منذ السابع من أكتوبر 2023، تخضع الضفة الغربية لهجوم إسرائيلي يمكن وصفه بأنه شامل: أعمال حربية واسعة النطاق، اعتداءات من قبل المستوطنين، خنق للاقتصاد الفلسطيني، تصريحات علنية معادية لمؤسسات السلطة الفلسطينية، وتطويق خانق للمدن الفلسطينية.
تنظر ورقة تقدير الموقف هذه في العلاقة بين إسرائيل والضفة الغربية (سكاناً، وأرضاً، وسلطة) بعد السابع من أكتوبر، ولا ترى في هذا الهجوم الإسرائيلي مجرّد تصعيد كمّي في الاعتداءات والانتهاكات؛ وإنما بوادر تحول تحتاج إلى رصد لاستشراف مآلاته.
القسم الأول من هذه الورقة يرصد أربعة جوانب أساسية طغت على المشهد الإسرائيلي- الفلسطيني في الضفة الغربية وهي: 1) الأعمال الحربية؛ 2) محاولات فصل السلطة الفلسطينية إدارياً عن قطاع غزة؛ 3) إيقاف دخول العمال إلى إسرائيل والإفقار الاقتصادي المتعمّد؛ 4) هيمنة قادة المستوطنات على مؤسسات الاحتلال. بعد استعراض هذه الجوانب التي وضعت الضفة الغربية في حالة توتر شديد، ينظر القسم الثاني من هذه الورقة إلى العوامل التي قد تساهم في تشكيل مستقبل الضفة الغربية سياسياً بعد انتهاء الحرب، وأهمها 1) العوامل الإسرائيلية الداخلية (أي الصراعات الحزبية- السياسية والتناقضات داخل كابينيت الحرب)؛ 2) والعوامل الخارجية (بالتركيز على مواقف الإدارة الأميركية، الأمم المتحدة، والمملكة العربية السعودية).
القسم الأول: أوضاع الضفة الغربية بعد السابع من أكتوبر
كان العام 2023 هو الأكثر دموية بالنسبة للفلسطينيين في الضفة الغربية منذ العام 2005. فقد اندلعت الحرب في السابع من أكتوبر في ظل مشهد سياسي- اجتماعي قاتم في الضفة الغربية: من جهة؛ القنوات التفاوضية- السياسية بين إسرائيل ومنظمة التحرير متوقفة منذ العام 2014. من جهة ثانية؛ إسرائيل شكلت حكومة يمينية دينية محافظة في نهاية العام 2022 وعلى أجندتها "تسوية" أوضاع المستوطنين في الضفة الغربية وإنهاء حل الدولتين. من جهة ثالثة؛ عدد المستوطنين في الضفة الغربية بدون القدس ناهز 500 ألف، وهو ما يشكل نحو 14٪ من سكان الضفة الغربية بدون القدس. تعتبر الحكومة الإسرائيلية بأن نحو 60٪ من مساحة الضفة (أي المناطق "ج") تقع خارج إطار التفاوض المستقبلي على مصير الدولة الفلسطينية، بينما تسيطر المجالس الاستيطانية على نحو 15.5% من مساحة الأراضي "ج". ومن جهة رابعة؛ وصل عدد الشهداء في الضفة الغربية قُبيل اندلاع الحرب إلى نحو 243 شهيداً (من ضمنهم 9 برصاص المستوطنين). في ضوء هذا المشهد المتأزّم، اندلعت حرب في السابع من أكتوبر، وكانت انعكاساتها في الضفة الغربية على النحو التالي:
- الاستباحة الكاملة للمناطق الفلسطينية
شهدت مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية هجمات عسكرية غير مسبوقة (تحديدًا في مناطق شمال الضفة الغربية). إن تفحّص التقنيات القتالية المستخدمة والعنف المفرط المُصاحب لها، يترك مساحة كبيرة للاعتقاد بأن الضفة الغربية تشكل جبهة حرب أخرى بالنسبة لإسرائيل؛ فالهجمات العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية لا تتم إلى جانب الحرب على غزة وإنما هي، كما تُظهر المعطيات، جزء منها.
