرف كيف تستقطبه.

عندما اتخذ القرار التاريخيّ بإعادة سيناء إلى مصر بقيّ قطاع غزة وحيداً، أرادت إسرائيل التخلّص من الغزيين ولم ترد مصر ضمهم، ولقد بات القطاع كجزيرة وسط الأرض الصحراويّة، يخشاه الطرفان ولا يريدان التعاطي معه، على ما تؤكد السلسلة.

وبالرغم من كل هذا لا تتعلّم الحكومات الإسرائيليّة الدرس، وتواصل التعدي على القطاع بين حين وآخر، وفي هذا، بالاعتماد على محتوى السلسلة وليس تحليلاً للعمليات العسكريّة، يبدو أن هناك استماتة في تكريس هذا العدو، واستغلاله – كما يبدو لنا اليوم في ظل محاكمة نتنياهو. ويمكن القول بأن الصورة المُستقاة من ثلاث ساعات بحثيّة تُختصر بالقول "لا كبيرة لغزّة"، لا يمكن إخضاع هذا المكان وسكانه، وهو لا يهدأ ولا يصمت. هذا المكان هو عُش دبابير هائل ومخيف، ويؤرّق المضاجع!

المثير في كل الحكاية المرويّة أمامنا أن هناك حالة انكار للدافع الحقيقي وراء فعل المقاومة وهو وجود الاحتلال الإسرائيلي، ويصبح التذرّع بأن المقاومة هي فعل ناتج عن تردي الوضع الاقتصاديّ أو حسابات داخليّة محورها السلطة، ولكن النتائج على الأرض تظهر بأن عزل القطاع بهدف قتله هو ما عزّز حالة لم تكن في الحسبان من قبل الجهة المحتلة، ولا من قبل الحكومات العربيّة المتواطئة معها.

إن حرب الإبادة التي لا تزال الحكومة الإسرائيليّة تشنها على قطاع غزّة ليست وليدة السابع من أكتوبر، بل هي فكرة قديمة اتخذت في الماضي أشكالاً أخرى قد تكون أقل بطشاً وبشاعة، ولكن النخب الإسرائيليّة الظاهرة في السلسلة تؤكد بأن كل محاولة كهذه تخلق جيلاً جديداً يريد أن يثأر لنفسه وأرضه، وفي كل مرة تدفع إسرائيل ثمناً باهظاً أكثر من السابق، لكن ما من أحد يتعلم الدرس. وهكذا فإن التعنت الإسرائيليّ يعيد الصراع إلى نقطة البدايةـ يجتر المقولات والأسباب والدوافع، يحافظ على درعه الواقي: عدوٌ لا يرحم، لتستمر عمليات القصف والترويع والقتل تليها محادثات ولجان تحقيق ومحاولات شكليّة لاستخلاص العبر.

بعيداً عن المقابلات والأرشيف والتحليلات تجدر الإشارة إلى أن شعار السلسلة (اللوجو) هو عبارة عن كلمة "غزة" بالعبرية باللون الأبيض، ينفصل عنها جزء مكسور باللون الأحمر. وإن الانطباع الذي تخلقه هذه الرسالة البصريّة هو تكريس لفكرة فصل القطاع عن كل الأرض، وفي اللون إشارة إلى خطورته التي تعود الشهادات وتكررها مرّة تلو الأخرى.

 

[1] الحلقة الأولى، "حالة العمي"، https://www.kan.org.il/content/kan/kan-11/p-838878/s1/838880/

[2] الحلقة الثانية ،"أرض واحدة"، https://www.kan.org.il/content/kan/kan-11/p-838878/s1/838881/

[3] الحلقة الثالثة، "ثلاث دول لشعبين"، https://www.kan.org.il/content/kan/kan-11/p-838878/s1/838883/

المصطلحات المستخدمة:

حق العودة, هآرتس, لافي

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات