استطاعت إسرائيل على مدار العقود الماضية، أن تحجز لنفسها مكانًا متقدّمًا في ركب الدول المصنّعة للأسلحة والتقنيات العسكرية- الأمنية الحديثة والمتطورّة، يعزى ذلك، بشكلٍ كبير، إلى الاحتلال الذي يوفّر لها ساحة مفتوحة لاختبار هذه التقنيات والمنظومات، وهو ما يسميه البعض "النمط التجريبي للحرب" (experimental way of warfare). يُعرّف "النمط التجريبي للحرب" كنظام حربي يعتمد على التجريب المستمرّ، حيث يتم دمج التقنيات الناشئة مباشرة في العمليات العسكرية، ويرتكز على تبنّي عدم اليقين والفشل كقوى منتجة مطلوبة لتحفيز الابتكار والتطوير العسكري، مما يعيد تشكيل الحرب كمساحة دائمة للاختبار، التعلّم، والتكيف الاستراتيجي.
رغم أن هجوم 7 أكتوبر المفاجئ الذي شنّته حركة "حماس" تسبّب بانتكاسة لإسرائيل وقدراتها العسكرية والاستخباراتية* إلّا أن المعطيات المتعلّقة بالصناعات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية على مدار أشهر الحرب الـ 15 تُشير إلى أن إسرائيل استطاعت تحويل غزة وجنوب لبنان لـ "حقل تجارب حي" لتطوير تقنياتها وأسلحتها والترويج لها، وصولاً إلى عقد صفقات رابحة وتصدير جزء كبير منها.
هذه الورقة، تحاول استشراف توجهات إسرائيل المستقبلية في هذا المجال، في ضوء الفرص والمعيقات التي فرضتها أطول الحروب الإسرائيلية منذ العام 1948 والتي شنّتها منذ 7 أكتوبر في غزة (ولاحقًا في جنوب لبنان) وخصوصًا في ما يتعلّق بمجالات التصنيع الداخلي، التصدير، والاعتماد على المساعدات العسكرية الأميركية.
تنقسم الورقة الى 3 أجزاء: الجزء الأول يستعرض بشكل سريع التطوّر التاريخي للصناعات والتقنيات العسكرية- الأمنية في إسرائيل. الثاني يركّز على مكانة إسرائيل دوليًا في مجال التصنيع والتصدير العسكري- الأمني، كما يسلّط الضوء على الاعتماد الإسرائيلي على الولايات المتحدة في الصناعات العسكرية، وتأثير المقاطعة وحظر بيع الأسلحة على إسرائيل. الجزء الثاني يتناول انتعاش التصدير العسكري- الأمني الإسرائيلي خلال الحرب. أما الجزء الثالث والأخير فيحاول استشراف أبرز التوجهات المستقبلية الإسرائيلية في مجال تصنيع وتصدير الأسلحة والتقنيات العسكرية- الأمنية في ضوء الفرص والمعيقات التي أفرزتها حرب الإبادة على غزة وجنوب لبنان.
التطور التاريخي للصناعات العسكرية- الأمنية الإسرائيلية
تأسّست الصناعة العسكرية الإسرائيلية عام 1933، وأقيم أول مصنع للأسلحة لعصابات "الهاغاناه" في "حي بورخوف- جفعاتايم"، حيث تم تصنيع قذائف الهاون والقنابل اليدوية. في عام 1936، نُقلت العمليات إلى شمال تل أبيب وأُنشئ فيه مصنع آخر لصب القنابل. توسّع الإنتاج بشكلٍ كبير بين 1947-1948، حيث ارتفع عدد العمال من 300 إلى 1000، وتم إنتاج قذائف هاون، ألغام، وقنابل يدوية، بعضها نُسخ عن النماذج البريطانية. ولإخفاء المصدر، وُسمت الذخائر بحروف USA، في إشارة ساخرة تعني باليديشية "قطعة من عملنا". ومع إعلان قيام الدولة، سعت الحكومة الإسرائيلية بقيادة ديفيد بن غوريون إلى بناء قاعدة صناعية عسكرية مستقلّة وأكثر تطورًا لتلبية احتياجات الجيش حديث التأسيس، خصوصًا وأن إسرائيل قدّمت نفسها كـ "أمة" أوروبية حداثية متقدمة.
في العام 1948 تم تأسيس "سلاح العلوم" (بالعبرية: "حيميد" HEMED)، والذي انقسم في العام 1952 إلى وكالتين: الأولى ظلت تحمل اسم "حيميد" وتختص في الابتكار والتكنولوجيا العسكرية، أما الوكالة الثانية فحملت اسم (EMET agency) واختصت في صناعة السلاح وهي الوكالة نفسها التى أصبحت في العام 1958 تحمل اسم "رفائيل"- (Rafael Advanced Defense Systems Ltd). لاحقًا، وتحديدًا في العام 1953، أسّس شمعون بيريس (مدير عام وزارة الدفاع الإسرائيلية في حينه) "الصناعات الجوية الإسرائيلية" (Israel Aerospace Industries) التي بدأت بتجميع الطائرات وصيانتها، وقد شكّلت هذه الهيئات حجر الأساس لقطاع التصنيع والتطوير العسكري- الأمني في إسرائيل. كما تأسّست في العام 1966 شركة "آلبيت سيستيمز"- (Elbit Systems Ltd)، وعلى مدار العقود الماضية، شكّلت هذه الشركات عصب صناعة الأسلحة والتقنيات العسكرية- الأمنية في إسرائيل.
ركّزت خلال عقد الخمسينيات وأوائل الستينيات، إسرائيل على بناء قدرة إنتاجية عسكرية متكاملة، مدفوعة بعلاقاتها الوثيقة مع فرنسا التي كانت المورّد الرئيسي للأسلحة والتكنولوجيا العسكرية (إلى جانب ضلوعها في إنشاء مشروع ديمونا النووي). وقد كان التعاون مع فرنسا محوريًا، في تطوير سلاح الجو الإسرائيلي، حيث حصلت إسرائيل على طائرات "ميراج" ومعدات متطورة ساعدت في تعزيز قوتها الجوية، كما سعت إلى تطوير أسلحة محلية، مثل البنادق الهجومية "عوزي"، التي أصبحت رمزًا للتصنيع العسكري الإسرائيلي لسنوات عديدة. في ما يتعلق بالتصدير، كانت إسرائيل محدودة في قدرتها على بيع الأسلحة بسبب محدودية الإنتاج وضعف السوق، لكنها بدأت في إرسال الأسلحة الصغيرة والتكنولوجيا الأمنية إلى دول إفريقية وآسيوية، مثل بورما وإثيوبيا، كما عملت على استغلال خبرات المهندسين الألمان والفرنسيين في تطوير أسلحتها المحلية، ومع اقتراب عام 1967، كانت الصناعات العسكرية الإسرائيلية قد أصبحت أكثر تطورًا، مما مهد الطريق للاعتماد المتزايد على التصنيع الإسرائيلي نفسه.
بعد حرب 1967، شهدت الصناعات العسكرية الإسرائيلية تطورًا كبيرًا، حيث أدى الحظر الفرنسي على تزويد إسرائيل بالأسلحة في أعقاب قرار الرئيس الفرنسي شارل ديغول عام 1969 إلى دفع الأخيرة لتطوير صناعاتها العسكرية وزيادة الاعتماد على الذات، حيث عزّزت خلال السبعينات دور الشركات المملوكة للدولة مثل "الصناعات الجوية"، "إسرائيل لصناعات الأسلحة" و"رفائيل" وغيرها من الشركات التي ركّزت على تطوير أنظمة الأسلحة، الطائرات بدون طيار، وأنظمة دفاعية وهجومية متقدّمة، وقد ساهمت الحاجة إلى تحديث المعدات العسكرية إلى تعاون وثيق مع الولايات المتحدة التي بدأت بدورها خلال هذه الفترة بتزويد إسرائيل بمساعدات عسكرية ضخمة، ما ساهم في تطوير قدراتها العسكرية والأمنية، وكذلك خبرتها في هذا المجال.
شهد عقد الثمانينيات توسّعا لصادرات الأسلحة الإسرائيلية بشكل كبير، وقد أصبحت إسرائيل أحد الموردين الرئيسيين لأنظمة الأسلحة والتقنيات المتقدّمة إلى العديد من الدول في أميركا اللاتينية، أفريقيا، وآسيا. وعلى الرغم من الانتقادات الدولية فقد باعت إسرائيل أسلحة وتقنيات عسكرية لدول خاضعة لحظر السلاح مثل جنوب أفريقيا خلال فترة الفصل العنصري. ومنذ التسعينيات، واجهت الصناعات الدفاعية الإسرائيلية تحديات مالية وإدارية مرتبطة بعملية اللبرلة الاقتصادية حتى مطلع الألفية الثالثة، ما دفع الحكومة إلى إعادة هيكلة بعض الشركات العسكرية المملوكة للدولة وفتح المجال أمام الشركات الخاصة للدخول إلى هذا السوق والمنافسة فيه.
إجمالاً، شهدت هذه الفترة تعزيز التعاون مع الولايات المتحدة في مجالات الدفاع الصاروخي وتطوير أنظمة لاعتراض الصواريخ الباليستية (منظومة "حيتس")، في الوقت الذي بدأت فيه الطلب العالمي على الأسلحة التقليدية بالتراجع بعد انتهاء الحرب الباردة ما دفع الشركات الإسرائيلية للتركيز على التقنيات العسكرية المتطورة مثل الطائرات بدون طيار، وأنظمة المراقبة والاستخبارات والتجسس، التي أصبحت عنصرًا أساسيًا في استراتيجيتها التصديرية.
حتى بدء حرب الإبادة على غزة، كثّفت إسرائيل من صادراتها من الصناعات العسكرية والأمنية، خاصة إلى دول أوروبا التي زادت من مشترياتها ذات الصلة بعد الحرب في أوكرانيا. بعد اندلاع الحرب على غزة، قدّمت الولايات المتحدة الأميركية دعما عاجلا ومستمرّا لإسرائيل، وأرسلت مساعدات عسكرية ضخمة تضمنت قنابل دقيقة وصواريخ لمنظومة القبة الحديدية، كما أظهرت التقارير الصادرة عن معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI) أن ألمانيا كانت ثاني أكبر مورد للأسلحة لإسرائيل بين 2019-2023، حيث قدمت لها فرقاطات وأنظمة بحرية متقدمة، إلى جانب عقد صفقات مع إسرائيل لشراء أسلحة ومنظومات دفاع صاروخي تم تسريع بعضها خلال الحرب على الرغم من الانتقادات المحيطة بالعلاقة مع إسرائيل في هذا الصدد.
عشية 7 أكتوبر: إسرائيل في المراتب المتقدّمة للدول المصنّعة والمصدّرة للأسلحة والتقنيات
عدّ معهد ستوكهولم إسرائيل من أكبر مصدري الأسلحة عالميًا، واحتلّت المرتبة الثامنة بين الدول المصدّرة للأسلحة، وبين عامي 2019 و2023، استحوذت صادرات الأسلحة الإسرائيلية على حصة سوقية كبيرة وزودت العديد من الدول بتقنيات متقدّمة تشمل الطائرات المسيرة، وأنظمة الحرب الإلكترونية، تقنيات التجسّس ومنظومات الدفاع الصاروخي، كما سُجّلت ثلاث شركات إسرائيلية من بين أكبر 50 مقاولا "دفاعيا" في العالم في العام 2023، حيث نمت إيراداتها مجتمعة بنسبة 15% في الفترة نفسها، أي 3.5 أضعاف متوسط الزيادة العالمية. تُشير التقارير إلى أن الهند، أذربيجان، الولايات المتحدة، ألمانيا، والبرازيل من أكثر الدول التي استوردت الأسلحة الإسرائيلية، كما وحقّقت شركات الأسلحة والتقنيات الأمنية- العسكرية الإسرائيلية إيرادات قياسية بلغت 13.6 مليار دولار في العام 2023 بزيادة ملحوظة عن العام 2022 (أكثر من 500 مليون دولار)، ما أدّى إلى تضاعف الصادرات "الدفاعية" الإسرائيلية خلال 5 سنوات.
العقود الموقّعة (التي تم الإبلاغ عنها) بملايين الدولارات (2000-2023)- (صحيفة "يديعوت أحرنوت")
وعلاوةً على أهمية الكفاءة الإسرائيلية في هذا المجال، وهو ما حوّلها لدولة رائدة فيه وحجزت مكانة متقدّمة بين الدول في مجال التصنيع العسكري- الأمني (لا سيّما في المجال الرقمي والذكاء الاصطناعي)، من ناحية، أسهمت الحرب في أوكرانيا في تعزيز الطلب على الأسلحة والتقنيات الإسرائيلية في ضوء القفزة الكبيرة لطلبات شراء الأسلحة حول العالم، خصوصًا من قبل دول أوروبا الغربية التي باتت تشعر بخطر حقيقي يهدّدها منذ انتهاء الحرب الباردة (ارتفع الإنفاق العالمي على الأسلحة في العام 2023 بنسبة 6.8% ووصل إلى 2.44 ترليون دولار). من ناحية أخرى، أسهمت جائحة كورونا بدورها في دفع إسرائيل للتفكير في إعادة أكبر قدر ممكن من الشركات المصنّعة للاحتياجات الحيوية للجيش والالكترونيات أيضًا. من ناحية ثالثة، شجّعت الأسواق الجديدة التي فُتحت أمام إسرائيل في آسيا بعد توقيع اتفاقيات التطبيع بينها وبين بعض الدول العربية على تعزيز التصنيع والتصدير (شهدت المبيعات للدول المطبّعة خلال الأشهر الثماني الأولى للحرب انخفاضًا حادًا كما هو موضّح في الشكل أدناه)، وهذه العوامل كلها أسهمت في تعزيز صادرات الأسلحة والتقنيات الإسرائيلية بشكلٍ حاد حتى 7 أكتوبر.
الصادرات الأمنية الإسرائيلية بحسب المنطقة الجغرافية (2021-2023)- (صحيفة "يديعوت أحرنوت")
خلال الحرب على غزة ولبنان: تأثير المقاطعة والضغط السياسي الدولي
من بين أمور كثيرة كشفها الهجوم على مستوطنات غلاف قطاع غزة يوم 7 أكتوبر، هو الاعتماد الإسرائيلي الكبير على الدعم العسكري الأميركي. تعزّز هذا الاعتماد في حماية إسرائيل مع اندلاع أول مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران في 14 أبريل، نيسان، وفي الأول من تشرين أول، أكتوبر 2024. بات من الممكن الادّعاء أن حرب الإبادة على غزة ولبنان والمواجهة مع إيران لم تكن ممكنة أبدًا لولا الجسر الجوي الضخم للأسلحة والذخائر الأميركية لإسرائيل التي لا تملك قدرة إنتاجية لتغطية "المجهود الحربي" وخصوصًا من الذخائر والقنابل وصواريخ منظومات الدفاع الجوي وتحديدًا "القبة الحديدية" منها. في هذا الصدد، لا بدّ من الإشارة إلى أنه بين عامي 2019 و2023، استحوذت الولايات المتحدة على أكثر من ثلثي (69%) الأسلحة المباعة لإسرائيل من الخارج، بينما كانت ألمانيا ثاني أكبر مورد بنسبة 30% (والأولى أوروبيًا)، فيما لم تشكّل أي شحنات أوروبية أخرى من الأسلحة الفتاكة والمعدات العسكرية سوى أقل من 1% من إجمالي المشتريات، والتي شكلت إيطاليا منها 0.9%.. وهذا يعني أن الالتزام السياسي بدعم إسرائيل عسكريًا في واشنطن، وبدرجة أقل في برلين، كان حاسمًا في الحفاظ على قدرة إسرائيل على شنّ حرب الإبادة في غزة ولبنان.
من ناحية أخرى، مقابل حالة التباهي الإسرائيلية بالتقنيات والأسلحة التي تم تصنيعها وتطويرها من قبل الشركات الإسرائيلية خلال حرب الإبادة، برزت معيقات المقاطعة والحظر أمام إسرائيل، حيث تصاعدت الدعوات الشعبية في الدول الأوروبية والولايات المتحدة لفرض حظر أسلحة على إسرائيل ووقف عمليات الشراء والبيع، وأسهمت الاتهامات المتصاعدة لإسرائيل بتنفيذ إبادة جماعية وقضية الإبادة الجماعية التي تقدّمت بها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، إلى زيادة الضغوط على الحكومات لتجنّب التواطؤ في جرائم الحرب والإبادة ضد المدنيين في غزة، وقد تم التعبير عن مثل هذه الاستجابات في تصريح لرئيس الوزراء الفرنسي الذي اتهم الدول بتصدير أسلحة فتّاكة لإسرائيل في الوقت الذي تدعو فيه لوقف الحرب في غزة ولبنان. وعلى الرغم من النفي الألماني الرسمي، أظهرت البيانات التي قدمتها وزارة الاقتصاد الألمانية في أعقاب القضية التي تقدّمت بها نيكاراجوا ضدّها، أنه في حين وافقت على 326.5 مليون يورو من الأسلحة لإسرائيل في عام 2023، فقد وافقت فقط على 14.5 مليون يورو بين يناير/كانون الثاني ومنتصف أغسطس/آب 2024 (على الرغم من أنها وقّعت صفقة بقيمة 14 مليار دولار مقابل الحصول على منظومة الدفاع الجوي "السهم 3"). أما فرنسا، فقد أعلنت على لسان ماكرون عن وقف تزويد إسرائيل بالأسلحة (رغم استمرار تورّطها في تزويدها بمعدّات لإنتاج المسيّرات المستخدمة في حرب الإبادة)، وكذلك إسبانيا التي علّقت عمليات نقل وشراء الأسلحة منذ 7 أكتوبر، وثالث أكبر مورّد للأسلحة لإسرائيل، إيطاليا، التي انضمّت أيضًا للدول التي أوقفت تصدير الأسلحة مطلع العام الماضي، وكذلك بريطانيا، حيث أوقفت الحكومة 30 من أصل 350 ترخيصا لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل (رغم استمرار تورّطها في تزويد إسرائيل بمكونات طائرة F35).
