خلفية تاريخية
اليهودية الحريدية هي مجموعة تيارات في اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية ويعرف أتباعها باسم الحريديم. ويتميز الحريديم، ويطلق على الفرد كنية حريدي، بالحرص البالغ على العيش بموجب تعاليم الشريعة اليهودية. وتعني كلمة حريديم الذين يهابون الله.
ونشأت النظرة الحريدية في موازاة وكرد فعل على التحولات الثقافية والعلمانية والانصهار بين اليهود الأشكناز، أي اليهود الأوروبيين، في القرن التاسع عشر. وتم إطلاق تسمية حريديم على تلامذة الحاخامات الذين عكفوا على دراسة التوراة طوال حياتهم وكانوا ينفذون تعاليم التوراة وفروضها بدقة وتزمت. واتسعت ظاهرة الحريديم في نهاية القرن التاسع عشر. وقد تطورت هذه الظاهرة في موازاة تحولات كبيرة في أوروبا، مثل النهضة الثقافية وظاهرة التحرر في أوروبا الغربية التي دفعت الكثيرين من اليهود إلى الخروج من مجتمعاتهم والانصهار داخل المجتمعات في الدول التي يعيشون فيها، ونتيجة لذلك قرر الكثيرون اعتناق الديانة المسيحية.
ونشأت في تلك الفترة الحركة الصهيونية، التي تعتبر أنها كانت حركة "للعودة إلى إطار المجتمع والأمة اليهوديين". لكن معظم مؤيدي الصهيونية لم يكونوا من اليهود المتدينين الأرثوذكس. كذلك فإن الكثير من الشبان اليهود ساروا في أعقاب الفكر القومي في موازاة تطور العلمانية في الغرب، وبضمن ذلك بين اليهود في أوروبا. وشعر اليهود المتدينون الأرثوذكس إزاء كل هذه التحولات بأنهم مهددون وسعوا إلى "حماية" أنفسهم منها. وفي هذا السياق التاريخي تأسست حركة "أغودات يسرائيل" في أوروبا والتي ما زالت قائمة وتنشط بين الحريديم في إسرائيل حتى يومنا هذا.
ولا يزال الجمهور الحريدي يتحفظ من الحركة الصهيونية حتى اليوم، ولكن بدرجات متفاوتة، بدءا من اللامبالاة وحتى المعارضة الشديدة. وعلى أثر هذا التحفظ والتخوف من العلمنة، فإن معظم حاخامات الحريديم لم يشجعوا الهجرة اليهودية الجماعية إلى فلسطين في فترة ما بين الحربين العالميتين. وهذا التحفظ من الحركة الصهيونية هو أحد الاختلافات الأيديولوجية بين الحريديم وتيار الصهيونية الدينية.
مميزات الحريديم
انغلاق وتقوقع الحريديم يتميزان بشدة الإيمان الديني والانعزال المتعمد عن المجتمع غير الحريدي، بهدف الحفاظ على القيم التقليدية والتحسب من تغلغل ثقافة الغرب والقيم غير المقبولة على الحريديم. ولا ينحصر تقوقع الحريديم في المجال الديني فحسب، وإنما يتم التعبير عنه أيضًا من خلال الامتناع عن المشاركة في مراسم مدنية ذات بعد علماني، مثل مراسم وطنية أو الاحتفالات بيوم استقلال إسرائيل.
وتعزل المجتمعات الحريدية نفسها في إسرائيل عن بقية المجموعات السكانية وحتى بينها وبين بعضها، بواسطة سكن مختلف وأجهزة تعليم خاصة بكل مجتمع، والامتناع عن قراءة أدبيات غير حريدية وإشراف ورقابة لمضامين وسائل الإعلام التي يستهلكونها. ويتم التعبير عن ذلك، أيضا، من خلال الحظر المفروض على الفتيات بشأن الانخراط في الخدمة العسكرية والخدمة الوطنية، وإرجاء تجند الشبان الحريديم للخدمة العسكرية إلى سن متأخرة نسبيا، 22 عاما بدلا من 18 عاما، بهدف الامتناع عن الابتعاد عن الدراسة، وبسبب إشكاليات شرعية متعلقة بالخدمة العسكرية، مثل الحشمة وتناول الطعام والشراب غير "الكاشير"، أي غير الحلال بموجب الشريعة اليهودية. كذلك يمتنع الحريديم عن الدراسة الأكاديمية في الجامعات والكليات وإنما فقط في كليات خاصة بهم.
ويتحدث أفراد بعض الجماعات الحريدية فيما بينهم بلغة الييديش، وليس بالعبرية، التي يستخدمونها كلغة الصلاة ودراسة التوراة. وهذه الحال تغلب على الحريديم خارج إسرائيل وليس في إسرائيل. ويقاطع الحريديم وسائل الإعلام التي تسير في ركب الحضارة الغربية العلمانية، من أجل منع تأثيرات "سلبية". ويتم التعبير عن ذلك، مثلا، من خلال الحظر المفروض على مشاهدة التلفاز. وحتى أن قسما من القيادة الحريدية يحاول منع ربط بيوت الحريديم بشبكة الانترنت أو قراءة الصحف غير الحريدية. إلا أن الدعوات لمقاطعة شبكة الانترنت لم تنجح كثيرا في السنوات الأخيرة. وتشير المعطيات إلى أن ثلث الحريديم يتصفحون مواقع الانترنت، لكن غالبا ما تكون هذه مواقع الكترونية ذات طابع حريدي ولأغراض العمل. ويستهلك الحريديم وسائل إعلام خاصة بهم، وخصوصا صحفا، مثل "همودياع" و"ياتيد نئمان" و"مشبحاه". وهناك وسائل أخرى يستخدمها الحريديم، مثل الإعلانات التي يلصقونها على الجدران والمناشير.
المجموعات الحريدية
تفيد المعطيات الرسمية أن عدد الحريديم في إسرائيل بلغ 736 ألفا في العام 2010، ويتوقع أن يتجاوز عددهم المليون نسمة في العام 2022. وتجمع الحريديم الثاني من حيث كبره موجود في الولايات المتحدة، حيث يبلغ عددهم قرابة النصف مليون. ويشكل الحريديم نسبة 9% من السكان في إسرائيل.
وأقامت إسرائيل مدنا خاصة للحريديم في الضفة الغربية، في سنوات الثمانين والتسعين، وهي المستوطنات "موديعين عيليت" و"بيتار عيليت" و"إلعاد". وهناك مستوطنات أخرى غالبية المستوطنين فيها من الحريديم.
وينقسم الحريديم إلى المجموعات التالية:
الليتوانيون:
التيار الحريدي المركزي هو التيار الليتواني. وتعتبر مؤسسة الييشيفوت أهم مؤسسة في عالم الحريديم الليتوانيين، وأبرزها "ييشيفاة فولوجين". ويتزعم هذا التيار الحريدي الحاخامون يوسف شالوم إلياشيف وأهارون يهودا لييف شطاينمان وحاييم كنييفسكي. ويبدو أن هؤلاء الحاخامات الثلاثة هم الأكثر تأثيرا على عالم الحريديم، ويعرفون بـ "الكبار". وبسبب الطاعة الشديدة لهؤلاء الحاخامات فإنهم يبلورون الأجواء السائدة في مجتمعهم. ويتمتع الحاخامات المقربون من "الكبار" بمواقع النفوذ والتأثير.
وكان بالإمكان ملاحظة فوارق بين قادة الجمهور الحريدي الليتواني وقادة جمهور الحسيديم (أي الورعين)، الذين يسمون "أدموريم"، وهي كلمة مختصرة لوصف كبار حاخامات الحسيديم وتعني "سيدنا ومعلمنا وحاخامنا". وكان الـ "أدموريم" ضالعين في كافة نواحي حياة مجتمعهم بينما "الكبار" لا يتدخلون في شؤون الحياة اليومية. أما اليوم فقد اختفت هذه الفروق بعدما أصبح الحاخامات الليتوانيين يتوجهون إلى "الكبار" في جميع المجالات مثل الحسيديم الذين يتوجهون إلى الـ "أدموريم".
ويتميز الحريديم الليتوانيون بتخصيص كل وقتهم للدراسة المنهجية للتلمود وتفاسيره، ويكاد لا يتم تدريس التوراة والصوفية اليهودية والفلسفة اليهودية في الييشيفوت الليتوانية. ويدرس طلاب هذه الييشيفوت موضوعا آخر هو الأخلاق. ويعتبر الحريديم الليتوانيون أن دراسة التوراة هي قيمة عليا، رغم أن قسما من الرجال في هذا المجتمع يتوجه إلى العمل بدلا من الييشيفوت، بينما يتم وصف طلاب الييشيفوت بأن "توراتهم حرفتهم".
الحسيديم:
يتميز الحسيديم بالتشدد أكثر من غيرهم من التيارات الحريدية، لكن نسبتهم بين الطلاب الذين "توراتهم حرفتهم" أقل من الليتوانيين، وينبع ذلك من تأثير الأيديولوجية الحسيدية التي تدعو إلى تقديس الحياة بحد ذاتها وليس الحياة الروحانية.
ويوجد لكل واحدة من الجاليات الحسيدية "أدمور"، وهو منصب ينتقل بالوراثة وداخل سلالات محددة من الحاخامات. وتدير جاليات حسيدية كثيرة مؤسساتها التربوية والخيرية بشكل مستقل. وأبرز هذه الجاليات هي حسيدية غور، المعروفة بنظامها الداخلي الصارم والتشديد على سلوكيات أفرادها وبضلوع كبير في النواحي السياسية والاجتماعية. وهناك جاليات كبيرة أخرى هي حسيدية فيجنيتس وساتمار وبعلز. وفي غالب الأحيان يتزوج أفراد جاليات الحسيديم الكبرى من داخل الجالية نفسها.
وتكتسب الجاليات الحسيدية أسماءها من اسم البلدة في أوروبا التي كان يعيش فيها الـ "أدمور".
وأكبر الجاليات الحسيدية هي حسيدية حباد. وأتباعها لا يسكنون في الأحياء أو المدن الحريدية فقط، كغيرهم من الجاليات، وإنما يسكنون في كل مكان في البلاد والعالم. وتنشط هذه الجالية بشكل كبير في المجال التبشيري في إسرائيل والعالم، وخصوصا في دول العالم الثالث، بهدف مساعدة كل يهودي يتواجد في هذه الدولة على الاحتفال بعيد الفصح اليهودي بموجب الطقوس الدينية ودراسة التوراة والمساعدة في أي موضوع آخر يتعلق باليهودية. ويعتبر أتباع حسيدية حباد أكثر انفتاحا قياسا بباقي المجموعات الحريدية، وهم يخدمون في الجيش ويعملون وضالعون في الحياة العامة.
السفاراديم:
وهم اليهود الحريديم الشرقيون، وأبرز زعمائهم هو الحاخام عوفاديا يوسيف، الزعيم الروحي لحزب شاس.
لكن يوجد في إسرائيل عدة فروع للحريديم السفارديم. وأحد هذه الفروع يعرف باسم "الطائفة الحريدية السفارادية" التي أسسها الحاخام يعقوب موتصافي، ومواقفها قريبة من "الطائفة الحريدية" الأشكنازية "ناطوري كارتا". ولا يشارك أتباع هذه الطائفة في الانتخابات العامة الإسرائيلية ومؤسساتها التعليمية لا يأخذون ميزانيات حكومية. كذلك لديهم محكمة شرعية خاصة بهم.
وهناك فرع ثالث، أكبر من الطائفة الحريدية السفارادية، وهو الحريديم السفاراديم الذين كانوا يسكنون في القدس قبل قيام إسرائيل ولديهم ييشيفوت خاصة بهم. وبدأ أتباع هذه الجالية بتطوير قواعد سياسية لهم في بداية سنوات الثمانين من القرن الماضي، في أعقاب شعورهم بالتمييز ضدهم داخل العالم الحريدي وعدم تخصيص ميزانيات ومقاعد لأبنائهم في الييشيفوت الأشكنازية. وشكل هذا الشعور بالغبن خلفية أساسية لإقامة الإطار التعليمي الحريدي الشرقي المستقل لحركة شاس، وبعد ذلك أقامت هذه الجالية مؤسسات تعليمية كبيرة.