وقد تضمّنت هذه العمليات العسكرية بعد السابع من أكتوبر تكتيكات عسكرية جديدة مثل استخدام الطائرات بدون طيار (تم العودة إلى استخدام الطائرات بدون طيار لتنفيذ هجوم عسكري في حزيران 2023، لأول مرة منذ العام 2006)، والتدمير الشامل لأحياء ومرافق مدنية، وترافقت مع ثلاثة تطورات بارزة:
- زيادة حادة في الاعتقالات: حسب هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني تم اعتقال ما يقرب من 6370 فلسطيني/ة بحلول نهاية كانون الثاني 2024 (يمثّل هذا العدد حالات الاعتقال ككل)، نسبة كبيرة منهم تم تحويله للاعتقال الإداري. بالتزامن، أخضعت إدارة مصلحة السجون، وبتوصيات من وزير الأمن الداخلي ايتمار بن غفير، الأسرى الفلسطينيين لظروف اعتقال مأساوية غير مسبوقة، أدّت إلى استشهاد سبعة من الأسرى حتى الآن، تم فتح تحقيق في بعض الحالات. وتم تعيين مفوض جديد لمصلحة السجون (كوبي يعقوبي)، وهو صاحب أجندة مقبولة على الوزير ايتمار بن غفير. يدفع يعقوبي إلى "قوننة" الإجراءات غير الإنسانية التي سادت في السجون بعد الحرب، وإدراجها في تعليمات ولوائح جديدة.
- إغلاق تطويقي لمدن الضفة الغربية، بحيث تم إغلاق منافذ أساسية وحيوية تربط بين المدن الفلسطينية. لم تشهد الضفة الغربية في السابق مثل هذه التطويق منذ الانتفاضة الثانية، الأمر الذي حدّ من حركة الفلسطينيين وغيّر بشكل ملموس من جدول حياتهم الاجتماعي والاقتصادي. للتوضيح، تفرض إسرائيل نظام سيطرة معقد على حركة الفلسطينيين، يشمل نحو 645 حاجزاً وسداً وبوابة، تحيط بكل مداخل القرى والمدن والمخيمات. بعد السابع من أكتوبر، قامت إسرائيل بإغلاق العديد من هذه الحواجز مما أدّى إلى "شلل" الحياة الطبيعية للفلسطينيين وأثّر بشكل مباشر على الوصول إلى الخدمات الطبية، وعرقل الأعمال التجارية.
- تصاعد عنف المستوطنين، مما أسفر عن استشهاد فلسطينيين، وتدمير ممتلكات، ومصادرة أراضٍ، وتهجير تحت تهديد السلاح لأكثر من 2,000 شخص. وكثيراً ما يُنفذ عنف المستوطنين هذا مع إفلات واضح من العقاب، وفي بعض الحالات، بدعم من الجنود الإسرائيليين، ويشمل بحسب بعض الشهادات اعتداءات جنسية، وغير مألوفة في المشهد السابق على 7 أكتوبر.
