بقلم: أهارون دافيد كوبرمان (*)
يعتبر سبب اندلاع الأزمة الأخيرة في منطقة القوقاز أوسع وأعمق بكثير من مجرد اهتمام روسيا بسلامة سكان أوسيتيا الجنوبية، وهم أقلية عرقية غير روسية. فالسبب الحقيقي الذي حدا بالروس لغزو جورجيا يكمن في تصادم مصالح بين روسيا والغرب في أربع جبهات مختلفة، تجلت كافتها في الأزمة الراهنة. صحيح أن روسيا إجتاحت جورجيا، غير أن موسكو أملت في أن يُسمع صدى إجتياحها العسكري لمدينتي "غوري" و"بوتي" ليس فقط في تبيليسي (عاصمة جورجيا) وكييف (عاصمة أوكرانيا) وإنما أيضاً في بروكسل وواشنطن.
هذا المقال يسعى إلى تحري الأسباب العميقة لإندلاع الأزمة آخذا في الحسبان سياقها الجيو- سياسي إضافة إلى البعد الزمني.
في السنوات الأخيرة احتدمت صراعات قوة بين الولايات المتحدة ودول الغرب من جهة وبين روسيا من جهة أخرى وذلك في عدد من الجبهات، أمسك المعسكر الغربي بزمام المبادرة في معظمها بل ونجح أحياناً في تحقيق بعض النجاحات وأقله على المدى القصير. في آب الماضي، وعقب غزو القوات الجورجية لأوسيتيا الجنوبية، أُتيحت لروسيا الفرصة لأخذ زمام المبادرة وبالتالي تحقيق بعض المكاسب والنجاحات في تلك الجبهات ذاتها، وما غزو روسيا لجورجيا إلاّ معركة واحدة في الحرب الأشمل والأوسع في خضم تصادم المصالح المحتدم بين الطرفين.
جبهة أولى: عدم المراعاة الكافية للمصالح الروسية في الساحة الدولية
يمكن أن تشكل "حالة كوسوفو" مثالاً على تصادم المصالح بين الغرب وروسيا في هذه الجبهة. فمنذ عدة سنوات يطالب سكان كوسوفو، وهي إقليم ألباني إنفصالي في صربيا، بالاستقلال. روسيا، المتحالفة مع صربيا، عارضت بشدة منح استقلال لكوسوفو، لخشيتها من أن الاعتراف الدولي باستقلال هذا الإقليم الإثني الانفصالي سيشكل سابقة لما يمكن أن يحدث في أقاليم ومقاطعات إثنية انفصالية داخل حدودها الاتحادية، مثل الشيشان. غير أن دولاً غربية بارزة، بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، قررت لأسباب مختلفة، تجاهل المصالح الروسية والاعتراف باستقلال إقليم كوسوفو فور إعلانه في شباط 2008. الرئيس الروسي الحالي، ميدفيديف، صرح في حينه أن استقلال كوسوفو "سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار والأمن في أوروبا وأنه سيحرق أوروبا بأكملها".
يبدو أنه أتيحت لروسيا في آب 2008 الفرصة لإثبات صحة إدعائها ولجباية ثمن من الغرب والولايات المتحدة عن تجاهلهما للمصلحة الروسية. لقد أيدت روسيا دائماً في الحقيقة إعطاء حكم ذاتي لأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ولكن توقيت غزوها لجورجيا أبعد من أن يكون عفوياً. استخدام القوة الروسية، ومن ثم الإعتراف باستقلال هذين الإقليمين، وسط التجاهل التام لمواقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، يشكلان رداً من جانب الروس على إدارة ظهر الغرب للمصالح الروسية في قضية إقليم كوسوفو، وهو ما أكده الرئيس الروسي صراحة في 27 آب، بعد يوم واحد من اعتراف روسيا باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
جبهة ثانية- الصراع المتجدد بين الشرق والغرب
تشعر الولايات المتحدة وقسم من دول أوروبا بالقلق من حملة تسلح إيران وتقدم برنامجها النووي. في أعقاب ذلك بحثت الولايات المتحدة مع بولندا وتشيكيا، حليفتيها الإستراتيجيتين في وسط أوروبا، إمكان نصب منظومات دفاعية على أراضي هذين البلدين لمواجهة تهديد إيراني محتمل. ومن أجل تبديد مخاوف الجانب الروسي إقترحت الولايات المتحدة أن تسمح بولندا لمراقبين روس الإطلاع بشكل دائم على هذه المنظومات لكن البولنديين رفضوا هذا الاقتراح. من جهتها تقول روسيا إن موقع نصب هذه المنظومات الدفاعية يثير الشكوك بشأن النوايا الحقيقية للولايات المتحدة وشريكاتها.