الطائفة الحريدية:
يتميز أتباع الطائفة الحريدية بمعارضتهم الشديدة للصهيونية، وينتمي غالبيتهم إلى حسيدية ساتمار، كما ينتمي قسم منهم إلى جاليات حسيدية أخرى. ويرى أتباع الطائفة الحريدية أن المشروع الصهيوني هو مصدر الشرور في حياة اليهود في الأجيال الأخيرة. ويرفضون الحصول على ميزانيات التعليم من الدولة، وقسم منهم يرفض تلقي مخصصات التأمين الوطني. وهم لا يشاركون في الانتخابات ويسعى بعضهم إلى الامتناع عن تسديد الضرائب ولا يخدمون في الجيش.
وتنبثق عن الطائفة الحريدية جماعة ناطوري كارتا، التي يصطدم أتباعها مع الجاليات الحريدية الأخرى، على خلفية مواقف هذه الجماعة المعارضة لوجود إسرائيل ويهاجمون الحريديم والحاخامات الذين يعبرون عن تأييدهم للخدمة العسكرية.
ويشار إلى أن الطائفة الحريدية ليست جالية كبيرة ولا يتجاوز عدد أتباعها عشرة آلاف نسمة، لكن على الرغم من ذلك فإنها صوتها مرتفع جدا، بسبب المظاهرات التي تنظمها ضد قرارات المؤسسة الإسرائيلية التي تتنافى مع الشريعة اليهودية.
الحريديم العصريون:
برزت ظاهرة جديدة في أوساط الحريديم في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، هي الحريديم العصريون. وهم ينتمون إلى الحريديم لكنهم يسعون إلى العيش بطريقة عصرية. وهم يشددون على أن التقارب مع الحياة العصرية لن يمس باستمرارهم في المحافظة على الفرائض الدينية والشريعة اليهودية.
الحردليم:
وهم الحريديم من التيار اليهودي الديني القومي. وكلمة "حردليم" هي اختصار للكلمات التي تعرف هذه الجالية وتعني بالعربية "حريدي متدين قومي". وهذه الجالية تسكن في المستوطنات ويحمل أتباعها مواقف قومية متطرفة.
التزمت الديني
يعتبر الجمهور الحريدي متزمتا دينيا إلى حد التعصب المفرط للفرائض التي تنص عليها التوراة، وذلك وفقا لتفسيرهم الخاص لها. ويحافظ الحريديم بشكل كبير على الفصل بين الجنسين، ومنع العلاقات بين الرجال والنساء، تحسبا من نشوء علاقات ممنوعة بين الجنسين. والفصل بين الجنسين مطلق في المؤسسات التعليمية، منذ جيل الطفولة المبكرة، وفي الكنس والاحتفالات. ويتم هذا الفصل بوضع حواجز بين الرجال والنساء.
ويرى الحريديم أن مكان المرأة هو في البيت أولا. لكن في العقود القليلة الماضية اتسعت ظاهرة خروج المرأة الحريدية إلى العمل، والمجتمع الحريدي ليس قادرا على مواجهة هذه الظاهرة. لكن ليس مقبولا في المجتمع الحريدي أن تظهر المرأة أمام الرجال. كذلك هناك حرص بالغ جدا على لباس النساء. وفي سنوات التسعين، وبشكل أكبر في بداية القرن الواحد والعشرين، اتسعت ظاهرة الفصل بين النساء والرجال في الأماكن العامة، أي في الشوارع، حيث توجد أرصفة خاصة للنساء وأخرى للرجال، وفي الحافلات وفي المؤسسات العامة.
ويحرص الحريديم على شراء منتجات مصادق عليها من جانب جهات المراقبة الحريدية التي تصدر شهادات الحلال لهذه المنتجات. وغالبا ما تكون الرقابة على المنتجات متشددة أكثر من رقابة الحاخامية الرئيسية على المنتجات التي تباع في إسرائيل. وفيما يتعلق باستخدام الكهرباء في أيام السبت، فإنه يوجد في الكثير من بيوت الحريديم مولدات كهرباء خاصة من أجل الامتناع عن تدنيس يوم السبت، حيث يعتبرون أنه ممنوع إشعال أو إطفاء الكهرباء في هذا اليوم، ويرون أنهم بذلك يمتنعون أيضا عن تشجيع عمال شركة الكهرباء على العمل في أيام السبت وتدنيسه.