- فصل قطاع غزة عن السلطة الفلسطينية
لقد استفادت إسرائيل بشكل مباشر من الانقسام الفلسطيني بعد العام 2006، تحديداً في عرقلة أي مسار سياسي يتعلق بحل الدولتين. ومع ذلك، ظلّت السلطة الفلسطينية (في رام الله) هي المسؤولة، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن قطاع غزة إدارياً، واتضح ذلك من اعتبار الجغرافيتين (أي الضفة الغربية وقطاع غزة) وحدة واحدة في ما يخص تقارير وزارة المالية الفلسطينية، جدول الرواتب، المؤشرات الاقتصادية، السجّل السكاني وغيرها. كما أنه كان بإمكان السلطة الفلسطينية قبل السابع من أكتوبر إصدار أوامر إدارية نافذة في القطاع مثل، تعيين محافظين، الصرف على الخدمات العامة والبلديات والتحدث رسمياً باسم القطاع أمام المجتمع الدولي. لكن منذ 7 أكتوبر، يشير سلوك الحكومية الإسرائيلية تجاه السلطة الفلسطينية إلى بوادر تحولين مهمين:
التحول الأول؛ يشير إلى توجّه إسرائيلي لفصل السلطة الفلسطينية، إدارياً ومالياً، عن قطاع غزة. في بداية العام 2024، نشر يوآف غالانت خطة أولية لليوم التالي للحرب (Day After Plan)، وأعلن أن لا مكان في هذه الخطة للسلطة الفلسطينية، على الأقل بشكلها الحالي. كما أعلن نتنياهو في نهاية العام 2023 بأنه لن يسمح لـ "فتح" أو "فتحستان" بتولّي دور إداري في قطاع غزة في اليوم التالي للحرب. من هنا، يُمكن النظر إلى قضية أموال المقاصة العالقة منذ بداية الحرب ليس باعتبارها مجرد مسألة مالية بحتة على غرار الانتهاكات السابقة التي صادرت إسرائيل بموجبها أو احتجزت جزءاً من أموال المقاصة؛ بل أن اقتطاع نحو ثلث أموال المقاصة المخصصة لقطاع غزة، واعتبارها أموالاً لا تقع ضمن اختصاص السلطة الفلسطينية يشير إلى تحول في مفهوم اتفاق أوسلو لدى الإسرائيليين. وحسب المادة 4 من اتفاق أوسلو الأول (لعام 1993)، تغطي صلاحيات السلطة كلاً من الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي اتفاق أوسلو 2 (لعام 1995) وتحت المادة 11 جاء "يرى الطرفان [أي إسرائيل ومنظمة التحرير] بأن الضفة الغربية وقطاع غزة هما وحدة جغرافية، وسوف يتم الحفاظ على وحدتهما ووضعيتهما خلال المرحلة الانتقالية".
يؤشّر التحول الثاني إلى توجه لإلغاء التقسيمات الأمنية لاتفاقيات أوسلو والإبقاء على التقسيمات الإدارية. وحسب اتفاقية أوسلو، تتمتع السلطة الفلسطينية بصلاحيات أمنية على المناطق "أ" فقط (نحو 12٪ من الضفة الغربية) بالإضافة إلى صلاحيات إدارية على المناطق "أ" والمناطق "ب" (سوية نحو 39٪ من الضفة الغربية). يتكشف هذا التحوّل في تصريحات نتنياهو، المتكرّرة (آخرها في منتصف كانون الثاني 2024، بـأن "على إسرائيل أن تحكم أمنياً كل المناطق الواقعة شرقي نهر الأردن".
- إيقاف العمال مؤقتاً أم طرد العمال نهائياً؟
منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر، يبدو أن إيقاف دخول مئات الآلاف من العمال إلى إسرائيل يُصنّف كـ "حالة" مؤقتة، لكنها قد تطول. وقد لا يكون هناك بديل للعمال الفلسطينيين على المدى القصير، بحيث يتفهّم أعضاء الحكومة على نطاق واسع بأنه عاجلاً أو آجلاً سيتم الانصياع لـ "توصيات" المستويات الأمنية بإدخال العمال إلى أماكن عملهم في إسرائيل. أما على المدى البعيد، فثمّة أصوات سياسية داخل الائتلاف الحاكم ترى أن "المفهوم القديم" بأن التبعية الاقتصادية هي أداة أساسية للسيطرة على الفلسطينيين بات "مفهوماً فاشلاً" ويجب تجاوزه. وبغض النظر عن تبعات هذه التصريحات السياسية التي تتعارض مع التوصيات الأمنية، فإن الحكومة الإسرائيلية تواجه ثلاث معضلات من وجهة نظرها:
- معضلة القدرة على السيطرة- العمل الفلسطيني في إسرائيل يشكل أداة أساسية للسيطرة على المجتمع الفلسطيني؛ ومنع العمال الفلسطينيين من العمل في إسرائيل سيزيد من حالة الضغط الشعبي، ويقلل من قدرة إسرائيل على السيطرة والمناورة أمام المجتمع الفلسطيني. ففي العام 2022 مثلاً، عمل نحو 22.5٪ من القوى العاملة في الضفة الغربية في إسرائيل (نحو 204 آلاف عامل)، وساهم عملهم بنحو 24٪ من الدخل القومي الفلسطيني؛ انعدام الاعتماد الاقتصادي الفلسطيني على إسرائيل يعني انعدام وجود ذراع للضغط عليه بحسب الحاجة السياسية. وللتوضيح، يُدخل العمال في إسرائيل نحو 370 مليون دولار إلى الضفة الغربية في كل شهر، بينما تمتلك إسرائيل الأدوات لإيقافها أو تسهيلها متحكّمة في جزء بارز من دخل الضفة الغربية.