رغم الإبادة والمحاكمات الدولية: انتعاش التصنيع العسكري وتصدير الأسلحة والتقنيات!
إن أسوأ الأوقات بالنسبة لمعظم الجهات المتضرّرة من حرب الإبادة هي أفضل الأوقات لمصنّعي الأسلحة، وتحديدًا الشركات الإسرائيلية. ممّا لا شكّ فيه أن الحروب الإسرائيلية المتعاقبة على الفلسطينيين (على قطاع غزة تحديدًا في العقدين الماضيين)، وعلى الدول العربية في السابق، قد وفّرت لإسرائيل هامشا كبيرا لابتكار وتطوير الأسلحة والتقنيات العسكرية- الأمنية، وقد ساهم ذلك في تحويلها لدولة رائدة في هذا المجال. منذ بداية حرب الإبادة، حوّلت شركات التصنيع والتطوير العسكري- الأمني قطاع غزة، وجنوب لبنان كذلك، إلى مختبر حيّ لتجريب الأسلحة والتقنيات وفقًا لـ "النمط التجريبي للحرب" المُشار إليه في المقدّمة، بحيث تنقلها من "ميدان المعركة" إلى جيوش الدول ومعارض الشركات مباشرة، بعد أن تعمل على تطوير القديم وإصلاح ثغراته، وتصنيع وتطوير تقنيات جديدة بما يتواءم مع مستجدّات "الميدان"، وهو ما ينعكس على مكانتها في سباق التسلّح، ناهيك عن الأرباح الطائلة للاقتصاد السياسي للأسلحة والتقنيات (كما هو موضّح في الجداول أعلاه).
من ضمن الأسلحة الجديدة التي تغنّت بها إسرائيل خلال الحرب هي التجربة الأولى لمنظومة الدفاع الجوي "السهم 3" حيث تم اختبارها بنجاح للمرة الأولى منذ تصنيعها في المواجهة مع جماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، وقد شجّع ألمانيا على شراء المنظومة في أكبر صفقة أمنية في تاريخ الصناعات العسكرية الإسرائيلية (بقيمة 14 مليار شيكل تقريبًا)، علمًا أن المنظومة أثبتت وجود ثغرات كبيرة فيها حالت دون نجاحها في التصدّي للصواريخ الباليستية القادمة من اليمن خاصة في الأسابيع الأخيرة قبل التهدئة المؤقتة.
السلاح/ التقنية |
الاستخدام |
الشركة المطورة |
السعر |
درع الدبابات "معطف الريح" |
تقنية دفاعية جديدة تعمل كدرع واق لحماية الدبابات والمركبات العسكرية من الصواريخ المضادة للدبابات محلية الصنع وصواريخ الكورنيت |
رفائيل |
300 ألف دولار للمنظومة |
طائرة التجسّس "أورون" |
طائرة تجسّس استخبارية ضخمة ذات قدرات استثنائية (مُدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي) |
تطوير مشترك |
مليار دولار (سعر التطوير) |
جرافة "الباندا" |
الكشف عن العبوات الأرضية، إنقاذ ناقلات الجند المدرعة تحت النيران وهدم المنازل. تشبه عمل ألعاب الفيديو ويتم التحكّم بها عن بُعد دون الحاجة لوجود عنصر بشري |
تطوير مشترك |
- |
المدرعة M-113 غير المأهولة |
نقل الوسائل والمعدّات القتالية، الكشف عن أماكن المقاتلين وتوجيه ضربات جوية أو من الأرض من خلال تقنيات الربط بين القوات المختلفة في الجو والبحر والبر |
تطوير مشترك |
- |
"باراك" |
الجيل الخامس من الدبابة الإسرائيلية المعروفة "الميركافا" وتدمج بين القدرات القتالية والذكاء الاصطناعي ومخصّصة للعمل في التضاريس الصعبة والمعقدة مثل جنوب لبنان |
