تقارير خاصة

تقارير عن قضايا راهنة ومستجدة في إسرائيل.
  • تقارير خاصة
  • 2088
  • برهوم جرايسي

تزايدت في الآونة الأخيرة المؤشرات التي تدل على حالة التقاطب داخل مجتمع المتدينين اليهود المتزمتين (الحريديم)، وخاصة على خلفية العلاقة مع المؤسسة الحاكمة وكيفية التعامل مع الصهيونية، على الرغم من الاجماع على "تكفيرها" واعتبارها حركة عابرة، لا علاقة لها بالديانة اليهودية. ففي الأسبوع الماضي، رأينا كتلتيّ الحريديم في الكنيست تصوتان إلى جانب "قانون القومية" الذي عارضتاه مبدئيا، لضربه أسس معتقداتهم الدينية، وذلك في الوقت الذي واصلت فيه طوائف أخرى من الحريديم محاربته. كما رأينا وزير الحريديم من الأشكناز يشارك في مراسيم إحياء ذكرى الجنود القتلى، على الرغم من ابتعاد هذا الجمهور عن كل المراسم الرسمية المرتبطة بشكل وثيق بالحركة الصهيونية. كما يظهر التقاطب واضحا في رفض ومقاومة محاولات فرض التجنيد العسكري على شبان الحريديم.

 التقاطب الذي عرفناه حتى الآن هو بين جمهورين، واحد يعترف بإسرائيل والآخر يرفض الاعتراف بها. أما الآن فإن الشرخ بدا واضحا داخل الجمهور الذي اعترف بإسرائيل ككيان عابر، إذ يريد الشق الأول الإبقاء على المبادئ التي تم وضعها منذ عام النكبة لشكل التعامل مع المؤسسة الحاكمة، في حين يبدي الشق الآخر علامات على قبوله بسكر القوالب، ما يجعله يقترب أكثر فأكثر من المؤسسة، أي التقرب من الصهيونية.

وحينما نقول الحريديم الأشكناز، الغربيين، فهذا يعود إلى أن مواقف الحريديم السفراديم الشرقيين، وحزبهم الأكبر "شاس"، أقل حدة نسبيا تجاه الحركة الصهيونية، وقد تقدموا خطوات كثيرة نحو المؤسسة الحاكمة ورموزها.

قانون القومية

في الأسبوع الماضي، صوتت الهيئة العامة للكنيست بالقراءة التمهيدية على مشروع قانون ما يسمى "إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي". وبموجب الموقف المبدئي للحريديم، كان من المفروض أن تعترض كتلتاهما في الكنيست، "يهدوت هتوراة" لليهود الغربيين "الأشكناز"، و"شاس" لليهود الشرقيين "السفارديم"، على القانون. إلا أن الكتلتين صمتتا لدى إقرار مشروع القانون في اللجنة الوزارية لشؤون التشريع.

ولاحقا، في يوم الاربعاء، صوت نواب الكتلتين مع مشروع القانون، خلافا لكل التوقعات، باستثناء وزير الصحة يعقوب ليتسمان من كتلة "يهدوت هتوراة"، الذي تواجد في مبنى الكنيست، لكنه لم يدخل إلى قاعة الهيئة العامة ولم يشارك في التصويت. بالإمكان الاعتقاد بأن عدم دخوله إلى القاعة لم يكن صدفة؛ ولكن نشير في الوقت ذاته إلى أنه لم ينبس ببنت شفة ضد القانون. وكذلك حزبه أيضا، باستثناء نبأ صدر قبل التصويت بيومين في أحد مواقع الحريديم على شبكة الانترنت، يقول إن كتلة "يهدوت هتوراة" غضبت لأن الائتلاف لم يتشاور معها قبل المصادقة على مشروع القانون في اللجنة الوزارية، وأنها تطلب عقد اجتماع مع رئيس الائتلاف، النائب دافيد بيطان، من حزب الليكود، قبل التصويت في الهيئة العامة للكنيست، يوم الأربعاء. ولم يتبع هذا أي نبأ آخر، وما حصل هو أن "يهدوت هتوراة"، مثل كتلة "شاس"، صوتت على مشروع القانون تأييدا.

