لا تفوّت وزيرة الثقافة (والرياضة) الإسرائيلية الحالية، ميري ريغف، أكثر من سابقتها ليمور ليفنات (!)، أية فرصة للانقضاض على المؤسسات الثقافية المختلفة التي تنظم نشاطات وفعاليات فنية أو ثقافية لا تتماثل مع مواقفها وآرائها السياسية المتطرفة أو التي تحاول أن تنشط، ثقافيا، خارج ما تعتبره الوزيرة "إجماعا قوميا" مُلزما للجميع!
وهي، وإن لم تنجح حتى الآن في أية من محاولاتها لمحاصرة هذه المؤسسات والتضييق عليها ماديا، بما تمتلكه من نصوص قانونية وقوة سياسية ومن صلاحيات رسمية، حقيقية أو متوهمة، إلا أن الأثر الذي لا يمكن التغاضي عنه هو الأخطر ـ وهو فرض أجواء ترهيبية تخويفية فوق هذه المؤسسات الثقافية المختلفة وفوق رؤوس القيمين عليها والفاعلين في إطارها، بما قد ينشر ما يصفه بعض المعنيين في المجال بـ"الردع الذاتي" أو "الرقابة الذاتية" الصارمة.
فقد عادت الوزيرة ميري ريغف وتراجعت، هذه المرة أيضا، عن موقفها الذي كانت أعلنته سابقا بشأن الطلب من وزير المالية، موشي كحلون، فرض غرامة مالية على "سينماتك تل أبيب" على خلفية تنظيمه واحتضانه مهرجانا سينمائيا عن النكبة والعودة بعنوان (48 ملم).
وبررت ريغف تراجعها هذا، في البيان الذي أصدرته وزارتها إلى وسائل الإعلام يوم 8 كانون الأول الجاري، بالقول إن لجنة الفحص التي شكلتها الوزيرة للنظر في ما إذا كانت أفلام المهرجان تشكل مخالفة للمادة رقم 3 ب من قانون الميزانية (المعروف باسم "قانون النكبة"، كما سنفصل لاحقا) أقرّت بأن "هذه الأيام تشمل، فعلا، مضامين تشويهية وتشهيرية، لكنها (المضامين) لا تصل حدّ تشكيل مخالفة لقانون الميزانية"!
وحاول بيان الوزارة تبرير القرار بتشكيل "لجنة الفحص" بأن "شكاوى عديدة وصلت إلى الوزارة تتعلق بمضامين الأفلام التي تعرض ضمن المهرجان"، مما دفع الوزيرة إلى تشكيل "لجنة فحص مهنية" (من أعضاء "مجلس الرقابة على الأفلام والمسرحيات"، التابع للوزارة نفسها) لتقوم بمشاهدة الأفلام وإعداد رأي مهني بشأنها، وذلك "في إطار إجراء داخلي يرمي إلى فحص ما إذا كان هنالك خرق لقانون الميزانية يستدعي توجه وزارة الثقافة إلى وزارة المالية لاتخاذ الإجراءات المناسبة"!
وكانت ريغف أعلنت، قبل ذلك، أنها "تسلمت شكاوى عديدة تشير إلى أن في مضامين الأفلام ما يشكل خرقا لقانون الميزانية ويتضمن تحريضا على دولة إسرائيل ومسا بها"! وهو ما يستدعي اتخاذ إجراءات، طبقا للمادة رقم 3 ب من القانون المذكور، والذي يخوّل وزير المالية صلاحية فرض غرامة مالية على أية مؤسسة تصرف أموالا لتمويل "أي إنتاج (فني أو ثقافي) يحض على التحريض، العنصرية أو تأييد الكفاح المسلح ضد دولة إسرائيل".
وردا على إعلان الوزيرة هذا، توجهت "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل" إلى المستشار القانوني للحكومة، يهودا فاينشتاين، وطالبته بإصدار تعليماته إلى وزيرة الثقافة، ريغف، بوقف إجراء الفحص المذكور "نظرا لانعدام أي داع لمثل هذا الفحص". وضمنت الجمعية رسالتها تلك انتقادات حادة لسلسلة من التهديدات صدرت عن الوزيرة ريغف نفسها ضد مؤسسات ثقافية مختلفة، خلال الأشهر الأخيرة، بحرمانها من مخصصات الدعم المالي الحكومي. وأكدت الرسالة: "يبدو أن الوزيرة لا تميز بين آرائها ومواقفها السياسية وبين منصبها الوزاري"!