- قطاعات أساسية في الاقتصاد الإسرائيلي تعتمد بشكل رئيس على العمالة الفلسطينية، وإيقافها بدون توفير بديل ستكون له تبعات اقتصادية على قطاعات أساسية في إسرائيل. مثلاً، في 2020 كان قطاع البناء والإنشاءات في إسرائيل مسؤولاً عن نحو 11-12٪ من الدخل القومي الإسرائيلي، ويتم تمويله من قبل البنوك والشركات المالية بنحو 1000 مليار شيكل. وللعلم، يُشغّل قطاع البناء في إسرائيل نحو 380 ألف عامل، أكثر من ثلثهم من فلسطينيي الضفة الغربية، بيد أن هؤلاء العمال الفلسطينيين مسؤولون عن 80٪ من الأعمال الأساسية التي تحتاجها حالياً شركات البناء لتسديد التزاماتها للبنوك (تحديداً: الصب، التبليط والقصارة). ونظراً لأن قطاع البناء مرتبط بشكل عضوي مع البنوك؛ فإن البنك المركزي لإسرائيل يتابع ملف إيقاف العمال عن كثب، ويعمل على عدم الوصول إلى حالة "تنهار" فيها قطاعات اقتصادية في إسرائيل كأحجار الدومينو، وهو أمر بالإمكان ضبطه حتى الآن.
- منحت شركات البناء الإسرائيلية واتحاد المقاولين وقتاً كافياً للحكومة للبحث عن بدائل. بيد أنه حتى نهاية العام 2023 استطاعت الحكومة الإسرائيلية "استيراد" فقط 5000 عامل من الهند، 3000 من أوزباكستان، 2000 من سريلانكا، مما يعني فشل خطة نير بركات الرامية لاستبدال العمالة الفلسطينية بشكل تدريجي ونهائي (ولا توجد خطة بديلة لها على طاولة الحكومة الإسرائيلية حالياً).