تطوير مشترك | - |
"ماعوز" |
نوع مطوّر من طائرات "دورون" تستخدم لتفتيش المنازل والأنفاق قبل الدخول إليها وبعضها مزوّد بوسائل متقدّمة يتم التحكم بها عن بعض للتصويب وإطلاق النار وإلقاء القنابل |
قسم التكنولوجيا في الجيش |
- |
منظومة "السهم 3" |
منظومة دفاع جوي للتصدّي للتهديدات الصاروخية واعتراضها وتفجيرها خارج نطاق الغلاف الجوي |
تطوير مشترك |
2 مليون دولار للصاروخ الواحد |
"ماجين أور" |
منظومة دفاع جوي للتصدّي للتهديدات الصاروخية. تعتمد على نظام الليزر لتقليل تكلفة الاعتراض لمنظومات الدفاع الجوي الأخرى |
"رفائيل" و"إلبيت" |
1000 دولار للاعتراض الواحد |
“Habsora” |
نظام ذكاء اصطناعي لتوليد الأهداف التلقائي لسلاح الجو والذي أنتج "معمل الاغتيالات الجماعية" |
- | |
“Lavender” |
نظام ذكاء اصطناعي لتوليد الأهداف |
- | |
نظام ذكاء اصطناعي لتوليد الأهداف |
- |
عيّنة مختارة من التقنيات والأسلحة التي تم استعراضها والترويج لها إسرائيليًا، أو تم الكشف عنها خلال حرب الإبادة.
على النقيض من التقارير التي أشارت إلى تراجع مكانة إسرائيل عالميًا في مجال الأسلحة والتقنيات العسكرية- الأمنية بسبب الفشل في 7 أكتوبر، فإن الأرقام تُظهر عكس ذلك، مثلاً، شركة "إلبيت سيستمز"، وهي أكبر شركة لتصنيع الأسلحة في إسرائيل، ارتفع التراكم في دفاتر الطلبيات فيها بمقدار الثلث في العام 2024 ليصل إلى 22.1 مليار دولار، كما ارتفع التراكم لشركة "رافائيل" بنسبة 36% إلى 60.1 مليار شيكل، وبشكل مشابه ارتفع تراكم الطلبيات بنسبة 50% لـ "الصناعات الجوية" إلى 24.9 مليار دولار. تؤشّر هذه الأرباح على زيادة حادّة في الطلبات والأرباح رغم الإبادة والخشية من المقاطعة وفرض حظر تسلّح على إسرائيل مقارنةً بالسنوات السابقة، وقد استعرضنا أيضًا في مساهمة سابقة العديد من المعطيات التي تؤكّد دخول سوق الأسلحة والتقنيات الإسرائيلية في مرحلة انتعاش قياسي خلال حرب الإبادة، علمًا أن 75% من عائدات الصناعات الجوية الإسرائيلية، و50% من عائدات "رفائيل"، و75% من عائدات "إلبيت" تعود من التصدير للدول والجيوش حول العالم.
ووفقًا للمعطيات التي قدّمها تقرير "الصادرات الدفاعية" الإسرائيلية لعام 2023 ونشرتها صحيفة يديعوت أحرنوت، فقد شهد عام الحرب (2023) قفزة في حجم مبيعات أنظمة الدفاع الجوي، والتي بلغت 36٪ من حجم الصفقات مقارنةً بـ 19٪ في عام 2022، وقد شملت 11٪ من الصادرات الدفاعية أنظمة الرادار والحرب الإلكترونية، 11٪ أدوات تصويب والقاذفات، 9٪ الطائرات المأهولة وإلكترونيات الطيران، و8٪ ذخيرة وتسليح، و5٪ للمراقبة، و5٪ مركبات عسكرية ومدرعة، و4٪ أنظمة معلومات وتجسس واستخبارات، و4٪ طائرات بدون طيار (مقارنة ب 25٪ في عام 2022)، و4٪ أنظمة اتصالات، و2٪ أقمار صناعية وفضائية، و1٪ للأنظمة البحرية.