واعترضت "جمعية حقوق المواطن"، أيضا، على إلقاء مهمة "فحص الأفلام" كما حددتها الوزيرة على أعضاء "مجلس الرقابة على الأفلام والمسرحيات"، نظرا لأن "صلاحية هؤلاء الأعضاء القانونية، كما ينص عليها أمر الأفلام من العام 1927، محددة ومحدودة وتنحصر في المصادقة على عرض أفلام سينمائية أو فرض قيود على عرضها، فقط، وهم ليسوا مخولين، ولا مؤهلين، لتحديد ما إذا كان الفيلم السينمائي يتضمن تحريضا على العنف أو على العنصرية، ولذلك فإن هذا الفحص ـ كما طلبته الوزيرة ـ يتجاوز صلاحياتهم"!
لكن الجمعية عادت و"استدركت"، فأضافت بسخرية لاذعة: "بتفكير ثان، يبدو أنه ليس هنالك من هم أكثر ملاءمة من أعضاء مجلس الرقابة لإجراء هذا الفحص، إذ إن هدفه الوحيد هو فرض رقابة على الأفلام المعروضة"!
وأكدت الجمعية أن هذا الفحص، بصرف النظر عن النتيجة التي سيتوصل إليها، "قد سبب ضرراً جسيماً، بما بثه من رسالة تهديدية تخويفية ضد كل من يجرؤ على ملامسة مسائل خلافية ولا تتساوق مع مواقف الوزيرة السياسية"!
وذكّرت رسالة الجمعية بأن الوزيرة ريغف "ومنذ تسلمها منصبها هذا تشن حملة ترهيب وتخويف ضد مؤسسات ثقافية مختلفة في البلاد بحرمانها من الميزانيات: مسرح "الميدان" في حيفا، على خلفية عرض مسرحية "الزمن الموازي"، و"مسرح المينا" في يافا على خلفية إعلان أحد مؤسسيه، الممثل نورمان عيسى، رفضه المشاركة في عروض في الضفة الغربية المحتلة، وغيرهما".
المستشار القانوني: لا صلاحية لوزيرة الثقافة!
وردا على رسالة جمعية حقوق المواطن هذه، وجهت نائبة المستشار القانوني للحكومة، المحامية دانا زيلبر، رسالة جوابية أوضحت فيها أنه ليس من صلاحية وزيرة الثقافة إجراء مثل هذا الفحص، كما ذكر آنفا، كما أن ليس من صلاحيتها إجراء أي تقليص في الميزانية المخصصة للسينماتيك.
وأوضحت رسالة نائبة المستشار الإجراء القانوني الرسمي الذي يمكن بموجبه تقليص مخصصات الدعم المالي لأية مؤسسة ثقافية بجريرة "التحريض على العنف، التحريض على العنصرية أو تأييد عمل مسلح ضد دولة إسرائيل"، فقالت إن "الإجراء القانوني الرسمي الوحيد المتاح هو تشكيل طاقم خاص من قبل وزير المالية، وليس وزيرة الثقافة، بحيث يضم ممثلين عن وزارة المالية، وزارة العدل ووزارة الثقافة. أما مجلس الرقابة على الأفلام والمسرحيات فلا يستوفي شروط طاقم الفحص طبقا لهذا الإجراء"!
كما أوضحت نائبة المستشار في رسالتها، أيضا، أن "الخصم من الميزانية (ميزانية الدعم) لا يجوز أن يتم مسبقاً. فإذا ما تقرر أن ثمة مسوغاً قانونيا لتقليص المخصصات، وفقا لقانون الميزانية، فإن بالإمكان إجراؤه (التقليص) لاحقا فقط، وبعد الحصول على رأي مهني من المستشار القانوني لوزارة المالية بشأن توفر مثل هذا المسوغ"!
والمسوّغ القانوني المقصود هنا هو ما يتضمنه البند 3 ب من "قانون أسس الميزانية"، والمعروف باسم "قانون النكبة" الذي سنه الكنيست الإسرائيلي يوم 22 آذار من العام 2011. ويقضي هذا القانون بتخويل وزير المالية صلاحية تقليص / إلغاء ميزانيات دعم تقدمها الحكومة لأية مؤسسة تقام فيها نشاطات "يُفهم منها إنكار وجود إسرائيل كدولة للشعب اليهودي أو إنكار طابعها الديمقراطي"، كما يمنع تمويل نشاطات "تتضمن تأييدا للكفاح المسلح أو لأعمال إرهابية ضد دولة إسرائيل، مساً بعلم الدولة أو بأي من رموزها"!
ويذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها سينماتيك تل أبيب لهذه الهجمة على خلفية تنظيم "مهرجان أفلام النكبة". فقد حاولت وزيرة الثقافة السابقة، ليمور ليفنات، أيضا، اتخاذ إجراءات عقابية كهذه، إذ توجهت آنذاك إلى وزارة المالية وطلبت منها فحص إمكانية إلغاء الدعم المالي الحكومي لسينماتيك تل أبيب على الخلفية ذاتها مدّعيةً بأن "سينماتيك، بتنظيمه هذا المهرجان، يخالف القانون ويدعم نشاطا يعتبر يوم استقلال إسرائيل يوم حداد"!