ويعتقد الروس أن إصرار الولايات المتحدة على إبقاء روسيا "خارج الصورة" فيما يتعلق بالقرار حول موقع نصب المنظومات الدفاعية من جهة، والإصرار على نصبها بالذات في "الباحة الخلفية" لروسيا من جهة أخرى، يشيران إلى أن الحديث يدور على عودة الولايات المتحدة إلى ما يشبه عصر سباق التسلح بين الشرق والغرب. في نيسان 2008 صرح وزير الخارجية الروسي بأن نصب المنظومات الدفاعية في بولندا وتشيكيا من دون تقديم ضمانات كافية لروسيا سيؤدي بهذه إلى الرد بوسائل "عسكرية تكنولوجية". من هنا فإن الهجوم العسكري الروسي على جورجيا يمكن أن يفسر كتلويح روسي للولايات المتحدة وأوروبا بشأن قدرة القوة العظمى سابقاً على العودة لاستخدام قوتها العسكرية باتجاه الغرب حتى في القرن الـ 21.
جبهة ثالثة- موطئ قدم غربي في مناطق نفوذ "تقليدية" لروسيا
ترى الولايات المتحدة في الشراكة مع ديمقراطيات جديدة في أوروبا الشرقية ووسط آسيا، هدفاً إستراتيجيا مهماً، ولذا فهي تعمل من أجل تقوية الأنظمة الديمقراطية التي تتزعم تلك الدول من خلال دعم وتعزيز جيوشها واقتصادها. هذا النشاط الأميركي لا ينظر له بعين الرضا على الأقل من جانب القيادة الروسية، فروسيا غير معنية بقيام أنظمة ديمقراطية ذات سمات غربية مناوئة لها في محيطها المباشر وفي المناطق التي كانت تخضع تاريخياً لنفوذها. فضلاً عن ذلك فإن روسيا تنظر بعين الشك إلى تمدد حلف الناتو العسكري شرقاً وانتشاره على حدودها.
إن ضم دول في وسط أوروبا مثل بولندا، هنغاريا، تشيكيا، وفيما بعد دول في شرق أوروبا مجاورة لروسيا، مثل أستونيا ولاتفيا، إلى حلف الناتو، ينظر إليه في موسكو كتهديد كامن لأمن روسيا. وكتحصيل حاصل فإن تأييد ودعم الولايات المتحدة لتوطيد أنظمة غربية مناوئة لروسيا في جورجيا وأوكرانيا المجاورتين وضمهما إلى حلف الناتو يشكل في نظر الروس تجاوزاً لخط أحمر آخر. وقد صرح نائب وزير الخارجية الروسي بأن انضمام هاتين الدولتين إلى منظمة ناتو سيشكل "خطأ إستراتيجياً شنيعاً له انعكاسات خطيرة على أمن القارة الأوروبية بأكملها". وزير الخارجية الروسي لافروف أضاف قائلاً إن انضمام جورجيا وأوكرانيا للحلف سيؤدي إلى تدهور في علاقات روسيا مع الدولتين.
وقد جاء الاجتياح العسكري الروسي الأخير لجورجيا بذريعة حماية السكان المحليين في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا ليبرهن كم هو مصيري في نظر روسيا بقاء جورجيا وأوكرانيا تحت وصايتها وأن لا تتحولا إلى التحالف عسكرياً مع الولايات المتحدة وشريكاتها الأوروبيات. فمن شأن الحرب الأخيرة، هكذا يأملون على الأقل في موسكو، أن تبين للغرب إلى أي حد لا يجدر "اللعب بالنار"، بكل ما للكلمة من معنى، في "الباحة الخلفية" لروسيا وإلى أي مدى هو مهم لهذه الأخيرة أن تحافظ على نفوذها وتفوقها الإستراتيجي في محيطها وجوارها المباشرين.