الفرص والمعيقات: تصنيع وتصدير أسلحة وتقنيات أكثر
على الرغم من حالة التباهي الإسرائيلية بصناعاتها وتقنياتها العسكرية- الأمنية، والمدفوعة بـ "المنجزات العسكرية المتحقّقة" خلال الحرب، تبرز العديد من المعضلات التي قد تحدّ من طموح القفزة الإسرائيلية في هذا المجال بشكل استثنائي وهما معضلتا المقاطعة (حظر التسلّح)، والاعتماد العسكري على الممولين الأجانب لا سيّما الولايات المتحدة الأميركية وما يترتّب على ذلك من ضغط سياسي. في هذا الصدد، واستجابةً لهذه المعضلات، علَت العديد من الأصوات الإسرائيلية التي طالبت بتقليل الاعتماد العسكري على الممولين الأجانب، وتحديدًا في أعقاب التلويح الأميركي بإيقاف بعض الشحنات، أو تأخيرها، بسبب خلافات إسرائيلية- أميركية حول طريقة "إدارة الحرب" لا على الحرب بحدّ ذاتها، حيث كان من أبرز التصريحات ما قاله رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في مقابلته المعروفة مع القناة 14: "علينا زيادة استثمارنا في صناعاتنا العسكرية المحلية للتوقف عن الارتباط بالآخرين" في إشارة إلى أن الاعتماد العسكري على الولايات المتحدة تترتّب عليه إملاءات سياسية فترة الخلاف حول العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح.
السنوات |
المساعدات العسكرية |
المساعدات الاقتصادية |
مشاريع الدفاع الصاروخي |
المجموع |
1946-2020 |
104,506,200 |
34,347,500 |
7,411,409 |
146,256,110 |
2021 |
3,300,000 |
- |
500,000 |
3,800,000 |
2022 |
3,300,000 |
- |
1,500,000 |
4,800,000 |
2023 |
3,300,000 |
- |
500,000 |
3,800,000 |
المجموع |
114,406,200 |
34,347,500 |
9,911,409 |
158,665,110 |
خلال حرب الإبادة |
22 مليار دولار |
- |
- |
- |
من ناحية أخرى، خلصت جلسة مداولة في لجنة الخارجية والأمن في الكنيست خلال كانون الثاني المنصرم ناقشت فيها مسألة الاستغناء عن الدعم العسكري الأميركي وتحويل الاعتماد لشراكة كاملة إلى التالي: 1) ضرورة تقليل اعتماد إسرائيل على التمويل العسكري الأجنبي الأميركي، والانتقال إلى شراكة في الابتكار الدفاعي والتصنيع العسكري؛ 2) المساعدات الأميركية العسكرية الحالية (3.8 مليار دولار سنويًا) ساهمت في "تعزيز أمن إسرائيل"، لكنها شجعتها على تبني عقيدة دفاعية تكنولوجية مكلفة وغير فعّالة، كما ظهر في هجوم 7 أكتوبر؛ 3) إسرائيل لم تعد بحاجة إلى الدعم المالي الأميركي كما في السابق، حيث يشكل برنامج المساعدات (FMF) 0.7٪ فقط من ناتجها المحلي الإجمالي و2.4٪ من ميزانيتها السنوية؛ 4) تقليص المساعدات العسكرية الأميركية تدريجيًا حتى إلغائها تمامًا يتطلب استمرار وصول إسرائيل إلى التكنولوجيا والمعدات العسكرية الأميركية، لكن بتمويل ذاتي إسرائيلي.
يصطدم هذا الطموح بحواجز عديدة، من ناحية، تعيق الاتفاقات الموقّعة بين إسرائيل والولايات المتحدة إمكانية وصول إسرائيل لحالة من الاستقلالية في التصنيع؛ إذ تُشكّل المساعدات العسكرية الأميركية جزءًا كبيرًا من ميزانية شراء الأسلحة والذخائر بموجب الاتفاق القائم مع الولايات المتحدة والممتدّ على مدار 10 سنوات وينتهي في العام 2028، حيث سيصل حينها الجزء المخصّص للإنفاق في إسرائيل إلى صفر بحلول ذلك العام، كما أن قدرة الشركات الإسرائيلية على استخدام حزمة المساعدات البالغة 14 مليار والتي وقّعتها الإدارة الأميركية السابقة في العام الماضي (2024) ضئيلة وتشترط أن يتم إنفاق الجزء الأكبر منها من خلال التصنيع في الولايات المتحدة الأميركية. من ناحية ثانية، حتى وإن استطاعت إسرائيل زيادة صناعاتها العسكرية بشكل مستقل فإنها أيضًا تصطدم بمعيقات الحظر الذي قد تفرضه بعض الدول على صادراتها من الأسلحة (فرنسا منعت إسرائيل من المشاركة مرتين في معارض تجارة الأسلحة)، بالإضافة إلى توجّه العديد من هذه الدول، ولا سيّما الدول الأوروبية إلى إنتاج الصناعات العسكرية (لا سيّما الدفاعية منها) في بلدانها للأسباب نفسها.
