تقارير خاصة

تقارير عن قضايا راهنة ومستجدة في إسرائيل.

استغل رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، ذكرى محرقة اليهود التي ارتكبها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية، والتي أحيتها إسرائيل يوم الخميس الماضي، لمواصلة خطابه التهويلي والتخويفي، ليس من إيران وبرنامجها النووي فقط، وإنما أيضاً من الدول الكبرى التي تجري مفاوضات مع إيران، مطبقا بذلك المقولة الإسرائيلية – الصهيونية أن "العالم كله ضدنا"، وأن إسرائيل تحت قيادته فقط ستكون آمنة، رغم الصدام مع العالم.

وشبّه نتنياهو، في خطابه، إيران بالحكم النازي لألمانيا واعتبر أنه في أعقاب اتفاق الإطار حول البرنامج النووي الإيراني، لم يستوعب الغرب دروس التاريخ.

وخصص نتنياهو معظم خطابه للحديث عن إيران وبرنامجها النووي واتفاق الإطار بين إيران والدول الكبرى. وقال إن "الاتفاق السيئ مع إيران يدل على أن دروس التاريخ لم تُستوعب".

واعتبر نتنياهو أن "الغرب تنازل أمام نشاط إيران العدواني، وبدلا من المطالبة بتفكيك كبير للقدرة النووية الإيرانية واشتراط رفع العقوبات عنها، تراجعت الدول العظمى، وأبقت بيدي إيران قدراتها النووية بل وسمحت لها بتوسيعها لاحقا، من دون علاقة بأفعالها في الشرق الأوسط".

وتابع أنه "مقابل التعب والتساهل (الغربي) سنقف بكل قوتنا"، معتبرا أنه "إلى جانب أولئك الذين يرفضون فهم موقفنا، يوجد كثيرون يتماثلون معنا. ولكن حتى لو اضطررنا إلى الوقوف وحيدين، فإننا لن نتراجع بأي حال، وفي جميع الأحوال سنحتفظ بحقنا وسنحافظ على قدرتنا وإصرارنا على الدفاع عن أنفسنا".

واعتبر نتنياهو أنه "قبل 70 عاما كنا أمة لاجئين ولا قوة لنا، واليوم نحن نقول رأينا ونصر على ضمان وجودنا ومستقبلنا. ومهمتنا هي أن نصارع ضد الذين يتطلعون إلى إبادتنا وعدم التساهل تجاه الواقع. ولن نسمح بأن تكون دولة إسرائيل حدثا عابرا في تاريخ شعبنا".

كذلك قال الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، في المراسم نفسها، إنه "لن نستخف بالتهديدات ولا بالتصريحات الداعية إلى إفناء الشعب اليهودي، كما أننا لسنا خائفين".

واعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه يعلون، في مراسم أقيمت في "المعهد الدولي لدراسة المحرقة"، أن "النظام الإيراني يتطلع إلى قلب النظام العالمي، ولم يتراجع عن سعيه التآمري من أجل تطوير سلاح نووي ولن يتردد في تنفيذ مؤامرته لو توفرت لديه فقط الإمكانية لذلك".

وهاجم يعلون الدول الكبرى أيضا، وقال إن "العالم يسمح لهذا النظام بالدخول من الباب الرئيسي إلى عائلة الشعوب، بدلا من التعلم من الماضي والتنديد به وبطريقه".

من جانبه، وجه رئيس "المعسكر الصهيوني"، إسحاق هرتسوغ، انتقادا مبطنا لنتنياهو، وقال إن "ثمة أهمية لأن نقول لكارهينا إن عليهم ألا يضعونا في امتحان. ورغم ذلك، أعتقد أنه ليس معقولا أن يكون خطابنا في يوم (ذكرى) المحرقة متركزا على مخاوف وجودية، وليس معقولا أن نستمع إلى تخوفات من أننا سنصبح ’حدثا زائلا’".

ودعا هرتسوغ بدلا من ذلك إلى الاهتمام بالناجين من المحرقة، وقال إن "الامتحان الأول للتضامن الداخلي هو تعاملنا مع الناجين من المحرقة. لقد أخطأنا حيالهم، لأننا سمحنا لآلاف كثيرة منهم أن يتمرغوا بالجوع والفقر" في إشارة إلى التقارير المتكررة كل عام حول فقر وعزلة الناجين في إسرائيل.