وتعتبر نسبة النمو الطبيعي لدى الحريديم الأعلى في إسرائيل. وتنجب المرأة في هذا المجتمع 7.7 أطفال بالمتوسط، لكن هناك عائلات كثيرة يزيد عدد الأولاد في العائلة عن العشرة، وهناك حالات نادرة يصل فيها عدد الأولاد في العائلة إلى 18 ولدا وبنتا. والسبب المركزي لكثرة الأولاد في العائلة نابع من الأيديولوجية الدينية التي تعتبر إنجاب الأولاد فريضة دينية. وفي المقابل فإن استخدام وسائل منع العمل مشروط بتصريح يحصل عليه الزوجان من حاخام ويتم ذلك في حالات خاصة فقط، مثل تشكيل الحمل خطرا على حياة المرأة. إلا أن الاعتبار الاقتصادي أقل أهمية بنظر الزوجين في المجتمع الحريدي، لأنهم يؤمنون بأن الرزق يأتي من عند الله، ووفقا لمفهوم أن كل طفل يولد يجلب البَركة، ولذلك فإنهم يسمون العائلات الكثيرة الأولاد "عائلات مباركة بالأولاد".
وفيما يتعلق بمصادر دخل العائلة، فإن العادة في المجتمع الحريدي هي أن الرجل يدرس التوراة في "الكوليل" أو "الييشيفاة"، أي المدرسة أو المعهد الديني، بينما المرأة تتحمل أعباء إعالة العائلة بالعمل من داخل البيت أو خارجه. وتفيد المعطيات بأنه في الجتمع الحريدي في إسرائيل تبلغ نسبة النساء العاملات 61% بينما نسبة الرجال العاملين 62% فقط. ومجال العمل الأكثر انتشارا للنساء هو التعليم في المدارس وروضات الأطفال التابعة للمجتمع الحريدي. وفي السنوات الأخيرة أضيفت مجالات عمل أخرى للنساء، مثل التسويق عبر الهاتف والسكرتارية وبرمجة الكمبيوتر. وقد تم إقامة مصانع في مجال برمجة الكمبيوتر والهاي- تك في المدينة - المستوطنة الحريدية "موديعين عيليت" وتعمل فيها النساء الحريديات.
عدم التجند للجيش
امتنع الشبان في المجتمعات الحريدية دائما عن التجند للجيش في الدول الأوروبية التي عاشوا فيها. وبعد قيام إسرائيل استمروا في الامتناع عن التجند للجيش الإسرائيلي. ويعود ذلك إلى عدة أسباب بينها صعوبة الحفاظ على تعاليم وفرائض الشريعة اليهودية في الجيش والإغراءات التي يتعرض لها الشاب الأعزب. كذلك تعتبر النظرة الحريدية أن الشاب في سن 18 عاما لا يزال منهمكا في الدراسة في الييشيفاة، ويتعين عليه في هذه الفترة من حياته اكتساب ثقافته التوراتية. والسبب الثالث أن الحريديم يرون بأبناء الييشيفوت (جمع ييشيفاة) أنهم بمثابة "سلاح روحاني" يحمي "شعب إسرائيل" ليس أقل من السلاح العسكري، وينظرون إلى تجنيد شبان الييشيفوت على أنه أشبه بجندي يفر من وحدته إلى وحدة أخرى. ويعارض المجتمع الحريدي الليتواني تجند الشبان للجيش حتى في سن متقدمة أكثر، من منطلق أن على الإنسان تخصيص كل حياته لدراسة التوراة.
وفي نهاية سنوات التسعين من القرن الماضي بدأ الجيش الإسرائيلي بتشكيل وحدة عسكرية مخصصة للحريديم. وكانت أول وحدة كهذه هي كتيبة "هناحال هحريدي"، التي تم تسميتها لاحقا باسم "نيتساح يهودا" وهي كتيبة تعمل في الضفة الغربية. كذلك تمت إقامة أطر عسكرية أخرى لاستيعاب الحريديم في أسلحة الجو والبحرية والمخابرات. ولا تخدم الفتيات في هذه الوحدات. رغم ذلك بقي إقبال الشبان الحريديم على التجند للجيش ضئيلا ولم يتجاوز عدد الحريديم في الجيش 2500 جندي وفقا لمعطيات العام 2010.
وأثار امتناع الحريديم عن التجند للجيش معارضة واستياء واسعين لدى الجمهور الإسرائيلي. كذلك عبر سياسيون وحقوقيون عن معارضتهم لقانون سنه الكنيست في العام 2002 لتنظيم خدمة الحريديم في الجيش. ويمنح هذا القانون، الذي يعرف باسم "قانون طال"، الحريديم إعفاءات وامتيازات في الخدمة العسكرية، ما زاد المعارضة له بين الجمهور العلماني. وتم تمديد سريان هذا القانون في العام 2007 لمدة خمس سنين، وأصدرت المحكمة العليا قرارا، مؤخرا، بوقف تمديد العمل بهذه القانون ما يعني إلغاءه بحلول شهر آب من العام 2012 الحالي، الأمر الذي من شأنه أن يثير أزمة كبيرة في العلاقات بين العلمانيين والحريديم. (يمكن قراءة تقرير خاص موسع، صدر مؤخرا عن مركز "مدار"، حول "قانون طال" وتبعات إلغائه).
الحريديم والصهيونية
عارض الحريديم الحركة الصهيونية منذ نشوئها، كما عارضوا قيام دولة يهودية بسبب التخوف من رد فعل شعوب العالم تجاه دولة كهذه. ورأى الحريديم أن إقامة دولة يهودية هي بمثابة تمرد على شعوب العالم. وتوجد مجموعتان بين الحريديم في إسرائيل، هما "الطائفة الحريدية" و"حسيدية ساتمار"، لا تزالان تعارضان وجود إسرائيل حتى اليوم. وعارضت أوساط حريدية أخرى إقامة دولة يهودية علمانية معللين ذلك بأنه كفر، وتحسبا من استخدام دولة كهذه قوتها من أجل فرض العلمانية على مواطنيها اليهود.
لكن بعد قيام إسرائيل، تراجع حزب "أغودات يسرائيل"، الذي يشكل الذراع السياسية للحريديم الليتوانيين، عن الموقف من الدولة، ووقع مندوب عن هذا الحزب، هو الحاخام إسحق مئير ليفين، على "وثيقة استقلال إسرائيل"، وبعد ذلك تولى منصب وزير. وتغير وضع الحريديم بشكل جوهري في سنوات السبعين، وخصوصا منذ العام 1977، عندما صعد حزب الليكود اليميني إلى الحكم وتولي مناحيم بيغن رئاسة الحكومة. وقد استخدم بيغن الخطاب الديني بشكل واسع وضم حريديم إلى حكومته ورفع الميزانيات المخصصة لهم.
وطرأ التحول الجوهري على المجتمع الحريدي في إسرائيل وعلى العلاقات المتبادلة بينه وبين المجتمع العلماني في العام 1982، وذلك في أعقاب تأسيس حزب شاس، الذي حصل على أصوات اليهود الشرقيين من خارج المجتمع الحريدي. لكن السنوات التي تلت ذلك تميزت بشرخ متزايد بين الحريديم والعلمانيين، على خلفية تزايد عدد الحريديم وتأثيرهم على السياسة، إضافة إلى الخلافات حول المواضيع المتعلقة بفصل الدين عن الدولة، مثل الزواج المدني وبيع لحم الخنزير، خصوصا بعد الهجرة الروسية في مطلع التسعينيات. وبرزت في سياق هذا الصراع عدة موضوعات شكلت موضع خلافات حادة بين الجانبين مثل موضوع الميزانيات الخاصة التي ترصد للحريديم، وموضوع امتناع الحريديم عن التجند للجيش.
هذا التقرير ممول من قبل الاتحاد الأوروبي
[مضمون هذا التقرير هو مسؤولية مركز "مدار" ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن يعكس آراء الاتحاد الأوروبي]