- ممثلو المستوطنين يقودون رسمياً مؤسسات الاحتلال في الضفة الغربية
منذ انتهاء اللقاءات السياسية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي التي كان آخرها عام 2014، يُشارك قادة المستوطنين في النقاش المستمر حول مصير الأراضي "ج" في الضفة الغربية، ويدفعون باستمرار نحو تطبيق السيادة الإسرائيلية عليها و"ضمّها قانونياً" لدولة إسرائيل. وفيما وفّر العقدان المنصرمان مساحة مريحة للمستوطنين لتوسيع الاستيطان بشكل يرجّح أكثر خيار "ضمّ" الأراضي "ج" مستقبلاً، يعمل المستوطنون منذ بداية الحرب على غزة وفق أجندة مُعلنة- يوسي داغان مدير عام مجالس المستوطنات شرح هذه الأجندة بوضوح: 1) اتفاق أوسلو مات؛ 2) 80٪ من الفلسطينيين يرحبون بهجوم حماس وبالتالي فهم أعداء؛ 3) على إسرائيل رفع كافة القيود عن التوسّع الاستيطاني كرد على هجوم حماس. لقد اعترضت الولايات المتحدة على تصرفات المستوطنين "المتطرفة" بيد أن الأمر لم يساهم حتى الآن في وضع نهاية للمشروع الاستيطاني المنهجي في الضفة الغربية. ولا بد من التأكيد، على أن ممثلي المستوطنين الأكثر تطرفاً (التيار الحردلي-المتعصّب قومياً والمتزمت دينياً) يقفون اليوم على رأس أهم مؤسستين تشرفان على الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية:
- مكتب المنسق (ومن ضمنه الإدارة المدنية): منذ شباط 2023 تم تنصيب بتسلئيل سموتريتش وزيراً مسؤولاً عن مكتب "المنسق" و"الإدارة المدنية" وبجعبته أجندة مُعلنة حول "ضم" الضفة الغربية ورفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية (دون القدس) وحدها من 500 ألف في 2022 إلى مليون حتى عام 2030. لقد استعرضنا سابقًا في مركز مدار معاني هذا التحول (نقل صلاحيات الاحتلال من الجيش إلى المستوطنين أنفسهم). ومع ذلك، لا بد من الإشارة لبعض الإحصائيات الجديدة؛ فمنذ بداية الحرب وحتى نهاية العام 2023، قام المستوطنون ببناء 9 بؤر استيطانية جديدة، شقّ 18 طريقاً إسفلتياً جديداً، مصادرة مئات الدونمات من خلال تسييجها وتحويلها إلى مراعٍ للمستوطنين. وقد تم ذلك بدون الرجوع إلى "القنوات البيروقراطية" التي تمرّ عادةً عبر "الإدارة المدنية" والوزارات الإسرائيلية؛ وإنما من خلال أعمال ارتجالية تركتها الحكومة الإسرائيلية تجري بدون تدخل- وهنا تكمن أهميتها التي تشير إلى استحواذ المستوطنين على نوع من السيادة الذاتية في الضفة الغربية.
- منذ تشرين الثاني عام 2023، تم تعيين تسيفي سوكوت رئيساً لملف الضفة الغربية داخل لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، وهي لجنة مفتاحية ومعظم جلساتها سرية وتشرف على صياغة التصورات الإستراتيجية لوضعية الأراضي المحتلة وكيفية حكمها. على الرغم من أن رئاسة هذه اللجنة تتطلب اختيار "ضابط" من داخل المؤسسة الأمنية؛ إلّا أن توغل المستوطنين في الدولة العميقة أدى إلى تعيين سوكوت، الذي تم اعتقاله مرات عدّة لتطرفه وقيادته السابقة لـ "شبيبة التلال"، وتم رفض تجنّده للجيش في وقت سابق لأنه "غير ملائم للخدمة".
- مع اقتراب نهاية ولاية قائد "المنطقة الوسطى" في الجيش، العميد يهودا فوكس، فإن قيادة المستوطنين بالإضافة إلى مجلس الاستيطان في الضفة الغربية يدفعون باتجاه تعيين عميد جديد يكون أكثر مناصرة للمستوطنين، وصاحب قبضة أكثر بطشاً؛ علمًا أنه منذ العام 1967، يُشكّل قائد "المنطقة الوسطى" الحاكم الأعلى الفعلي للضفة الغربية، وهو الذي يصادق على الأوامر العسكرية، ويشرف على "إنفاذ القانون"، بما يشمل هدم/ بناء مستوطنات، شق طرق، العمليات الحربية ضد الفلسطينيين، وأوضاع الحواجز والطرق الالتفافية، وهو رئيس كافة الهيئات العسكرية العاملة في الضفة الغربية بما فيها المحاكم العسكرية، كتائب الجيش، مكاتب التنسيق والارتباط، وهو مسؤول عن تصعيد (أو منع تصعيد) الأوضاع داخل الأرض المحتلة.