جبهة رابعة- أولوية روسيا كمزود للطاقة
تعتبر روسيا إحدى أكبر الدول المصدرة للنفط والغاز الطبيعي في العالم. علاوة على ذلك، بما أنه لا يوجد لدول آسيا الوسطى، الغنية بالموارد، إتصال مباشر بالبحر الأسود وأوروبا، فإنها تبيع انتاجها من الغاز الطبيعي لروسيا بنصف الثمن، والتي تقوم بدورها ببيعه بثمن كامل لأوروبا. بمعنى أن الأرباح التي تجنيها روسيا من بيع موارد الطاقة إلى أوروبا لا تعتمد فقط على مواردها، وإنما أيضاً على موارد تقوم بنقلها من آسيا الوسطى إلى أوروبا. وبطبيعة الحال فإن أوروبا معنية بتقليص تبعيتها المتزايدة لروسيا ولذلك فهي تعمل من أجل إيجاد طرق بديلة لاستيراد الغاز والنفط من آسيا الوسطى. والبديل الأكثر جدوى هو استيراده عن طريق جورجيا، وهي الدولة الوحيدة عدا روسيا، التي تمتلك إتصالاً برياً سواء مع آسيا الوسطى (عن طريق أذربيجان وبحر قزوين) أو مع دول الاتحاد الأوروبي (عبر البحر الأسود). في السنوات الأخيرة، تم تدشين أنبوبين تصدر جورجيا عبرهما النفط إلى أوروبا وذلك عن طريق مينائها في البحر الأسود وعن طريق ميناء تركيا في البحر المتوسط. ما يجدر ذكره هنا هو أن الأنبوب المار عبر جورجيا إلى البحر الأسود يمر بالقرب من المدينتين الجورجيتين، غوري وبوتي (مدينة الميناء) اللتين احتلتهما القوات الروسية في غزوها لهذه الدولة. لكن ما يقلق الروس حقاً هو خطط الغرب وجورجيا لكسر الإحتكار الورسي في تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا، بواسطة إنشاء أنبوب في بحر قزوين يربط بين مستودعات الغاز في آسيا الوسطى (كازاخستان، تركمانيا وأوزبكستان) وبين أذربيجان ومن هناك عبر جورجيا إلى أوروبا. هذا في حين أن لروسيا مصلحة من الدرجة الأولى في بقاء تبعية أوروبا لها في توريد الطاقة وأن لا يقوم بديل لها قابل للحياة.
وتسعى روسيا من خلال غزوها لجورجيا، للتلويح بأنها لن تسمح لبديل من هذا لنوع بالتبلور. فزعزعة استقرار النظام في جورجيا ووجود تأثير روسي حاسم على أوسيتيا الجنوبية، القريبة من مسار الأنابيب المقترحة، وعلى أبخازيا مع مينائها الإستراتيجي على البحر الأسود، كل ذلك سيمكن روسيا من تدعيم وتعزيز إحتكارها كمُصَدِّر وحيد لموارد الطاقة من الطرف الشرقي للعالم إلى جنوبه.
تلخيص
إن الأزمة الحالية في القوقاز هي نتاج تصادم مصالح بين روسيا والغرب والولايات المتحدة في عدة جبهات، وعدم المراعاة الكافية للمصالح الروسية في الساحة الدولية، والصراع المتجدد بين الشرق والغرب الذي يحاول التسلل إلى "مناطق نفوذ" روسية وكسر احتكار الطاقة الروسي. ويحيل ذلك إلى الاستنتاج بأن محاولة حل الأزمة في القوقاز من خلال المقاربة الموضعية لمكانة الإقليمين الإنفصاليين في جورجيا سيخطئ الهدف ولن يشكل معالجة ملائمة للجذور الحقيقية للمشكلة. إن أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا ما هما إلا أعراض في صورة رحبة أكثر، والتي تؤشر إلى أزمة ثقة في علاقات الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص مع روسيا كما تشير إلى عدم تفهم واحترام للمصالح المتبادلة للأطراف المختلفة.
توجد على أجندة الولايات المتحدة والغرب من جهة، وعلى أجندة روسيا من جهة أخرى، مواضيع كثيرة ومتنوعة أهم من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. التعاون والحوار المثمر بين الجانبين يمكن أن يتحقق إذن فقط من خلال فهم مجمل المصالح المتبادلة، وفهم كيف يمكن تحقيق المصالح الأكثر أهمية.
______________________________________
(*) باحث في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، هذا التقرير يستند إلى أقوال وردت في أثناء لقاء داخلي في المعهد وشارك فيه الباحثان يعقوب كدمي ود. برندا شيفر.