واعتبرت المديرة العامة لجمعية "ذاكرات"، ليئات روزنبرغ، أن محاولات وزيرتي الثقافة، الحالية والسابقة، هي جزء من محاولات عديدة سوف تستمر مستقبلا أيضا بهدف "إقصاء موضوع النكبة وحق العودة عن جدول الأعمال العام في إسرائيل"! وأضافت: "لو لم يكن الموضوع مؤلما للغاية وقاسيا إلى أقصى الحدود لكان بالإمكان اعتبار محاولة الوزيرة هذه تصرفا تافها"، ثم قالت: "بدلا من محاولات إسكات الموضوع وإخفائه، أدعو الوزيرة وزملاءها الآخرين إلى الحضور ومشاهدة الأفلام ومحاولة الإصغاء إلى عمق الأصوات الصادرة منها"!
مهرجان أفلام النكبة
"مهرجان أفلام النكبة واللاجئين"، الذي أقيم هذا العام في الأسبوع الأول من شهر كانون الأول الجاري (بين 4 و6 منه) هو مهرجان سينمائي دولي يحمل عنوان "مهرجان الأفلام الدولي 48 ملم" بادرت إليه وتنظمه جمعية "ذاكرات" (زوخروت)، بالتعاون مع "سينماتيك تل أبيب".
وهذه هي السنة الثالثة على التوالي التي يقام فيها هذا المهرجان، إذ أقيم للمرة الأولى في شهر تشرين الثاني من العام 2013. وهو يشمل، عادة، عروضا حصرية وخاصة لأفلام محلية وعالمية تعالج النكبة الفلسطينية وعودة اللاجئين الفلسطينيين.
وإلى جانب الأفلام التي تعرض لأول مرة، شمل برنامج المهرجان هذه السنة، أيضا، أفلاما قصيرة جديدة تم إنتاجها خصيصا للمهرجان بمشاركة فنانين فلسطينيين وإسرائيليين "يحاولون مواجهة الماضي والبحث عن حل سياسي وإنساني للظلم والمعاناة المتواصلين ويرسمون طريقا لتحمل المسؤولية وإصلاح الغبن"، كما جاء في بيان "ذاكرات".
ويتطلع المهرجان إلى تحدي الواقع المرّ بطرق إبداعية، مؤكدا على أن فكرة تنظيمه تتقصد عرض ِأفلام "غيابها عن صالات العرض الإسرائيلية ليس صدفة ولا عرضياً، بل هو دلالة إضافية على إقصاء الثقافة الفلسطينية ومحوها عن الأجندة اليومية المحلية". وأكد المدير الفني للمهرجان، إلياهو زيغدون، أن برنامج المهرجان يشمل أفلاما سينمائية "لولا هذا المهرجان لما أتيحت للمشاهد الإسرائيلي أية فرصة أخرى لمشاهدتها".
ويتزامن المهرجان، سنويا، مع الذكرى السنوية لقرار تقسيم فلسطين (29 تشرين الثاني 1947)، وهو "القرار الذي كرّس فكرة التقسيم والفصل بين اليهود والفلسطينيين في هذه البلاد ويشكل مفترقا مركزيا في النزاع المتواصل وفي تحويل مئات آلاف الفلسطينيين إلى لاجئين"، كما أكد بيان "ذاكرات"، وأضاف: "67 عاما مرت منذ بدء النكبة الفلسطينية في العام 1948 و48 سنة مرت منذ الاحتلال في العام 1967. وإن غياب/ حضور هذين الحدثين التاريخيين المؤسِّسين يشكل أحد أهم العناصر التي تبلور هوية المجتمع الإسرائيلي وواقع حياتنا حتى اليوم. ولذا، فإن معالجة الجوانب الأخرى والمسكوت عنها في هذين الحدثين وفي تجسيداتها اليومية في أرض الواقع تشكل محاولة لعرض قراءة أخرى، عبر إنتاجات سينمائية متنوعة، لواقع اللجوء الفلسطيني والحياة الفلسطينية في المناطق الفلسطينية وفي الشتات".
يذكر أن جمعية "ذاكرات" تأسست في العام 2002 وتضع نصب عينيها العمل من أجل "الدفع نحو تحمل الجمهور الإسرائيلي مسؤوليته عن النكبة الفلسطينية وعن تحقيق حق عودة اللاجئين الفلسطينيين". وفي هذا الإطار، تسعى "ذاكرات" إلى "إحداث تغيير في الوعي، السياسي والثقافي، لدى الجمهور اليهودي في إسرائيل بغية خلق الظروف المناسبة لعودة اللاجئين الفلسطينيين وللحياة المشتركة في البلاد. والتركيز على الجمهور اليهودي مشتق من مسؤوليته العملية والأخلاقية عن اللجوء الفلسطيني، كما من موقع القوة والامتياز الذي يتمتع به في واقع النظام الحالي".