القسم الثاني: ما هو مصير الضفة الغربية في ظل الحرب على غزة؟- قراءة في العوامل الخارجية والداخلية
كتب الصحافي الإسرائيلي أمير بن دافيد بأن إسرائيل التيس نعرفها قد ماتت، وإسرائيل جديد قد ولدت بعد 7 أكتوبر بما فيها علاقاتها الخارجية، حياتها السياسية-الحزبية، ومفهوم صراعاتها في الشرق الأوسط. إن المشهد الذي تُشكّله المحاور والمعطيات الواردة في القسم الأول كفيل بتأكيد الادّعاء بأن المشهد الحالي في الضفة الغربية غير مألوف منذ نهاية الانتفاضة الثانية. أما على صعيد العلاقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، فإن السلوك الإسرائيلي لليمين المحافظ والمتطرف يشير إلى بوادر تحولات تسعى إسرائيل من خلالها إلى فرض دور جديد للسلطة الفلسطينية خارج إطار اتفاقيات أوسلو ووعوداتها السياسية. من ناحية إسرائيل، فإن عوامل داخلية وخارجية عدّة قد تسهم في تشكيل مشهد الضفة الغربية في اليوم التالي للحرب:
- تفاعلات المشهد السياسي-الحزبي في إسرائيل؛ وبالتحديد تركيبة الائتلاف الحكومي التي تعتبر عوامل سلبية مغذّية. تشير تقارير إسرائيلية أمنية إلى محاولة المركّبات الأكثر تطرفاً داخل الائتلاف الحاكم (بالتحديد حزبي الصهيونية الدينية بزعامة سموتريتش وقوة يهودية بزعامة بن غفير) الدفع باتجاه إشعال الضفة الغربية، بالتوازي مع الحرب على غزة. هذه الأجندة التي عكستها التقارير الإسرائيلية الأمنية تأتي مدفوعة بعقيدة أيديولوجية وبرنامج سياسي لـ "حسم الصراع" مع الفلسطينيين. هذا كلّه يتعزّز في ظل استمرار منح بنيامين نتنياهو هذه التيارات الاستيطانية مساحة واسعة لاتخاذ القرارات في ما يتعلّق بالضفة الغربية، وبخلاف توصيات المؤسسة الأمنية أحيانًا. وبالرجوع إلى الاتفاقيات الإئتلافية، فإن تقييد قدرات هذه التيارات الاستيطانية قد يؤدي إلى انهيار الحكومة، وهو سينارو يسعى نتنياهو إلى تجنّبه في المنظور القريب. في المقابل، هناك تحول متسارع في موقف الشارع الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين في الأرض المحتلة، ومفهوم حل الدولتين، سيما أن هجوم طوفان الأقصى الذي شنّته حركة حماس في 7 أكتوبر تم عرضه كدليل على استحالة التسوية السلمية، واستُخدم لسحب البساط من تحت أقدام الأصوات الإسرائيلية التي كانت تدعو إلى "إنهاء الاحتلال"، ضمن هذا السياق تحولت القضية الفلسطينية من شأن سياسي (يمكن الاختلاف عليه) إلى شأن أمني (تتقلّص الاختلافات حوله باستمرار).
- دور الولايات المتحدة: منذ بداية الحرب: اتفقت إسرائيل والولايات المتحدة على هدفي "القضاء على حركة حماس واستعادة الأسرى"، ومن هنا اعتبرت الولايات المتحدة نفسها شريكاً في الحرب. إلى جانب قصف الحوثيين، وإرسال بوارج حربية وأسلحة وأموال إلى إسرائيل، قام وزير الخارجية الأميركي بلينكين بأربع زيارات إلى إسرائيل، في بعضها شارك في جلسات الكابينيت الحربي. مع ذلك، ثمة اختلافات سياسية آخذة بالاتساع بين إسرائيل والولايات المتحدة، خصوصاً في ما يتعلق بالتسوية المستقبلية للحياة السياسية للفلسطينيين التي ترى الولايات المتحدة أنها تستند إلى حل الدولتين، وهو ما يُقابل بمعارضة مُطلقة من الحكومة الإسرائيلية. على الرغم من أن الولايات المتحدة تعلن أنها ستظل حليفة إستراتيجية لإسرائيل، فإن الخلاف بينهما في ما يخص المسألة الفلسطينية آخذ بالاتساع، وبالتالي يفتح مساحة للعمل سواءً من قبل السلطة الفلسطينية أوالدول العربية.