خطاب نتنياهو مبني على صخرة الخوف من الإبادة

إن استغلال قادة إسرائيل لذكرى المحرقة ليس جديدا، ونتنياهو ليس أول زعيم إسرائيلي يفعل ذلك، لكنه ربما أكثرهم تهويلا واستخداما للمحرقة من أجل التغطية على جوانب أخرى من سياسته، وخصوصا في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. كذلك فإن الصحف الإسرائيلية امتلأت، في يوم ذكرى المحرقة، بأخبار وتقارير ومقالات، كانت غالبيتها العظمى تسير في اتجاه خطاب نتنياهو.

رغم ذلك، تعالت أصوات دعت إلى التخفيف من حدة التخويف.

وكتب محلل الشؤون الحزبية في القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي، عميت سيغال، مقالا في موقع إذاعة الجيش الإسرائيلي، أشار فيه إلى أنه "ليس صدفة أن خطابات الذكرى تبدو متكررة دائما، إذ أن الأحجام الوحشية لكارثة أوشفيتز تشل على ما يبدو أية محاولة خطابية، وخاصة من جانب سياسيين، لقول شيء ما لم يُقل من قبل. وأي محاولة كهذه للتذكير بأوشفيتز هنا والآن تقابل وكأنها محاولة لرواية نكتة خلال جنازة".

وأشار سيغال إلى أن نتنياهو لوّح بخطة بناء معسكري الإبادة النازيين أوشفيتز وبيركناو، في الأمم المتحدة "وقبل وقت طويل من تلويحه برسم القنبلة"، الذي لجأ إليه في خطاب لاحق أمام الجمعية العامة في محاولة لإقناع العالم بأن إيران باتت قريبة من صنع قنبلة نووية.

ولفت سيغال إلى أنه سبق نتنياهو وزير خارجية إسرائيل الأسبق، آبا إيبان، الذي وصف حدود العام 1967 بأنها "حدود أوشفيتز" وأنه "لا توجد معادلة أفضل بإمكانها الربط بين حدود العام 1967 وتهديد أمن دولة إسرائيل".

وأضاف سيغال أن "الناجين من المحرقة لم يشاركوا في هذا الخطاب. وقد أشغل 200 شخص مناصب وزارية في حكومات إسرائيل منذ قيام الدولة وحتى اليوم. وإنه لأمر مذهل أن ترى كم هم قلائل أولئك الذي عاشوا المحرقة على جسدهم. وفي العقود الأربعة الأولى للدولة كان الناجون من المحرقة محطمين جدا، وموجودين في عمق هامش المجتمع الإسرائيلي، ولم يكونوا قادرين على الانضمام إلى قيادتها. وفي الجيل الأخير، تمكن ثلاثة ناجين من المحرقة فقط من الدخول إلى حكومات إسرائيل، وكان اثنان منهم يتوليان وزارتين صغيرتين وهامشيتين".

وكان الوزير الثالث يوسف (تومي) لبيد، وزير العدل الأسبق. وكتب سيغال أنه "عندما استخدم الوزير تومي لبيد، الناجي من غيتو بودابست، ذكرى المحرقة، اهتزت البلاد. فلقد قال إن المرأة العجوز من رفح التي تبحث عن أدويتها تحت أنقاض بيتها ذكرته بجدته".

وأشار سيغال إلى أنه خلال السنوات الأربع الماضية كان نتنياهو يكرر خطابه بالتحذير من المخاطر في المنطقة، وبعده يصعد إلى منصة الكنيست رئيس المعارضة "المناوب"، تسيبي ليفني وشاؤول موفاز وشيلي يحيموفيتش وإسحاق هرتسوغ، "ويدعي أن نتنياهو يخيف الجمهور وحسب، وذلك على طريقة أخف تسُد".

ويصل سيغال إلى الاستنتاج بأن "حقيقة أن رؤساء المعارضة تغيروا الواحد تلو الآخر، لكن نتنياهو بقي تدل على أن خطاب نتنياهو مبني على صخرة أساسية موجودة في عمق الصيرورة الإسرائيلية. وقال (الأديب الإسرائيلي) نتان ألترمان مرة إن الإسرائيليين هم ’مجتمع على حافة كارثة’، وهذا ما يفصل حقا السياسة الإسرائيلية عن تلك البريطانية أو الهولندية، والقصد الهلع الوجودي، والخوف من الإبادة".

وأضاف أن "بإمكان الناخب الإسرائيلي أن يغضب من ارتفاع أسعار الجبنة، وبإمكانه الخروج إلى الشوارع للاحتجاج على أسعار السكن، والغضب من الاحتلال أو من إخلاء مستوطنات، لكن في نهاية الأمر، فإن أية جملة يقولها سياسي إسرائيلي يختبئ فيها الخوف من الإبادة، هلع أوشفيتز".

وتابع سيغال أن جميع رؤساء حكومات إسرائيل، وبينهم مناحيم بيغن وإسحاق رابين ونتنياهو، "عرضوا على ناخبيهم مسكنات للخوف الوجودي. وبالإمكان أن نحب أو نغضب أو نسخر من ذلك، لكن بعد سنوات كثيرة، سيكون العام الأهم بالنسبة لإسرائيليين كثيرين هو 1938، وليس الحياة نفسها، إنما الموت نفسه".

"المحرقة متواصلة" في المدرسة الابتدائية أيضاً!

يتبين أن تربية الإسرائيليين على العيش في ظل الخوف الوجودي الدائم تبدأ في جيل مبكّر وأساساً في المدرسة.

وفي هذا الشأن كتبت الدكتورة شارون غيفع، وهي مركزة مجموعة بحث في موضوع التربية والمحرقة في كلية "سمينار هكيبوتسيم" في تل أبيب، في مقال نشرته في صحيفة "هآرتس"، أنه عشية يوم ذكرى المحرقة، أحضر ابنها، في الصف الخامس الابتدائي، بلاغا من معلمته، تطلب فيه أن يرتدي ثوبا أسود وأنه سيتم خلال المراسم التي تقيمها المدرسة إلصاق رقعة صفراء، مكتوب عليها "يهودي"، كالتي كان يضعها النازيون على اليهود.

وتساءلت غيفع "لماذا تقرر في مدرسة في إسرائيل العام 2015، أن يضع تلاميذ هذا العار الذي أشارت سلطات ألمانيا النازية من خلاله إلى اليهود قبل أكثر من 70 عاما؟". واعتبرت أنه "عندما تضع معلمة رقعة صفراء على أثواب تلاميذها في يوم الذكرى، فإنها تستخدم رمزا نازيا بصورة مرعبة. وبدلا من استعراض الرقعة الصفراء خلال درس في الصف، وشرح جوهره وتبعاته، فإنها تجعل التلاميذ يمرون بتجربة مخيفة وغير تربوية".

وأردفت أن "الرقعة الصفراء كانت الوسيلة للإشارة إلى رجال ونساء جرى نزع شرعيتهم. الرقعة الصفراء أشارت إلى أنهم دون البشر. وكيف ينبغي أن يفهم التلاميذ عندما يضعونها على ثوبهم؟". وأضافت أن المعلمة عندما تفعل ذلك في ذكرى المحرقة "فإنها عمليا تهمس سرا رهيبا في آذانهم: في الواقع أيها التلاميذ، نحن في المحرقة. والقتل الجماعي لليهود في أوروبا لم ينتهِ قبل 70 عاما، ولم يحدث لذوي جدودكم وجداتكم فقط. إن المحرقة، أيها التلاميذ، موجودة هنا".

وتابعت غيفع أن "هذه الزعزعة للحيز والزمان يهز عالم التلاميذ. ويبدو أن يوم ذكرى المحرقة هو ليس يوما ولا ذكرى، وإنما هو حاضر متواصل. وحتى المدرسة توقفت فجأة عن كونها مكانا آمنا... وعندما تضع المعلمة الرقعة الصفراء على ثياب تلاميذها، فإنها عمليا تعلم كل واحد منهم أن كونه ولدا يهوديا يعني الانتماء إلى شعب مختار ليس بكنوزه الروحية، وإنما بالملاحقة والتحقير والقمع. وخلال ذلك قد تتسبب بتصلب مشاعرهم حيال الملاحقة والتحقير والقمع بحق مجموعات أخرى، في الماضي والحاضر، وقمع فضولهم للتعلم عن أقليات أخرى في التاريخ، وحتى المس بقدرتهم على إظهار قدر مناسب من التسامح والتضامن والرأفة تجاه الآخرين".

ورأت غيفع أن المعلمة بوضعها الرقعة الصفراء إنما تستغل التلاميذ الذين يميلون إلى إرضائها "وربما تتذكر المربية من فترة طفولتها أن هذا الطقس يرعب الأولاد".

وأضافت أن أحد الأمور التي ستؤثر على التلاميذ من خلال هذه المراسم المدرسية هو كونها "درسا أوليا في تفسير مصطلح ’عِبر المحرقة’ بموجب مؤسسات الدولة، أي عبرة الخائف، المتقوقع، المنطوي والعدواني".

وشددت غيفع على أن هذه المراسم المدرسية "غير تربوية" وترفرف فوقها راية سوداء تماما مثلما ترفرف راية سوداء فوق أوامر عسكرية غير قانونية، على غرار أوامر ارتكاب المجازر.