على الجهة المقابلة، يوفّر هذا التوجّه العديد من الفرص لإسرائيل، من ناحية، تسهم زيادة التصنيع الإسرائيلي وزيادة التصدير في ضمان توفير الاحتياجات العسكرية للجيش، وكذلك في تقليل تكاليف الحرب على قاعدة بيع الكثير من إنتاجه من الأسلحة في الخارج سيُساهم في تغطية، أو تقليل النفقات. من ناحية أخرى، تخطط وزارة الدفاع لاستثمار عشرات المليارات من الشواكل لتطوير وإنشاء بنية التحتية قادرة على بناء وتوسيع خطوط الإنتاج العسكري، الأمر الذي من شأنه تقليل الاعتماد على المساعدات العسكرية الخارجية، وكذلك دفع الاستثمارات في التكنولوجيا العالية (الهايتك) في الصناعة وخلق المزيد من فرص العمل ودفع الشركات الناشئة لتوسيع الاستثمار في التقنيات العالية والذكاء الاصطناعي، حيث من المقرّر أن تنمو ميزانية الدفاع للعام المقبل بنسبة 30% لتصل إلى 29.5 مليار دولار (أي 108 مليار شيكل) ذلك بعد أن أنفقت مبلغًا قياسيًا على الدفاع في عام 2024.
في هذا الصدد، منحت وزارة الدفاع شركة "إلبيت سيستيمز" قبل نهاية العام 2024 لبناء مصنع لصنع قنابل متطوّرة للطائرات الحربية من النوع الذي كانت تحصل عليه إسرائيل من الشركات الأميركية والتي استخدمت في عمليات حساسّة مثل اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله وقائد الجناح العسكرية لحركة حماس محمد الضيف وكانت تحتاج لأذونات وموافقات خاصة. على الجانب الآخر، وقّعت وزارة الدفاع صفقة ضخمة مع شركتي "إلبيت سيستمز" و"رفائيل" بقيمة بلغت 2 مليار شيكل للاستحواذ على منظومة الدفاع الجوي التي تعمل بواسطة الليزر "ماجين أور" التي يُتوقّع منها المساهمة في تقليل تكاليف الاعتراض لمنظومة "القبة الحديدية" والتي تقوم الولايات المتحدة بتزويد إسرائيل بصواريخ الاعتراض (50 ألف دولار قيمة الصاروخ الواحد).
في الختام، تُشير المعطيات التي أوردناها في هذه المساهمة إلى أن الصناعات العسكرية- الأمنية شهدت انتعاشًا ملحوظًا خلال حرب الإبادة على غزة ولبنان، الأمر الذي انعكس بالضرورة على حجم الصادرات الأمنية الإسرائيلية، وقدرتها على الترويج لهذه الصناعات مستقبلاً مستفيدةً من ميزة "النمط التجريبي للحرب"، الأمر الذي سيُسهم في تحسين وتثبيت مكانتها بين الدول في هذا المجال، وذلك على الرغم من الضربة الكبيرة التي تعرّضت لها في هذا المجال بسبب هجوم 7 أكتوبر. إن توجّه زيادة التصنيع والتصدير بالاستفادة من "الميزة" المُشار إليها تعترضه بعض المعيقات المرتبطة بالتورّط الأخلاقي والمحاكمات الدولية، لكن من الواضح أن العلاقات الأمنية- العسكرية استطاعت حتى هذه اللحظة الإفلات من تأثير الضغط الشعبي على الحكومات، بما في ذلك تبادل الأسلحة والتقنيات، خاصّة في ظل توجّه إسرائيلي واضح وملموس بتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة في هذا الجانب من أجل الإفلات من الضغط السياسي، وهو ما يتعزّز مع تغيّر الإدارة الأميركية والموقف الجمهوري الداعم لإسرائيل في حربها على الفلسطينيين.
* للمزيد، انظر/ي:
وليد حباس وعبد القادر بدوي، "هل نحن إزاء إخفاق إسرائيلي استراتيجي يفوق إخفاق حرب 1973؟ تقدير موقف أولي". ورقة تقدير موقف، مدار، 08.10.2023: https://short-link.me/Pc7D.
وأيضًا:
طاقم مدار، "من تداعيات "طوفان الأقصى": صناعة الجدران العازلة الإسرائيلية تُمنى بفشل ذريع!"، تقارير خاصة، مدار، 10.10.2023: https://short-link.me/Pc7-.
المصطلحات المستخدمة:
ديمونا, لجنة الخارجية والأمن, الهاغاناه, باراك, عوزي, الكنيست, مدير عام وزارة, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو