تعرض القناة الإسرائيلية الثانية في هذه الفترة مسلسلا من أربع حلقات بعنوان "صالح، هنا أرض إسرائيل" أخرجه دافيد درعي، سبق أن عُرض في الصيف الفائت كاملاً بصيغة فيلم، ضمن مهرجان خاص بالأفلام الوثائقية. موضوع المسلسل هو هجرة اليهود من الدول العربية في شمال أفريقيا إلى إسرائيل، بقرار وتخطيط من زعامات الحركة الصهيونية، والشكل
الذي "استُقبلوا" فيه وعملية توطينهم في البلاد. ويعود منتجو هذا الوثائقي إلى أرشيفات رسمية قديمة وإلى ذكرياتهم الخاصة والشخصية، وإلى شهادات مسنين ومسنات شرقيين منهم أهل بعض منتجي الوثائقي.
وكالمتوقع أثار هذا المسلسل، وما زال يثير هذه الأيام، ردود فعل حادة ومختلفة ويمكن تقسيمها إلى: الردود التي عادت وأكدت العنصرية التي تعرّض لها هؤلاء اليهود، وهم في الحقيقة وكما يقول بعض محاوَري الوثائقي، يهود عرب؛ وكذلك الجانب المتعلق بإقدام عناصر وجهات وشخصيات يمينية على استغلال إعادة نبش هذه الذاكرة الإشكالية بعنصريتها، في محاولة لاستغلالها للمآرب والمصالح التي تخدم مشاريع اليمين الحاكم الراهنة، وعلى رأسها الإمعان في الاستفراد باليهود العرب، وتعميق الشرخ بينهم وبين "النخب القديمة الإسرائيلية" من جهة، وتأجيج شعور العداء تجاه العرب الفلسطينيين مواطني إسرائيل، وإبقائهم مخزونا انتخابيا سهلا ومربحا لليمين من جهة أخرى.
مواقف عنصرية في البروتوكولات الموصوفة بـ"السريّة"
يكشف المسلسل، أو يسلّط الضوء على بروتوكولات اجتماعات لأذرع المؤسسة الصهيونية، وأبرزها "الوكالة اليهودية"، تعجّ بالمقولات العنصرية التي جاءت كجزء من وصف السياسة المعمول بها تطبيقياً في توطين اليهود العرب المستقدمين من دولهم شمال إفريقيا.
فيما يلي عدد من المقولات المقتبسة من بروتوكولات مودعة في أرشيف "الوكالة اليهودية":
عضو إدارة "الوكالة اليهودية" والوزير السابق، موشيه كول، وجه تعليمات حول كيفية إجبار المهاجرين اليهود العرب على الامتثال لأوامر توطينهم، وجاء فيها: أولا أوقف إعطاءهم الأكل، نحن لسنا فندقا... ليموتوا جوعاً أو يذهبوا للاستيطان، أو أننا سنقطع علاقتنا بهم تماماً.... أنا اقترح بأن نجبر هؤلاء الأشخاص على الذهاب للاستيطان وإذا لم يوافقوا على الذهاب فإنهم سيُعتبرون غير موجودين بالنسبة إلينا.
الموظف الكبير في "الوكالة اليهودية" والوزير السابق، غيورا يوسيفطال، اقترح ما يلي: توجد في القانون ثغرة صغيرة تعطينا إمكانية الضغط عليهم. القانون يقول إنه إذا أبقى الأهلُ أولادهم تحت قبّة السماء فمعنى ذلك أنهم يتخلون عنهم، وعندها يمكننا أن نأخذ الأولاد بالقوة (من المهاجرين رافضين مواقع التوطين) لكي نوفّر لهم سقفاً يؤويهم.
أما رئيس قسم الاستيطان في "الوكالة اليهودية"، رعنان فايتس، فقد كتب إلى أحد مرؤوسيه ببرود: لقد طلبتُ منك في حينه أن تفتح كتاباً أسود لتسجّل فيه كل العائلات التي غادرت الإطار الاستيطاني الجديد (موقع التوطين) بدون ترتيب وبدون تصريح. وأطلب منك بناءً عليه أن تجمع كل هذه الأسماء وترسل نسخاً من القوائم إلى مكاتب العمل لكي نمنع عنهم العمل... وإلى قسم الاستيعاب حتى نمنع عنهم ترتيبات الاستيعاب والسكن في المواقع التي يتواجدون فيها اليوم، وإلى قسم التأهيل الحكومي لإخراجهم من دور الانتظار للإسكان.
الزعيم في حزب "مباي"، الوزير السابق لوبا إلياف، وصف حالة تم إجبار المهاجرين فيها على مغادرة الشاحنات بالقوة، إذ قال: إنهم يرفضون النزول. أعطيت أمراً للسائق بأن يضغط الزر فكان صندوق الشاحنة يرتفع بينما هم يُقذفون على الأرض. الشاحنة غادرت وبقي الناس على الأرض.
مدير مستشفى "تل هشومير" ومؤسس سلاح الطب في الجيش الإسرائيلي، حاييم شيبا، لخّص وقال: لقد كان الشعار حول الهجرة الحرّة ملائما للحظته فقط، ويجب الحذر الآن منه كما نحذر من وباء. فلا يمكن بناء مستقبل لشعبٍ مع مثل خرائب الروح البشرية هذه. إذا ملأنا بهم البيوت التي نبنيها والأراضي التي نسيطر عليها فسيكون هذا شعباً لا يعمل. سنتحول إلى مكتب عمل واحد كبير.
كتبت نيريت أندرمان (هآرتس، أيار 2017) معلقة على تلك الاقتباسات، إن المسلسل يثبت بأن قسماً كبيراً مما يُسمى "الأخطاء غير المقصودة" التي أدت إلى إقامة "بلدات التطوير" وتوطينها بألوف المهاجرين من شمال أفريقيا، لم يكن سببها "ضيق الوقت" و"مصاعب الاستيعاب" بسبب الهجرة و"الضغط وإقامة دولة بسرعة"، بل إن تلك الأخطاء المزعومة نبعت من اعتبارات باردة ومصالح محسوبة وتخطيط مشدّد جداً، بالاندماج مع توجه استعلائي وعنصري أظهرته قيادة الدولة نحو هؤلاء المهاجرين الجدد.
الكاتبة تذكر بالإضافة إلى تلك التصريحات العنصرية عدداً من الأساليب التي تكشفها البروتوكولات، ومنها أن الدولة لم تكتفِ بإرسال هؤلاء المهاجرين خلافا لإرادتهم إلى بلدات التطوير، بل أقامت منظومة نقل متطورة أخذتهم مباشرة من السفن الواصلة إلى الموانئ، مباشرة إلى تلك البلدات بدون إعطائهم أية فرصة للخروج عن هذا المسار الذي اختير لهم. بل إن الدولة قدمت رشاوى لمهاجرين كي يساعدوها على إبقاء مهاجرين آخرين في تلك البلدات، وهدّدت بأنها ستسلب حقهم في العمل والسكن إذا رفضوا ذلك، بل إنها هدّدت مهاجرين رفضوا توطينهم حيثما أرادت، بأنْ تأخذ منهم أطفالهم أيضا.
استغلال اليمين لقطف ثمار سياسية
على صعيد آخر، سارعت شخصيات من اليمين لاستغلال ما يعيد المسلسل طرحه من أجل قطف ثمار سياسية. وتم توجيه معظم الاهتمام إلى بروتوكولات سرية أو بروتوكولات لم تنشر من قبل حول الموضوع والادعاء بأن هناك أسرارا مخفية تخص وتهم الشرقيين ويجب كشفها، لتظهر هذه الشخصيات اليمينية بمظهر المدافع عن حقوق هذه الشريحة. فمثلا أعلن رئيس الوكالة اليهودية نتان شيرانسكي أنه "يؤيد فتح جميع الوثائق الأرشيفية المرتبطة باستيعاب المهاجرين الشرقيين". وقال انه "يؤيد كشف كل وثيقة أرشيفية تخص الهجرة ليس من سنوات الخمسينيات فقط بل من جميع هجرات اليهود حتى هذا اليوم". وأضاف أن كل ما يخص عملية الهجرة والاستيعاب في جميع الفترات ومن كل المواقع، يجدر أن توضع أمام أعين الجمهور بشكل شفاف وبشكل حر ولكنه استثنى بالطبع الوثائق التي تضم معلومات ميدانية عملانية سرية.
ويشير عدد من الباحثين إلى أنه من غير الواضح أية وثائق مرتبطة بالقضية ما زالت قيد السرية وأين يتم تخزينها. فهناك عدة أرشيفات بينها أرشيف الدولة والأرشيف الصهيوني وأرشيفات الوكالة اليهودية والهستدروت الصهيونية. وان دل هذا على شيء فهو يدل على الكم الهائل من المواد التي تتستر عليها المؤسسة الكبرى والتي تتوزع على مؤسسات كثيرة أصغر كانت عمليا أذرع او أكثر للمؤسسة الحاكمة.
بدورها أعلنت وزيرة العدل اليمينية أييلت شاكيد أيضا أنها تنوي فتح وثائق أرشيف الوكالة اليهودية أمام الجمهور، وذلك في محاولة مكشوفة لممالأة شرائح من اليهود الشرقيين. وهي تقول، وفقاً لبيان رسمي: "ليس هناك أي سبب في ألا تكشف المواد التي تتناول تاريخ الدولة. سوف نستعرض المادة ونوصي بكشفها ونشرها طالما لم يكن هناك ما يشكل حساسية من ناحية أمن الدولة". ولكن كما سبق الذكر، فمن غير المؤكد أن هناك مواد سرية في هذا الإطار، مع التأكيد على وجود مواد بكميات هائلة لا تزال مؤسسات الدولة تتكتم عليها بذرائع الأمن.
المؤرخ د. آفي فيكار كان أحد مستشاري المسلسل، وهو يقول إن المواد التي تم عرضها ليست سرية بل سبق ان كشفت في السابق. وجاء كشفها من خلال المسلسل لينتج ويثير اهتماما مجددا بها ولكن المسلسل نفسه لم يقدم أي مادة سرية لم يسبق نشرها. وكتب معلقا بهذا الشأن ما يلي: إن منتجي المسلسل قدموا في ساعات مشاهدة الذروة التلفزيونية ما كان معروفا حتى اليوم فقط لمن اهتموا بالدراسة والقراءة والبحث. فمصادر المسلسل هي مصادر أرشيفية مكشوفة لكل من يريد البحث منذ ما يزيد عن عشرين سنة. لم يتم اخفاء أي شيء عن أعين الجمهور. البروتوكولات الخاصة بإدارة الوكالة اليهودية من سنوات الخمسينيات كشفت قبل نحو عشرين سنة على الأقل.
ريغف تحاول دفع المسؤولية عنها وعن المؤسسة
كتبت أورلي نوي في موقع "سيحاه ميكوميت" مطلع هذا الشهر أن وزيرة الثقافة ميري ريغف لعبت دوراً مزدوجاً في هذا الشأن. وتكتب: هناك الكثير من الاصدقاء والصديقات الشرقيين الذين ينشرون بانفعال خطاب ميري ريغف في أعقاب عرض المسلسل. وعلى الرغم من ان الكاتبة تتفهم هذا، كما تقول، يجب الانتباه إلى أن ريغف لديها حسابات سياسية وراء هذا الخطاب. ففيلم درعي سعى إلى كشف جذور قمع الشرقيين في بدايات الدولة من اجل البحث النقدي للوضع الشرقي اليهودي. ولكن ريغف تنتمي إلى مؤسسة احتلت الحكم على ظهر الضغينة التي يحملها الضحايا ضد النّخب التي قامت باستيعاب الشرقيين. وهذه المؤسسة التي تنتمي إليها ريغف عملت القليل جدا، اذا كان هناك ما يمكن الاشارة اليه أصلا، من اجل اصلاح المظالم. وهذا يشمل الوزيرة نفسها. وفيلم درعي لا يتعاطى مع الشخوص بل مع المنظومة والمؤسسة والتي تشكل ريغف اليوم جزءا منها.
وتقول الكاتبة إن ريغف تحاول دفع المسؤولية عنها وعن المؤسسة التي تنتمي إليها لأنه من السهل إبقاء القضية مرهونة ومتعلقة فقط بالآباء الروحيين لليسار الأشكنازي الذي تكرهه ريغف وزملاؤها. ولكنها تتحداها قائلة: انها تملك قوة كبيرة في حزب مناهض للقضايا الاجتماعية ويرتبط بأصحاب رؤوس الأموال على حساب المصالح العامة، لذلك فإن ريغف تلعب عمليا دورا مزدوجاً.
وتقول نوي انه من المهم في سياق الربط بين القضية الشرقية والقضية الطبقية القول ان الهوية الشرقية ليست فقرا وقمعا اقتصاديا فقط، بل انها امكانية سياسية ايضا. ريغف تكثر من الكلام عن الدفء الشرقي، روائح الأطباق والطبخ والسذاجة. وهذا فعل صبياني ومحو للهوية الشرقية كإمكانية سياسية تتحدى المنظومة التي تنتقدها ريغف نفسها في خطابها. ولكنها، تقول الكاتبة، تقوم بمحو تمرد وادي الصليب مثلا الذي كان أحد مطالبه إلغاء الحكم العسكري عن المواطنين العرب. وتقوم بإلغاء حركة "الفهود السود" وتعاونهم مع الحزب الشيوعي وحركة متسبين وكل اليهود الناشطين في اليسار ومن فهموا المشروع الشرقي بشكل أوسع بكثير من روائح الطبخ والدفء والسذاجة.. بل انه امكانية ثقافية وسياسية تسعى إلى ربط إسرائيل بالفضاء الذي تتواجد فيه. أما مشروع ريغف طبعا فهو النقيض التام بهذا المعنى. وذلك لأن ريغف حين تتحدث عن ضرورة التطرق للحقائق ومعرفة القصة الحقيقية، وحين تتباكى على محو لغة اهلها وتصوّت بنفس الوقت على إلغاء اللغة العربية كلغة رسمية، فان معنى هذا انها تريد تقديم حقائق جزئية فقط للأجيال القادمة. إن كشف الحقيقة عن جذور القمع الشرقي وكل الأشكال المتواصلة حتى اليوم مهمة جدا، ولكن ليس ريغف من يمكن أن تكون رافعة لواء هذا الخطاب حتى لو ألقت خطابا قويا في هذا السياق.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, هآرتس, هشومير, الوكالة اليهودية, دورا, متسبين, الفهود السود