- أعادت الحرب على غزة الاهتمام الدولي، الشعبي والإعلامي، وهذا قد يُحبط بشكل بارز المساعي الإسرائيلية المبذولة على مدار السنوات الماضية لتهميش القضية الفلسطينية وعزلها والعمل على حسمها عبر نهج "إدارة الصراع" الذي شكّل غطاء لتوسيع الاستيطان وفرض واقع جديد على الأرض. يُذكر أن هيئات أممية ومنظمات حقوقية عالمية كانت قد بدأت تشدد من خطابها تجاه سياسات إسرائيل الاستيطانية في الأرض المحتلة، تحديداً منذ العام 2021. ويمكن القول إن الساحة الدولية تعتبر حالياً ساحة ناضجة لتقبّل برنامج فلسطيني واضح حول المستقبل السياسي للقضية الفلسطينية، ارتباطاً بتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بأن الحرب الحالية لم تندلع من فراغ، وإنما وليدة سياق اتسم بإنسداد الأفق السياسي أمام الفلسطينيين.
- تُشكّل المواقف السياسية للدول العربية المحيطة بإسرائيل، تحديداً، مصر والأردن، عاملاً حاسماً في إمكانية تمرير إسرائيل لأجنداتها الاستيطانية في الضفة والقدس. حتى الآن، تقوم هذه الدول (بالإضافة إلى جامعة الدول العربية) ببذل جهود سياسية أقل بكثير من قدراتها ومكانتها الإقليمية، وهو ما يحتاج إلى تفعيل جهود جدية من قبل السلطة لفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية لحث الدول العربية على تشكيل حاضنة تمنع مضي إسرائيل قدماً في مخططاتها السياسية تجاه القضية الفلسطينية.
- ارتباطاً بالنقطة السابقة، قد تكون مسألة "تطبيع العلاقات الإسرائيلية- السعودية" التي تطرحها الولايات المتحدة بشكل مستمرّ أحد العوامل المؤثرة في تشكيل المشهد المستقبلي في الضفة الغربية، خصوصاً في ظل اشتراطات سعودية بإقامة (أو بالوعود بإقامة) دولة فلسطينية. وهو الأمر الذي يتعزّز بإعلان غير مسبوق لبعض الدول الأوربية الغربية عن رغبتها الاعتراف بدولة فلسطينية في المستقبل، مثل بريطانيا، إسبانيا، النرويج.
على الرغم من أن الاستعراض أعلاه للهجوم الإسرائيلي، من قبل الحكومة والجيش والمستوطنين، على الضفة الغربية يدعو إلى الاعتقاد بأن القضية الفلسطينية على مشارف تحولات لم تكتمل معالمها بعد، فإن هناك العديد من العوامل التي قد تشكل أرضية ملائمة لإيقاف الهجمة الإسرائيلية على القضية الفلسطينية، وهي عوامل تحتاج إلى تغذية سريعة من قبل الفلسطينيين. لكن، حتى الآن يمكن وصف المشهد المتعلق بالضفة الغربية بالحالة السياسية "اللزجة" التي تضع مصير الضفة الغربية، أرضا وشعباً وسلطة، أمام مستقبل خطير يحتاج إلى استراتيجية عمل نشط وفوري.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, مصلحة السجون, بتسلئيل, لجنة الخارجية والأمن, الإدارة المدنية, الكنيست, بنيامين نتنياهو