وحسب مواقف صادرة عن الزعماء الدينيين للحريديم، بمن فيهم أعضاء الكنيست، فإن صيغة هذا القانون فيها إشكاليات من وجهة نظر معتقداتهم الدينية، في كل ما يخص بتعريف "الدولة اليهودية" ومكانة الشريعة اليهودية في القانون الإسرائيلي. فالحريديم يؤمنون بأن "مملكة اليهود- إسرائيل"، سيقيمها "المسيح المخلّص" حينما يأتي إلى العالم للمرّة الأولى. ومن اعترف منهم بالكيان الإسرائيلي، فقد قبل به على أساس أنه كيان سياسي عابر، في حين أن الغالبية من الحريديم في العالم لا يعترفون بالكيان الإسرائيلي.

وهذا الموقف عبّرت عنه صحيفة "هبيليس" الناطقة بلسان طائفة متشددة من الحريديم الأشكناز، بزعامة الحاخام أورباخ، وهي طائفة كانت جزءا من كتلة "يهدوت هتوراة" وانشقت عنها قبل سنوات قليلة، وبدأت تناكف الطوائف المنخرطة في تلك الكتلة الدينية البرلمانية. فقد قالت في كلمة العدد الصادر يوم 8 أيار/ مايو الجاري، غداة إقرار اللجنة الوزارية لمشروع القانون: "من الواضح أن البحث حول القانون يجري وكأنه يهدف إلى ضمان الطابع "اليهودي" لدولة إسرائيل بقانون أساس (دستوري). وهو بحث صهيوني قومي صرف، كما صرح بذلك عضو الكنيست آفي ديختر (الليكود) المبادر لمشروع القانون الذي أقرته اللجنة الوزارية، لأن مصطلح "يهودي" يتم تشويهه في هذه النقطة، ليصبح قوميا". (المزدوجان حول كلمة اليهودي، وردت في النص العبري بقصد التحفظ).

وتتابع الصحيفة كاتبة: "استنادا إلى ذلك، من الواضح تماما أنه على الرغم من أن القانون ينص على أن دولة إسرائيل هي دولة "يهودية"، إلا أن هذا لن يلزم المحكمة العليا الإسرائيلية بأن تأمر بالحفاظ على قدسية السبت في مدينة تل أبيب وفي أي مكان آخر أو أن تزيل كليا عن جدول الأعمال موضوع تجنيد طلاب المعاهد الدينية".

وتضيف الصحيفة: "إن الحديث يجري عن قومجية تهدف إلى استبدال التوراة الأبدية، التي نزلت في (صحراء) سيناء. وحسب وصف الحاخام الكبير هليفي من بريسك، في رسالته التي أصدرها في أوائل ظهور الحركة الصهيونية، فإن جوهرهم بموجب ما أعلنوه ونشروه، هو اقتلاع الدين من أساسه".

وتتابع الصحيفة كاتبة إن "القانون الذي يجري الحديث عنه، يريد ضمان تعريف دولة إسرائيل كدولة يهودية، بقصد تبني التعريف الصهيوني المشوه لمصطلح "يهودي". وتستذكر الصحيفة في كلمة العدد ما قاله مؤسس الصهيونية، ثيودور هيرتسل، الذي لا تسميه الصحيفة باسمه، عن أن الدين هو شأن شخصي لكل يهودي، ما يعني أن الصهيونية لا تبدي اهتماما بالتمسك بالتوراة وتعاليمها.

وما ورد، يعكس حقيقة موقف الحريديم، بمن فيهم أولئك الذين في الكنيست. لكن الكتلتين قررتا تجاهل هذا الموقف، من أجل مصالح أخرى كما يبدو. والمعروف أن كتلة "يهدوت هتوراة" تقاطع طائفة الحاخام أورباخ، وترفض حتى مجرد التعاطي مع صحيفته "هبيليس". وما ورد، يعكس أيضا عمق موقف الحريديم من الصهيونية، ومناهضتهم لها، خاصة من باب أنها ركبت على موجة الديانة اليهودية لتمرير أهدافها، دون أن تطبق شرائعها.

والاعتقاد هو أن الخلاف حول قانون القومية سيتأجج أكثر مع التقدم في عملية تشريع القانون، كما سيتضح أكثر موقف كتلتي الحريديم في الكنيست منه، إذ يبدو أحد السيناريوهات أن الحريديم ربما تلقوا تطمينات بأن تعرض الحكومة صيغة مقلصة أكثر، تضمن لهم إمكانية التعايش معه.

بدلا من حرق الأعلام

في مطلع الشهر الجاري، أحيت إسرائيل ذكرى قيامها، أو كما تسميه هي "عيد الاستقلال". واعتدنا على مر عشرات السنين، أن نسمع ونقرأ في وسائل الإعلام عن حلقات للحريديم في ليلة "الاستقلال" ليحرقوا الأعلام الإسرائيلية كتعبير واضح عن رفضهم للصهيونية ومشروعها، واعتادت السلطات على عدم مهاجمة هذه المظاهر، بهدف سترها، كما لم نكن نسمع عن ملاحقات للمشاركين، وخاصة حارقي الأعلام.

الطائفة الأكبر التي تقوم بهذا العمل هي طائفة "ساتمر"، والطائفة الأصغر المنبثقة عنها "ناطوري كارتا"، وهما طائفتان لا تعترفان بإسرائيل وأتباعهما لا يحملون جنسيتها، بل يحملون "بطاقة مقيم". وحسب التقديرات، يزيد عددهم عن 70 ألفا، غالبيتهم الساحقة جدا، إن لم يكن كلهم، يقيمون في القدس، بينما يتراوح عدد الحريديم الاجمالي حول المليون شخص. لكن ليس هؤلاء وحدهم فقط، بل تنضم إليهم مجموعات صغيرة اخرى، حتى من الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية.

في العام الحالي، وفي العام الماضي أيضا، لم نسمع عن هذه الحلقات في وسائل الإعلام، وعلى الأغلب هناك اتفاق على التعتيم. وحينما استفسرت من صحفي إسرائيلي مختص بالحريديم، في إحدى الصحف الإسرائيلية البارزة، قال لي إن الظاهرة ما تزال قائمة، وكانت قائمة هذا العام أيضا، ولكن بحجم أقل.

إلا أن مشهد حرق الأعلام عاد ليظهر بقوة في وسائل الإعلام، يوم الأحد الأخير، بعد أن أقدم جمهور من الحريديم على حرق أعلام ودمية قماشية تمثل جنديا إسرائيليا، كتعبير عن رفض الخدمة العسكرية، في ليلة العيد اليهودي التقليدي، "لاغ بغومر"، وهو ذكرى ليست دينية توراتية، تحل بمرور 33 يوما على الفصح العبري، تشتهر بإشعال مواقد وزيارة قبور حاخامات كبار سابقين.

وعودة إلى يوم الاستقلال. فمقابل عدم ابراز مسألة حرق الأعلام، أبرزت صحيفة "هآرتس" تمثيل وزير الصحة يعقوب ليتسمان، السابق ذكره، من كتلة "يهدوت هتوراة"، في إحياء ذكرى قتلى الجيش في إحدى المدن الإسرائيلية. وهذا ليس أمرا اعتياديا بالنسبة للحريديم الأشكناز. وقد لاحظ مراسل الصحيفة المختص بالحريديم، يائير إيتينغر، أن ليستمان اتخذ لنفسه أسلوبا خاصا به، إذ لم يطأطئ رأسه لدى وقوفه أمام النصب التذكاري الذي يحمل أسماء الجنود من تلك المدينة، كما هو متبع عادة، بل شرع بقراءة صامتة لنصوص من سِفر المزامير.

ويقول إيتينغر إن الحريديم يعتبرون مراسم إحياء ذكرى الجنود أمرا مرفوضا، وهو تقليد لعادات "الأغراب"، من غير اليهود. ما يعني بكلمات أخرى، إنه تقليد خارج عن تعاليم الديانة اليهودية وشرائعها، لذا فهو مرفوض. إلا أن الوزير انصاع لأنظمة الحكومة، التي عملت على نشر وزرائها ونوابهم في مختلف المدن والبلدات لإحياء ذكرى الجنود في ذلك اليوم.

ويضيف إيتينغر إن الخطاب القصير الذي القاه ليتسمان ليس مألوفا لدى الحريديم، وأنه لن يحظى بالتأكيد بنشر واسع في صحافة "الحريديم" فقد قال ليتسمان "إن شعب إسرائيل يتحول إلى شخص واحد وذكرى واحدة وألم واحد، لذكرى أولئك الذين خسروا كل شيء من أجل الآخرين، ومن أجلنا جميعا. عليكم أن تعرفوا أنكم لستم وحدكم (أهالي القتلى)، فشعب إسرائيل كله يقف إلى جانبكم، ويذكر ألمكم الكبير...".

وأضاف ليتسمان قائلا: "كارهونا لم يميزوا بين حريديم وعلمانيين، بين أشكنازيم وسفارديم، لم يميزوا بين يسار ويمين، وبين مهاجرين جدد وقدامى. كلنا أبناء هذا الشعب، نتقاسم المصير المشترك ذاته.... سنفهم جميعا أن الخلاف باللبس ونمط الحياة لا يفصل بين الأخوة والعائلة".

ويقول إيتينغر في تحليله للخطاب: "حتى وإن امتنع ليتسمان عن ذكر الحلم الصهيوني، إلا أن أقواله في المراسم العسكرية عن المصير المشترك، هي تجديد للطائفة التي نقشت على علمها الانعزال عن الصهيونية، وبضمن هذا اعفاء أبنائها من الخدمة العسكرية". ويتابع إن صحافة الحريديم تؤكد سنويا التحفظ من المشروع الصهيوني والدولة. فعلى الرغم من أن جمهور الحريديم لم يعد ينفر من الصهيونية بالقدر نفسه كمان كان سابقا، إلا أن صحافة ذلك الجمهور تواصل النهج نفسه.

ويعتقد إيتينغر بأن مجموعات عديدة من الحريديم، وخاصة من الأجيال الشابة منهم، بدأت تتجه نحو التقرب أكثر من مؤسسات السلطة، وتشارك في مراسم احياء الذكرى وفي رموز أخرى للمشروع الصهيوني، وهو ما ينعكس أيضا في مواقع انترنت ذات صبغة "حريدية"، ولكنها تتصرف كإسرائيلية بشكل كامل، وتنخرط في الأمور العامة التي لم تشغل جمهور الحريديم كثيرا في السابق.

الحقيقة على الأرض مغايرة

لا يمكن الاعتماد كثيرا على تقديرات ايتينغر، رغم اختصاصه بجمهور الحريديم، لأن الوقائع على الارض تؤكد أن هذا الجمهور يواصل سعيه ليكون منعزلا عن الجمهور العام، ويطالب بالمزيد من التجمعات السكانية الخاصة به، والمنفصلة عن الجمهور العلماني، وحتى عن جمهور التيار الديني الصهيوني. والحكومة تواصل تلبية مطالب جمهور الحريديم، لأن في هذا التقاء مصالح. فالمؤسسة الحاكمة تتخوف من سيطرة الحريديم على مدن مختلطة يعيش فيها أبناء التيارات اليهودية الأخرى، وهي تعرف قلق الجمهور العلماني من سيطرة الحريديم، كما حصل في مدينة "روش هعاين"، غرب مدينة القدس، مثلا. كما تسير مدينة أسدود في هذا الاتجاه.

وقد أغرت الحكومة الحريديم قبل أقل من ثلاثة عقود، ببناء مستوطنات خاصة بهم في محيط مدينة القدس، من شمالها وجنوبها، مع كامل الامتيازات التي يحصل عليها المستوطنون. وحاليا توجد تسع مستوطنات، أكبرها "موديعين عيليت"، بين رام الله وشمال القدس، التي يسكن فيها أكثر من 65 الف مستوطن من الحريديم، تليها مستوطنة "بيتار عيليت"، جنوب مدينة القدس وغربي مدينة بيت لحم، وفيها أكثر من 45 ألف مستوطن، ومستوطنة "إلعاد" الواقعة على خط التماس مع توغل في الضفة وفيها أقل من 20 ألف مستوطن. وعمليا، بات عدد المستوطنين من الحريديم يعادل قرابة 40% من العدد الإجمالي للمستوطنين في الضفة الغربية، وقريبا سيتجاوزون النصف.

وقد اعلنت الحكومة عن مشروع لاقامة مدينة جديدة للحريديم وحدهم في شمال صحراء النقب، في حين خصصت حيا للحريديم في مدينة نتسيرت عيليت الجاثمة على أراضي مدينة الناصرة وعدة قرى في جوارها، لصد تزايد العرب في المدينة الذين باتوا يشكلون 25% من سكان المدينة فعليا، بينما تبلغ نسبتهم المسجلة رسميا 22%. كما قررت الحكومة تخصيص مدينة "حريش" المقامة في شمال منطقة المثلث، قريبا من أم الفحم، للحريديم أيضا.

وهذه التجمعات المنفصلة تؤكد الهدف الحقيقي للمؤسسة الحاكمة، بمنع تصادم مستقبلي بين جمهور الحريديم وباقي الجمهور اليهودي، على ضوء تقديرات بأن الحريديم سيشكلون في غضون عقدين 25% من إجمالي اليهود في إسرائيل، إن لم يكن أكثر، وهذا مصدر قلق كبير للمؤسسة الحاكمة، نظرا لطبيعة حياة الحريديم وأمام واقع أنهم يشكلون عبئا اقتصاديا على الخزينة العامة وعلى الاقتصاد العام، نظرا لعدم انخراطهم الكافي في سوق العمل، ما يجعلهم شريحة فقيرة ضعيفة.